إن سنة الله في نصر المؤمنين أهل الحق على مخالفيهم أهل الباطل ، هذه السنة الإلهية إنما تتحقق في واقع الناس إذا هيأ المؤمنون في أنفسهم وفي جمعهم عوامل النصر التي أرشد إليها الإسلام وأمر بها الله تعالى ، وأبعدوا عن أنفسهم وعن جمعهم عوامل الفشل ومعوقات النصر.
فما هي عوامل النصر الواجب على المؤمنين تحصيلها وما هي معوقات النصر الواجب عليهم إبعادها عن أنفسهم وجمعهم ؟ هذا ما نبينه في الفقرات التالية مبتدئين أولاً بعوامل النصر.
أولاً : الإيمان :
من عوامل النصر التي مضت بها سنة الله في النصر وأخبرنا بها الله جل جلاله الإيمان. قال تعالى وهو أصدق القائلين : (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) ، قال صاحب تفسير المنار في هذه الآية : (وهي نص في تعليل النصر بالإيمان) ، وقال الآلوسي : (وظاهر الآية أن هذا النصر في الدنيا وأنه عام لجميع المؤمنين فيشمل من بعد الرسل من الأمة).
وقال تعالى : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) ، أي من كان الله في نصره لم تغلبه فئة وإن كثرت.
ومن الواضح أن هذه (المعية الإلهية) للمؤمنين هي معية خاصة بهم ولهم بسبب إيمانهم ، فهي تتناسب مع مقدار إيمانهم وعمقه ومدى انصباغهم وتأثرهم به. ولا شك أن الصحابة الكرام المخاطبين بهذه الآية بوصف (المؤمنين) وأن (الله معهم) كان لهم النصيب الأكبر من هذه المعية الخاصة لأهل الإيمان لما عرفوا به من عمق الإيمان وسعته وانصباغهم وتأثرهم به، ولذلك تحقق لهم النصر على قلة عددهم وكثرة عدد أعدائهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته. ( فمعية الله) للمؤمنين بالعون والتأييد ثم بالنصر تتناسب طردياً مع كمية الإيمان وعمقه في نفوس المؤمنين.
واقع المسلمين لا ينقض سنة الله في نصر المؤمنين :
إن سنة الله في نصر المؤمنين المقررة بإخبار الله وإعلامنا بها في القرآن الكريم هي سنة مؤكدة يقيناً لا يخامرنا فيها ذرة من الشك ، ولا تنتقض أو تتزعزع بما يرى من واقع المسلمين في كونهم مغلوبين لا غالبين ومقهورين من قبل أعدائهم غير منصورين عليهم ، لأن هذه السنة هي في ( نصر المؤمنين) والمؤمنون هم من يكونون مؤمنين بأوصاف ومقاييس ومعاني الإيمان التي بينها الله تعالى في كتابه العزيز وبينها رسول صلى الله عليه وسلم في سنته النبوية الكريمة المطهرة، لا أن يكونوا مؤمنين بمقاييسهم وتخيلاتهم وأمانيهم ، فعدم انتصارهم على أهل الباطل يعني أن الإيمان المطلوب منهم وما يستلزمه هذا الإيمان ويقتضيه من صفات وأفعال غير متحقق فيهم ، وبالتالي لا يستحقون نصر الله الموعود به للمؤمنين. فعليهم أن يراجعوا أنفسهم ويعرضوها ويعرضوا أحوالهم وأفعالهم وما هم عليه على معاني الإيمان ومقتضياته ويزنوها بميزانه ليعرفوا الخلل الذي هم فيه ، والنقص الموجود فيهم فيقوموا بالتصحيح والتقويم وتدارك ما فاتهم وتحقيق معاني الإيمان في نفوسهم وثمرات هذا الإيمان في خارج نفوسهم حتى يدخلوا في مضمون سنة الله تعالى في نصر المؤمنين وفي متعلق إخباره تعالى وكان حقاً علينا نصر المؤمنين).
الإيمان وعوامل النصر المادية :
وليكن معلوماً أن الإيمان وحده لا يغني عن عوامل النصر المادية مثل عدد القتال وعدد المقاتلين وغيرهما من وسائل القتال ومستلزماته وكذلك وسائل النصر المادية في غير ساحة القتال أي في سوح الجهاد الأخرى ومدافعة الباطل في هذه السوح.
ولهذا أمرنا الله تعالى بإعداد القوة المادية ، قال تعالى : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل …) ، لأن الإسلام دين واقعي لا يغفل عما في العوامل المادية من قوة وهو يقرر ما للإيمان من قوة ومن سببية في النصر. ولكن هذه القوة للإيمان أو هذه السببية فيه للنصر لها حد محدود بينه الله تعالى حتى لا نغالي في الأمور ، وحتى نعطي لكل شيء حقه من التقييم والتقدير من دون مغالاة فلا تقع في الوهم والخطأ في الحساب والتقدير فنخسر ولا ننتصر على عدونا.
ويدل على ما قلته قوله تعالى : (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون. الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين) ، وجه الاستدلال بالآية الأولى أن الله تعالى أخبر المؤمنين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أن عشرين صابرين منهم يغلبون مائتين من الكافرين، وهذا قبل التخفيف ولم يقل عز وجل أن العشرين من المؤمنين الصابرين يغلبون ألفين ، لأن المؤمنين الصابرين وإن كان لإيمانهم قوة وهي أقوى من قوة الكفر في نفوس الكافرين ، إلا أن هذه القوة الإيمانية لها حد محدود في غلبة الكفر والكافرين ، فقد جعل الله قوة الإيمان تصير المؤمن الواحد أقوى من عشرة من الكفار فيغلب العشرون من المؤمنين المائتين من الكافرين.
أما إذا كان الكفار ألفاً فليس في وعد الله وإخباره أن العشرين من المؤمنين يغلبون الكفار وهم ألف ، بل إنها تشير بأن عدد المؤمنين في هذه الحالة لا يكفي – عادة – إلى نصرهم. ومعنى ذلك أن للقوة المادية – ومنها عدد المقاتلين – وزنها وتأثيرها غير المنكور وأن على المؤمنين والأمة عموماً والجماعة المسلمة ملاحظة ذلك وفتح عيونهم عليه وأخذ العبرة منه وأن يحسبوا حساباً دقيقاً وقوة أعدائهم بحيث تكون قوتهم مساوية أو مقاربة لقوة عدوهم فيرجح عندئذ المؤمنون بقوة إيمانهم على الكفار فتكون الغلبة للمؤمنين بإذن الله.
للقوة المادية تأثيرها في النفوس :
وليكن معلوماً أن للقوة المادية – ومنها كثرة أهل الحق أو أهل الباطل – تأثيراً في النفوس ، نفوس المؤمنين والكافرين على حد سواء ، ومن هذا التأثير الإحساس بزيادة القوة لدى الفريق الذي يرى أنه أكثر قوة مادية من الفريق الآخر فيتصرف ضد خصمه في ضوء هذا الإحساس والشعور ، كأن يرى المؤمنون الكافرين أقل عدداً منهم مما يجرئهم على قتال الكفار والهجوم عليهم ، بعزم وثبات وصبر وثقة بالنصر ، ومثل كثرة المقاتلين وقلتهم فيما يورثانه من إحساس بزيادة أو قلة بالقوة ، سائر القوى المادية الأخرى كنوع السلاح وكثرته. وهذه الحقيقة التي ذكرتها تدعو للمؤمنين أفراداً وأمماً وجماعات لا سيما الجماعة المسلمة ، أن يكونوا أقوى من أعدائهم في القوى المادية في هذا العصر الذي تنوعت فيه القوى المادية ولم تعد محصورة في نوع واحد منها.
وقد دل على تأثير القوة المادية في نفوس المقاتلين المؤمنين والكافرين قوله تعالى : (إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور. وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً وإلى الله ترجع الأمور).
وجاء في تفسير هاتين الآيتين أن الله تعالى أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه عدد الكفار قليلاً قبيل بدء القتال في معركة بدر ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أصحابه فكان ذلك الإخبار تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم. وبين الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه (لو أراكهم كثيراً) أي لو أراك عدد الكفار كثيراً (لفشلتم) أي لأصاب المؤمنين جبن ووهن وهيبة من الإقدام والهجوم على الكفار (ولتنازعتم) أي ولحصل نزاع واختلاف بين المؤمنين وتفرق كلمتهم فيما يصنعونه من مقاتلتهم أو الانصراف عنهم وعدم مقاتلتهم. ثم بين الله تعالى أنه أرى المؤمنين عند لقائهم بالعدو أراهم إياهم قليلاً تصديقاً لرؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدوا ويثبتوا في قتالهم (ويقللكم في أعينهم) أي يقلل المؤمنين في أعين الكفار مما يجرئهم على الاندفاع في مقاتلة المؤمنين مع قلة مبالاة بهم فتفجؤهم كثرة المؤمنين التي لم يتوقعوها ولم يروها بأعينهم فيقع القتل فيهم وينتصر المؤمنون عليهم.
ووجه الدلالة بهاتين الآيتين وما جاء في تفسيرهما أن القوة المادية – وهي هنا كثرة عدد المقاتلين أو قلتهم – لها تأثيرها في النفوس من جهة الاندفاع في القتال والشجاعة فيه وفي نتيجته من نصر أو خذلان. لأنه إذا رأى هذا الفريق قلة عدد خصمه فهذا يجرئه على الاندفاع إلى قتاله ويزيد في ثباته ويزداد أمله في التغلب عليه بخلاف ما إذا رأى كثرة عدد خصمه فهذا قد يحمله على التردد في قتاله والصمود فيه إذا باشره. ومثل القوة بعدد المقاتلين من حيث كثرتهم وقلتهم وتأثير ذلك على النحو الذي بيناه ، القوة بالسلاح ونوعيته وكثرته وقلته ، والقوة بسائر مستلزمات القتال والتدافع بين أهل الحق وأهل الباطل في ساحة القتال وفي غيرها من سوح الجهاد.
ثانياً : من عوامل النصر تقوى الله :
قال تعالى : (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين. بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين).
وجاء في تفسيرهما: والظاهر في المدد أن الملائكة يشركون الجيش في القتال إن وقعت الحاجة إليهم ، ويجوز أن لا تقع الحاجة إليهم في نفس القتال ، وأن يكون مجرد حضورهم كافياً في تقوي القلب. وجعل مجيء خمسة آلاف من الملائكة مشروطاً بثلاثة أشياء : الصبر والتقوى ومجيء الكفار على الفور.
فمدد الملائكة المؤمنين كان بسبب تقواهم ، لأن صبرهم من جملة تقواهم ، لأن التقوى كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى : (التقوى تجمع فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه) ، والصبر من جملة ما أمر الله به ، ثم إن مدد الملائكة للمؤمنين لتحقيق نصرهم على الكفار ، فكانت التقوى – تقوى الله – من العوامل المؤكدة لنصر المؤمنين حسب سنة الله تعالى.
وصية عمر لجنده بتقوى الله :
وفي وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسعد بن أبي وقاص وجنده في حرب العراق ، جاء في الوصية : ( فإني آمرك ومن معك من أجناد بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم. وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله ، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة ، والا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أنه عليكم في مسيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم ، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله ، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا وإن أسأنا ، فرب قوم سلط عليهم شر منهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله ، كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعد الله مفعولاً. واسألوا الله العون في أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم. أسال الله ذلك لنا ولكم).
ثالثاً : من عوامل النصر نصرة الدين :
ومن عوامل النصر التي جعلها الله تعالى في سنته في نصر المؤمنين وهم يدافعون الباطل وأهله ، قيامهم بنصر الدين ، الإسلام ، بكل ما أوتوا من قوة ، قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم).
وجاء في تفسيرها : إن تنصروا الله ، أي تنصروا دين الله ورسوله ينصركم على عدوكم ويفتح لكم ويثبت أقدامكم في مواطن الحرب أو على محجة الإسلام. وقال الإمام الرازي في تفسيره : وفي نصر الله تعالى وجوه (الأول) إن تنصروا دين الله وطريقة. (والثاني) إن تنصروا حزب الله وفريقه.
ونصرة دين الله تتحقق بأن يسلم المسلم نفسه بالكلية لله رب العالمين ، فلا يبقى فيه شيء خارج عن الاستسلام المطلق والانقياد التام لله رب العالمين. ويظهر هذا الخضوع والاستسلام بالاستسلام الكامل لشرع الله تعالى ، وهذا في نفسه وما ينطوي عليه قلبه وتقوم به جوارحه ثم تظهر النصرة لدين الله بجهاد المسلم الدائم لإقامة شرع الله في الأرض بحيث يكون هذا الشرع هو المهيمن والحاكم لجميع العلاقات بين الناس فلا يتحاكمون إلا إليه ولا يقبلون إلا إياه.
ومسألة أخرى مهمة جداً فيما تتحقق به النصرة لله تعالى وهي التي أشار إليها الرازي في أحد وجوه نصرة الله حيث قال رحمه الله : (إن تنصروا حزب الله وطريقه) ، ومن المعلوم أن حزب الله هو الذي يقوم بنصرة الله أي بنصرة دينه أي بإقامة شرع الله في الأرض. ولا شك أن بانضمام جهود المؤمنين بعضهم إلى بعض لإقامة شرع الله وبالتناصر فيما بينهم على هذا المقصد الشريف تتحقق منهم لنصرة لدين الله بشكل أسرع وأكمل مما لو قاموا بالنصرة لدين الله وهم فرادى ومتفرقون ، وبهذا يتحقق منهم ما شرطه الله عليهم لينالوا ما وعدهم الله به من نصرة. وعلى هذا فبمقدار ما يقوم به المؤمنون من نصرة لدين الله وجهاد في سبيله وإعداد لوسائل الجهاد ونصرة الدين يتحقق لهم النصر حسب سنة الله التي وضعها لنصر المؤمنين.
وآية أخرى في نصرة الدين كعامل من عوامل سنة الله في نصر المؤمنين هي قوله تعالى : (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز). قال الإمام الرازي في هذه الآية : وعد الله بالنصر لمن هذه حاله. وقال الزمخشري فيها : لينصرن الله من ينصر دينه وأولياءه. وقد بينا كيفية قيام المسلم بنصرة الله وذلك بأن يبذل جهده في إقامة دين الله في الأرض فيكون هو الحاكم على جميع تصرفات وأفعال وعلاقات البشر.
فما هي عوامل النصر الواجب على المؤمنين تحصيلها وما هي معوقات النصر الواجب عليهم إبعادها عن أنفسهم وجمعهم ؟ هذا ما نبينه في الفقرات التالية مبتدئين أولاً بعوامل النصر.
أولاً : الإيمان :
من عوامل النصر التي مضت بها سنة الله في النصر وأخبرنا بها الله جل جلاله الإيمان. قال تعالى وهو أصدق القائلين : (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) ، قال صاحب تفسير المنار في هذه الآية : (وهي نص في تعليل النصر بالإيمان) ، وقال الآلوسي : (وظاهر الآية أن هذا النصر في الدنيا وأنه عام لجميع المؤمنين فيشمل من بعد الرسل من الأمة).
وقال تعالى : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) ، أي من كان الله في نصره لم تغلبه فئة وإن كثرت.
ومن الواضح أن هذه (المعية الإلهية) للمؤمنين هي معية خاصة بهم ولهم بسبب إيمانهم ، فهي تتناسب مع مقدار إيمانهم وعمقه ومدى انصباغهم وتأثرهم به. ولا شك أن الصحابة الكرام المخاطبين بهذه الآية بوصف (المؤمنين) وأن (الله معهم) كان لهم النصيب الأكبر من هذه المعية الخاصة لأهل الإيمان لما عرفوا به من عمق الإيمان وسعته وانصباغهم وتأثرهم به، ولذلك تحقق لهم النصر على قلة عددهم وكثرة عدد أعدائهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته. ( فمعية الله) للمؤمنين بالعون والتأييد ثم بالنصر تتناسب طردياً مع كمية الإيمان وعمقه في نفوس المؤمنين.
واقع المسلمين لا ينقض سنة الله في نصر المؤمنين :
إن سنة الله في نصر المؤمنين المقررة بإخبار الله وإعلامنا بها في القرآن الكريم هي سنة مؤكدة يقيناً لا يخامرنا فيها ذرة من الشك ، ولا تنتقض أو تتزعزع بما يرى من واقع المسلمين في كونهم مغلوبين لا غالبين ومقهورين من قبل أعدائهم غير منصورين عليهم ، لأن هذه السنة هي في ( نصر المؤمنين) والمؤمنون هم من يكونون مؤمنين بأوصاف ومقاييس ومعاني الإيمان التي بينها الله تعالى في كتابه العزيز وبينها رسول صلى الله عليه وسلم في سنته النبوية الكريمة المطهرة، لا أن يكونوا مؤمنين بمقاييسهم وتخيلاتهم وأمانيهم ، فعدم انتصارهم على أهل الباطل يعني أن الإيمان المطلوب منهم وما يستلزمه هذا الإيمان ويقتضيه من صفات وأفعال غير متحقق فيهم ، وبالتالي لا يستحقون نصر الله الموعود به للمؤمنين. فعليهم أن يراجعوا أنفسهم ويعرضوها ويعرضوا أحوالهم وأفعالهم وما هم عليه على معاني الإيمان ومقتضياته ويزنوها بميزانه ليعرفوا الخلل الذي هم فيه ، والنقص الموجود فيهم فيقوموا بالتصحيح والتقويم وتدارك ما فاتهم وتحقيق معاني الإيمان في نفوسهم وثمرات هذا الإيمان في خارج نفوسهم حتى يدخلوا في مضمون سنة الله تعالى في نصر المؤمنين وفي متعلق إخباره تعالى وكان حقاً علينا نصر المؤمنين).
الإيمان وعوامل النصر المادية :
وليكن معلوماً أن الإيمان وحده لا يغني عن عوامل النصر المادية مثل عدد القتال وعدد المقاتلين وغيرهما من وسائل القتال ومستلزماته وكذلك وسائل النصر المادية في غير ساحة القتال أي في سوح الجهاد الأخرى ومدافعة الباطل في هذه السوح.
ولهذا أمرنا الله تعالى بإعداد القوة المادية ، قال تعالى : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل …) ، لأن الإسلام دين واقعي لا يغفل عما في العوامل المادية من قوة وهو يقرر ما للإيمان من قوة ومن سببية في النصر. ولكن هذه القوة للإيمان أو هذه السببية فيه للنصر لها حد محدود بينه الله تعالى حتى لا نغالي في الأمور ، وحتى نعطي لكل شيء حقه من التقييم والتقدير من دون مغالاة فلا تقع في الوهم والخطأ في الحساب والتقدير فنخسر ولا ننتصر على عدونا.
ويدل على ما قلته قوله تعالى : (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون. الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين) ، وجه الاستدلال بالآية الأولى أن الله تعالى أخبر المؤمنين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أن عشرين صابرين منهم يغلبون مائتين من الكافرين، وهذا قبل التخفيف ولم يقل عز وجل أن العشرين من المؤمنين الصابرين يغلبون ألفين ، لأن المؤمنين الصابرين وإن كان لإيمانهم قوة وهي أقوى من قوة الكفر في نفوس الكافرين ، إلا أن هذه القوة الإيمانية لها حد محدود في غلبة الكفر والكافرين ، فقد جعل الله قوة الإيمان تصير المؤمن الواحد أقوى من عشرة من الكفار فيغلب العشرون من المؤمنين المائتين من الكافرين.
أما إذا كان الكفار ألفاً فليس في وعد الله وإخباره أن العشرين من المؤمنين يغلبون الكفار وهم ألف ، بل إنها تشير بأن عدد المؤمنين في هذه الحالة لا يكفي – عادة – إلى نصرهم. ومعنى ذلك أن للقوة المادية – ومنها عدد المقاتلين – وزنها وتأثيرها غير المنكور وأن على المؤمنين والأمة عموماً والجماعة المسلمة ملاحظة ذلك وفتح عيونهم عليه وأخذ العبرة منه وأن يحسبوا حساباً دقيقاً وقوة أعدائهم بحيث تكون قوتهم مساوية أو مقاربة لقوة عدوهم فيرجح عندئذ المؤمنون بقوة إيمانهم على الكفار فتكون الغلبة للمؤمنين بإذن الله.
للقوة المادية تأثيرها في النفوس :
وليكن معلوماً أن للقوة المادية – ومنها كثرة أهل الحق أو أهل الباطل – تأثيراً في النفوس ، نفوس المؤمنين والكافرين على حد سواء ، ومن هذا التأثير الإحساس بزيادة القوة لدى الفريق الذي يرى أنه أكثر قوة مادية من الفريق الآخر فيتصرف ضد خصمه في ضوء هذا الإحساس والشعور ، كأن يرى المؤمنون الكافرين أقل عدداً منهم مما يجرئهم على قتال الكفار والهجوم عليهم ، بعزم وثبات وصبر وثقة بالنصر ، ومثل كثرة المقاتلين وقلتهم فيما يورثانه من إحساس بزيادة أو قلة بالقوة ، سائر القوى المادية الأخرى كنوع السلاح وكثرته. وهذه الحقيقة التي ذكرتها تدعو للمؤمنين أفراداً وأمماً وجماعات لا سيما الجماعة المسلمة ، أن يكونوا أقوى من أعدائهم في القوى المادية في هذا العصر الذي تنوعت فيه القوى المادية ولم تعد محصورة في نوع واحد منها.
وقد دل على تأثير القوة المادية في نفوس المقاتلين المؤمنين والكافرين قوله تعالى : (إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور. وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً وإلى الله ترجع الأمور).
وجاء في تفسير هاتين الآيتين أن الله تعالى أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه عدد الكفار قليلاً قبيل بدء القتال في معركة بدر ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أصحابه فكان ذلك الإخبار تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم. وبين الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه (لو أراكهم كثيراً) أي لو أراك عدد الكفار كثيراً (لفشلتم) أي لأصاب المؤمنين جبن ووهن وهيبة من الإقدام والهجوم على الكفار (ولتنازعتم) أي ولحصل نزاع واختلاف بين المؤمنين وتفرق كلمتهم فيما يصنعونه من مقاتلتهم أو الانصراف عنهم وعدم مقاتلتهم. ثم بين الله تعالى أنه أرى المؤمنين عند لقائهم بالعدو أراهم إياهم قليلاً تصديقاً لرؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدوا ويثبتوا في قتالهم (ويقللكم في أعينهم) أي يقلل المؤمنين في أعين الكفار مما يجرئهم على الاندفاع في مقاتلة المؤمنين مع قلة مبالاة بهم فتفجؤهم كثرة المؤمنين التي لم يتوقعوها ولم يروها بأعينهم فيقع القتل فيهم وينتصر المؤمنون عليهم.
ووجه الدلالة بهاتين الآيتين وما جاء في تفسيرهما أن القوة المادية – وهي هنا كثرة عدد المقاتلين أو قلتهم – لها تأثيرها في النفوس من جهة الاندفاع في القتال والشجاعة فيه وفي نتيجته من نصر أو خذلان. لأنه إذا رأى هذا الفريق قلة عدد خصمه فهذا يجرئه على الاندفاع إلى قتاله ويزيد في ثباته ويزداد أمله في التغلب عليه بخلاف ما إذا رأى كثرة عدد خصمه فهذا قد يحمله على التردد في قتاله والصمود فيه إذا باشره. ومثل القوة بعدد المقاتلين من حيث كثرتهم وقلتهم وتأثير ذلك على النحو الذي بيناه ، القوة بالسلاح ونوعيته وكثرته وقلته ، والقوة بسائر مستلزمات القتال والتدافع بين أهل الحق وأهل الباطل في ساحة القتال وفي غيرها من سوح الجهاد.
ثانياً : من عوامل النصر تقوى الله :
قال تعالى : (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين. بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين).
وجاء في تفسيرهما: والظاهر في المدد أن الملائكة يشركون الجيش في القتال إن وقعت الحاجة إليهم ، ويجوز أن لا تقع الحاجة إليهم في نفس القتال ، وأن يكون مجرد حضورهم كافياً في تقوي القلب. وجعل مجيء خمسة آلاف من الملائكة مشروطاً بثلاثة أشياء : الصبر والتقوى ومجيء الكفار على الفور.
فمدد الملائكة المؤمنين كان بسبب تقواهم ، لأن صبرهم من جملة تقواهم ، لأن التقوى كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى : (التقوى تجمع فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه) ، والصبر من جملة ما أمر الله به ، ثم إن مدد الملائكة للمؤمنين لتحقيق نصرهم على الكفار ، فكانت التقوى – تقوى الله – من العوامل المؤكدة لنصر المؤمنين حسب سنة الله تعالى.
وصية عمر لجنده بتقوى الله :
وفي وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسعد بن أبي وقاص وجنده في حرب العراق ، جاء في الوصية : ( فإني آمرك ومن معك من أجناد بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم. وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله ، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة ، والا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أنه عليكم في مسيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم ، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله ، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا وإن أسأنا ، فرب قوم سلط عليهم شر منهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله ، كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعد الله مفعولاً. واسألوا الله العون في أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم. أسال الله ذلك لنا ولكم).
ثالثاً : من عوامل النصر نصرة الدين :
ومن عوامل النصر التي جعلها الله تعالى في سنته في نصر المؤمنين وهم يدافعون الباطل وأهله ، قيامهم بنصر الدين ، الإسلام ، بكل ما أوتوا من قوة ، قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم).
وجاء في تفسيرها : إن تنصروا الله ، أي تنصروا دين الله ورسوله ينصركم على عدوكم ويفتح لكم ويثبت أقدامكم في مواطن الحرب أو على محجة الإسلام. وقال الإمام الرازي في تفسيره : وفي نصر الله تعالى وجوه (الأول) إن تنصروا دين الله وطريقة. (والثاني) إن تنصروا حزب الله وفريقه.
ونصرة دين الله تتحقق بأن يسلم المسلم نفسه بالكلية لله رب العالمين ، فلا يبقى فيه شيء خارج عن الاستسلام المطلق والانقياد التام لله رب العالمين. ويظهر هذا الخضوع والاستسلام بالاستسلام الكامل لشرع الله تعالى ، وهذا في نفسه وما ينطوي عليه قلبه وتقوم به جوارحه ثم تظهر النصرة لدين الله بجهاد المسلم الدائم لإقامة شرع الله في الأرض بحيث يكون هذا الشرع هو المهيمن والحاكم لجميع العلاقات بين الناس فلا يتحاكمون إلا إليه ولا يقبلون إلا إياه.
ومسألة أخرى مهمة جداً فيما تتحقق به النصرة لله تعالى وهي التي أشار إليها الرازي في أحد وجوه نصرة الله حيث قال رحمه الله : (إن تنصروا حزب الله وطريقه) ، ومن المعلوم أن حزب الله هو الذي يقوم بنصرة الله أي بنصرة دينه أي بإقامة شرع الله في الأرض. ولا شك أن بانضمام جهود المؤمنين بعضهم إلى بعض لإقامة شرع الله وبالتناصر فيما بينهم على هذا المقصد الشريف تتحقق منهم لنصرة لدين الله بشكل أسرع وأكمل مما لو قاموا بالنصرة لدين الله وهم فرادى ومتفرقون ، وبهذا يتحقق منهم ما شرطه الله عليهم لينالوا ما وعدهم الله به من نصرة. وعلى هذا فبمقدار ما يقوم به المؤمنون من نصرة لدين الله وجهاد في سبيله وإعداد لوسائل الجهاد ونصرة الدين يتحقق لهم النصر حسب سنة الله التي وضعها لنصر المؤمنين.
وآية أخرى في نصرة الدين كعامل من عوامل سنة الله في نصر المؤمنين هي قوله تعالى : (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز). قال الإمام الرازي في هذه الآية : وعد الله بالنصر لمن هذه حاله. وقال الزمخشري فيها : لينصرن الله من ينصر دينه وأولياءه. وقد بينا كيفية قيام المسلم بنصرة الله وذلك بأن يبذل جهده في إقامة دين الله في الأرض فيكون هو الحاكم على جميع تصرفات وأفعال وعلاقات البشر.
تعليق