عرض لرواية (( 1984 ))
(( لن يكون هناك أي ولاء غير الولاء للحزب، ولن يكون هناك حب غير الحب للأخ الاكبر، ان كل ما يعتبره الحزب حقيقياً هو حقيقي ، ومن المستحيل ادراك الواقع دون النظر عبر عيون الحزب ، تلك هي الحقيقة التي يتعيّن عليك ان تتعلمها يا ونستون ، انها تستلزم فعلاً انتحارياً، تصميماً واعياً ، انّ عليك ان تهزم نفسك قبل ان يصبح بامكانك ان تكون سليم العقل )) . هذه هي صورة الحياة في العالم الذي تنبا اورويل بقيامه في المستقبل ، في روايته التي تحمل عنوان (( 1984 )) ، والتي نشرها ـ بعد سنوات من عمله في تاليفها ـ في عام 1948 ، راسما صورة بشعة للعالم كما سيكون عام 1984 ، وقد انقسم الى ثلاث قوى عظمى : اهمها واكبرها اوقيانيا او الولايات المتحدة الاميركية بعد ان ابتلعت كل ممتلكات الامبراطورية البريطانية ، واوراسيا التي هي روسيا بعد ان ضمت اليها كل اوروبا ، وقوة ثالثة اسمها اياستاسيا .. اما سكان افريقيا والشرق الاوسط والهند واندونيسيا فهم مجرد عبيد لاوقيانيا .. ثم ينتقل اورويل ـ في استعراض روائي عذب ـ الى الحديث عن اوقيانيا التي يحكمها حزب واحد ، وتضم حكومتها اربع وزارات رئيسية ، هي " وزارة الحقيقة " وتعنى بالاعلام والتعليم والفنون ، و" وزارة السلام " المتخصصة في شئون الحرب ، و" وزارة الوفرة " التي تهتم بالنواحي الاقتصادية ، و " وزارة الحب " ومهمتها تطبيق القانون وحفظ النظام !!
في اوقيانيا ، يقف على رأس الدولة والحزب رجل واحد يدعى " الاخ الاكبر " ، الذي تملأ صوره بشتى الاحجام كل مكان كما أن عيون الحزب وجواسيسه يملأون كل مكان ، حيث تتولى شرطة التفكير القاء القبض على الذين يشك في ولائهم للحزب والأخ الاكبر ، حتى اجهزة التلفزيون التي توجد في البيوت النوادي وقاعات الاجتماعات مزودة بكاميرا خفية تنقل فوراً إلى الاجهزة الامنية ما يمكن ان يصدر عن الناس ، فالشاشة تستلم وتبث في آن واحد وهي تلتقط كل صوت يتجاوز الهمس الواطيء جداً ، وترى كل ما يقع ضمن مدى رؤيتها .
اما الاطفال فقد كانوا يحولون بشكل منظم بواسطة منظمات كمنظمة « الرقباء» إلى متوحشين صغار صعبي المراس ، وكان من شأن هذه التربية ان تجرّدهم من أي ميل ـ أيا كان ـ للتمرد ضد انضباط الحزب ، بل انهم ـ وعلى العكس من ذلك تماماً ـ يتحولون إلى عبادة الحزب وكل ما يتصل به ، ان الاناشيد والمواكب والشعارات والرحلات والتدريب بالبنادق الدميوية والهتاف بالشعارات وعبادة الاخ الاكبر هي جميعاً نوع من الالعاب الرائعة بالنسبة لهم ، لقد توجهت كل ضراوتهم الطبيعية نحو الخارج : ضد اعداء النظام والاجانب ، والخونة ، ضد المخربين ومجرمي التفكير، وهكذا فان من النادر ان يمر اسبوع دون ان تخرج صحيفة التايمز بمقالة تصف كيف ان أحد صغار المتسللين ـ أو ما يُسمى عادة « بطل الاطفال » ـ قد استرق السمع لبعض التعليقات المشبوهة لوالديه وأبلغ عنها شرطة التفكير.
وفي تلك الدولة الدموية ، هناك ثلاثة شعارات تطالعك في كل مكان : الحرب سلام الحرية عبودية الجهل قوّة
هذا هو ونستون بطل الرواية يجلس في زاوية غرفته وقد ادار ظهره لشاشة التلفزيون ، وأخرج من جيبه قطعة ذات خمسة وعشرين سنتاً وعليها أيضاً نقشت بحروف واضحة بالغة الصغر نفس الشعارات الثلاثة ، فيما طبع على الوجه الآخر وجه الاخ الاكبر ، حتى في العملة ، كانت العينان ، « عينا الأخ الاكبر » تلاحقك : من على النقود والطوابع ، وأغلفة الكتب، الاعلام، البوسترات، وأغلفة علب السكائر ، وفي كل مكان ، كانت « عينا الأخ الاكبر » تراقبك وصوته يطوّقك على الدوام ولا سبيل للخلاص منه ، نائماً كنت ام مستيقظاً ، تعمل أو تتناول طعامك، داخل البيوت وخارجها ، في الحمّام أو في السرير ، لا شيء يخصك باستثناء بضعة سنتيمترات مربعة داخل جمجمتك .والنظام الحاكم اشتراكي ، ومبادؤه المقدسة هي : « تحولية الماضي » و« الكلام الحديث» و« الايمان المتناقض» .. تحولية الماضي يترجمها شعار حزبي يقول : (( من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل )) ، وعندما يقول بطل الرواية بأن الماضي موجود في السجلاّت وفي العقل وفي ذاكرة البشر، يقول له الشخص الذي يقوم بتعذيبه : (( في الذاكرة .. حسن جداً، نحن الحزب ، نسيطر على كل السجلات ، ونتحكم في الذاكرة البشرية .. اذن نحن « الحزب» نتحكّم بالماضي )) ، والتحكم بالماضي يتم من خلال " وزارة الحقيقة " التي تضم بنايتها ثلاثة آلاف غرفة ، وكان ونستون بطل الرواية احد العاملين فيها ، ووزارة الحقيقة تقوم على تغيير التاريخ ـ أي الماضي ـ باستمرار ، ففي العالم هناك دولتان اثنتان ـ اضافة الى دولة اوقيانيا ـ هما دولة اوراسيا ودولة اياستاسيا ، وحين تكون احداهما في حالة حرب مع اوقيانيا تكون الاخرى حليفة لاوقيانيا والعكس بالعكس ، إلاّ انّه لا يمضي عامان أو اربعة حتى تنعكس الامور فتصبح الحليفة عدوة والعدوة حليفة ، وهنا يقوم الحزب باستخراج كافة المطبوعات من كتب ومجلات وصحف وشعارات وقصائد وقصص ويغيّر الاسماء فيها حسب التطورات الجديدة ـ أي اعادة طبع تلك المطبوعات الموجودة في أرشيف الحزب مرة اخرى وعرضها على الجماهير بشكلها الجديد ـ يقول ونستون : (( اننا لا نعرف شيئاً تقريباً حول الثورة وسنوات ما قبل الثورة ، كل سجل قد اتلف ، وكل كتاب قد اعيدت كتابته ، وكل صورة قد اعيد رسمها ، وكل نصب أو شارع أو بناية قد اُعيدت تسميته ، وتلك عملية متواصلة يوماً بيوم ودقيقة بدقيقة ، لقد توقف التاريخ ، ولا شيء هناك غير حاضرغير متناه ، الحزب فيه على حق على الدوام ، أنا أعلم بالطبع ان الماضي مزوّر ، لكن لن يكون بوسعي أبداً أن اثبت ذلك حتى عندما أكون أنا من يقوم بهذا التزوير ، فبعد ان ينجز الامر لن يبقى ثمة دليل حوله ، الدليل الوحيد لا يوجد سوى في عقلي أنا، أنا لا أعلم بأي شكل من أشكال اليقين ان هناك انساناً آخر يشاركني ذكرياتي )) .
و« الكلام الحديث» هو اللغة التي كانت في الاصل فكرة " الاخ الاكبر " ، ثم تبناها الحزب وبدأ بطبع قاموس لها كانت طبعاته تتجدد دائما بحيث تختزل كلماته وتتناقص ، ولذا فالكلام الحديث هو اللغة الوحيدة في العالم التي تتناقص مفرداتها كل عام ، يقول احد المشرفين على الطبعة الحادية عشرة لهذا القاموس لونستون : (( نحن نضع اللغة في شكلها النهائي ، الشكل الذي ستأخذه عندما لا يتكلم احد بشيء غيره ، وعندما نكون قد انتهينا منه فإن على أناس مثلك ان يتعلموها برمتها من جديد )) ، فالهدف اذن من « الكلام الحديث » هو جعل الناس يفكرون بطريقة جديدة تتلاءم مع مقررات الحزب الحاكم، أي أن يفكروا كما يتكلمون هذا الكلام الذي صيغ من قاموس الحزب .
اما « الايمان المتناقض» فيلخّصه المؤلف بهذه الكلمات : (( أن تعلم ولا تعلم في الوقت ذاته ، وأن تكون مدركاً للمصداقية التامة فيما تعلن اكاذيباً منظمة بدقة ، وان تحتفظ في آن واحد باعتقادين باطلين وتؤمن بهما معاً ، مع علمك انهما متناقضان ، ان تستعمل المنطق ضد المنطق ، وأن تتبراً من الفضيلة فيما تدّعي لنفسك حق المطالبة بها، ان تعتقد ان الديمقراطية مستحيلة وأن الحزب هو حامي الديمقراطية ، ان تنسى كل ما يكون نسيانه ضرورياً ثم تسترجعه ثانية إلى الذاكرة في اللحظة التي تحتاجه فيها من دون ابطاء )) ، وقد ادى اسلوب « الايمان المتناقض» إلى ان يتحول اعضاء الحزب إلى مخلوقات تردد ببغائياً ما يطلب اليها في اللحظة الحاضرة ، فان طلب بعد لحظة واحدة بالهتاف بشيء متناقض بادر العضو الحزبي إلى فعل ذلك فوراً وهو في كلا الحالتين غير مؤمن بشيء .
عن الفتاة جوليا التي تربطها علاقة صداقة مع ونستون بطل الرواية وكلاهما عضو في الحزب، يقول اورويل : (( لقد صاحت مرات لا عدّ لها ـ في الاجتماعات الحزبية الحاشدة والتظاهرات العفوية ـ بأعلى صوتها ، مطالبة باعدام اُناس لم تكن قد سمعت ابداً بأسمائهم ، اُناس لم يكن لديها أدنى اعتقاد بجرائمهم المزعومة ، وأثناء المحاكمات العلنية ، كانت تحتل مكانها في مفارز عصبة الشباب التي تطوف الساحات منذ الصباح حتى المساء وهي تردد بين الحين والآخر : الموت للخونة ، وخلال برنامج « دقيقتان من الكراهية » ـ برنامج كان الحزب ينظمه لتوجيه الكراهية نحو اعدائه ـ كانت تبز الآخرين في الصياح بالاهانات نحو غولدشتاين ، بالرغم من انها لم يكن لديها إلاّ فكرة مبهمة عن من يكون غولدشتاين وأية تعاليم يمثل ، وغولدشتاين هذا الذي لا نعرف حتى نهاية الرواية هل هو انسان موجود فعلاً ام ان الحزب قد ابتكره ليجعل منه العدو الأوّل للدولة والحزب والأخ الاكبر، وليجعل كل من لا يرغب به من الناس حزبيين وغيرحزبيين متهمين بالاتصال به والتآمر معه ، غولدشتاين هذا كما يقول الحزب : (( كان يشتم الاخ الاكبر ويشجب دكتاتورية الحزب ويطالب بالسلام الفوري مع دولة اوراسيا ، ويدافع عن حرية الكلام وحرية الصحافة والاجتماع والتفكير وهو زعيم لشبكة سرية من المتآمرين للاطاحة بالحكومة تسمّى : الاخوية )) .
أمّا عن اقتصاد البلاد والخراب الذي كان يعمها حيث يعاني المواطنون من نقص في كل شيء حتى في اربطة الاحذية ، فيقول اورويل : (( لم يكن هناك ابداً ما يكفي لأن يؤكل ، لم يكن للمرء يوماً ملابس داخلية أو جوارب لا تملؤها الثقوب ، الاثاث بال متداع دائما ، القاعات قليلة التدفئة ، القطارات مكتظّة والمنازل متداعية ، الخبز مسمر اللون، والشاي شيء نادر، والقهوة رديئة المذاق، والسجائر غير كافية ، لاشيء رخيص ومتوفر باستثناء الجن الصناعي « نوع من الخمر الرديء» ، بينما كانت القهوة الجيدة والشكولاته والمساكن الفارهة والنظيفة والاحياء الراقية والتلفزيونات التي يمكن اطفاؤها ساعة يشاء المشاهد، والطعام الممتاز من امتيازات اعضاء الحزب الكبار والكادر المتقدم فيه ، ومع كل ذلك يستمر الاعلام الرسمي في الحديث عبر شاشات التلفزيون وصحيفة الحزب عن الرفاه والانجازات الهائلة على كافة الاصعدة وخاصة الاقتصادية والعسكرية التي تحققها القيادة الحكيمة للاخ الاكبر، حاكم البلاد .
وفي كل فترة كانت هناك مادة ضرورية ما تختفي وتعجز مخازن الحزب عن تجهيز الناس بها ، تارة تكون هذه المادة ازراراً وتارة اخرى صوف الرفو وثالثة اربطة الاحذية ، والآن هي شفرات الحلاقة ، رغم ان بإمكانك الحصول عليها على اية حال بالبحث عنها وبشيء من المكر في السوق الحرة .
تعليق