آداب طالب العلم في درسه وبرنامجه :
1- قال أبو عمر بن عبد البر ( ت 463هـ ) : " طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعدَيها ، ومن تعدَاها جملة فقد تعدَى سبيل السلف – رحمهم الله – ومن تعدَى سبيلهم عامداً ضلَ ، ومن تعدَاه مجتهداً زلَ . فأول العلم حفظ كتاب الله جل وعز ، وتفهمه ، وكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه معه ، ولا أقول إن حفظه كله فرض ، ولكن أقول إن ذلك واجب لازم على من أحب أن يكون عالماً ، ليس من باب الفرض " .
وقال الحافظ ابن جماعة ( ت 733هـ ) :
" يبتدىء أولاً بكتاب الله عزوجل فيتقنه حفظاً ، ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه ، فإنه أصل العلوم وأمها وأهمها " . وقال الخطيب البغدادي ( ت 463هـ ) : " ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عزوجل ، إذا كان أجل العلوم وأولاها بالسبق والتقديم " .
2- ثم يحفظ من كل فنِ مختصراً يجمع فيه بين طرفي الحديث وعلومه ، والفقه وأصوله ، والنحو والتصريف ، ولا يشغله ذلك عن مدارسة القرآن وتعهده وملازمته وِرد فيه أحاديث تزجر عنه " .
3- ثم يشتغل بشرح تلك المختصرات على المشايخ ، وليحذر من الاعتماد في ذلك على الكتب أبداً ، بل يعتمد في كل فن من هو أحسن تعليماً له ، وأكثر تحقيقاً فيه وتحصيلاً منه ، وأخبرهم بالكتاب الذي قرأه ، بعد مراعاة الصفات التي تقدم ذكرها من الصلاح ، والاستقامة ، وحسن المعتقد ، الورع ونحو ذلك .
4- وليأخذ من الحفظ والشرح ما يمكنه ويطيقه حاله من غير إكثار يُملَ ، ولا تقصير يُخلَ بجودة التحصيل .
قال الخطيب البغدادي : " ولا يأخذ الطالب نفسه بما لا يطيقه ، بل يقتصر على اليسير الذي يضبطه ويحكم حفظه ويتقنه " .
ثم ذكر بإسناده إلى إسماعيل بن علية قال : " كنت أسمع من أيوب خمسة أحاديث ، ولو حدثني بأكثر من ذلك ما أردت " .
وعن سفيان الثوري قال : " كنت آتي الأعمش ومنصوراً فأسمع أربعة أحاديث ، خمسة ، ثم أنصرف كراهة أن تكثر وتفلت " .
وفي ترجمة سفيان الثوري في الحلية لأبي نعيم الأصبهاني : عن زيد بن الحُباب قال: " سمعت الثوري وسأله شيخ عن حديث فأجابه ، ثم عن آخر فأجابه ، ثم عن ثالث فأجابه ، ثم سأله في الرابعة ، فقال : إنما كنت أقرأ على الشيوخ الحديثين والثلاثة ، لا أزيد حتى أعرف العلم والعمل بها . فألح الشيخ عليه فلم يجبه . فجلس الشيخ يبكي ، فقال له سفيان : يا هذا تريد ما أخذُته في أربعين سنة تأخذه أنت في يوم واحد ؟ " .
وعن شعبة أيضاً قال : " كنت آتي قتادة فأسأله عن حديثين ، فيحدثني ، ثم يقول : أزيدك ؟ فأقول : لا ، حتى أحفظها وأتقنها " .
وعن يونس بن يزيد قال : قال لي ابن شهاب : " يا يونس ، لا تكابر العلم ، فإن العلم أودية بأبها أخذت فيه قطع بك قبل أن تبلغه ، ولكن خذه مع الأيام والليالي. ولا تأخذ العلم جملةَ، فإن من رام أَخُذَه جملة ذهب عنه جملةَ ، ولكن الشيء مع الأيام والليالي " .
وعن عبد الرزاق عن معمر قال : سمعت الزهري يقول : " من طلب العلم جملة فاته جملة ، وإنما يدرك العلم حديث وحديثان " .
وعن أبي عمرو الأوزاعي قال : عرضنا على مالك (( الموطأ )) في أربعين يوماً ، فقال : كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يوماً ! قلماً تفقهون فيه " .
5- إذا شرح محفوظاته المختصرات وضبط ما فيها من الإشكاات والفوائد المهمات ، انتقل إلى بحث المبسوطات مع المطالعة الدائمة وتعليق ما يمر به ، أو يسمعه من الفوائد النفيسة والمسائل الدقيقة . ولا يستقل ُ فائدة يسمعها ، أو يتهاون بقاعدة يضبط بها ، بل يبادر إلى تعليقها وحفظها . ولتكن همته في طلب العلم عالية ، فلا يكتفي بقليل العلم مع إمكان كثيرة ، ولا يقتنع من إرث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بيسيره ، ويغتنم وقت فراغه ونشاطه ، وزمن عافيته ، وشرخ شبابه ، ونباهة خاطره ، وقلة شواغله قبل عوارض البطالة ، أو موانع الرياسة .
قال عمر رضي الله عنه : " تفقهوا قبل أن تسودوا " .
وقال الشافعي : " تفقه قبل أن ترأس ، فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه " .
6- أن يرغب بقية الطلبة في التحصيل ويدلهم على مظانه ويصرف عنهم الهموم المشغلة عنه ، ويهون عليهم مؤنته ويذاكرهم بما حصله من الفوائد والقواعد والضوابط ، وينصحهم في الدين ، فبذلك يستنير قلبه ، ويزكو عمله ، ومن بخل عليهم بعلمه لم يثبت لم يثمر ، ولا يفخر على بقية الطلبة أو يعجب بجوده ذهنه ، بل يحمد الله تعالى على ذلك ، ويستزيده منه بدوام شكره .
7- التكبير بسماع الحديث ، ولا يهمل الاشتغال به وبعلومه والنظر في إسناده ورجاله ومعاينه وأحكامه ، ويعتني بالصحيحين ، ثم السنن ، والموطأ ، والمسانيد ، وبقية كتب الحديث ، ويعتني بمعرفة صحيح الحديث ، وحسنه ، وضعيفه ، ومسنده ،ومرسله ، وسائر أنواعه ،فإنه أحد جناحي العالم بالشريعة ،والآخر هو القرآن ، ولا يكتفي بمجرد السماع ، بل يعتني بالدراية أشد من اعتنائه بالرواية .
قال الخطيب البغدادي : " من أول ما ينبغي أن يستعمله الطالب شدة الحرص على السماع ، والمسارعة إليه والملازمة للشيوخ ... " ثم قال : " ويبتدىء بسماع الأمهات من كتب أهل الأثر والأصول الجامعة للسنن ، وأحقها بالتقديم كتاب ( الجامع ) والمسند والصحيحان لمحمد بن إسماعيل البخاري ،ومسلم بن الحجاج النيسابوري ، ومما يتلو الصحيحين سنن أبي داود ، وأبي عبد الرحمن النسائي ، وأبي عيسى الترمذي ، وكتاب محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري، الذي شرط فيه على نفسه إخراج ما اتصل سنده بنقل العدل عن العدل إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم كتب المسانيد الكبار ، كمسند الإمام أبي عبدالله أحمد بن حنبل ، وأبي يعقوب إسحاق بن راهويه ، ومسند أبي بكر بن أبي شيبة ، وعبد بن حميد الكشي وغيرهما ... " إلى أن قال : " وأما موطأ الإمام مالك بن أنس فهو المقدم في هذا النوع ، وجب أن يبتدىء بذكره على كتاب غيره ، ثم الكتب المتعلقة بعلل الحديث ، منها : كتاب أحمد بن حنبل ، وعلي بن المديني ، وأبي حاتم الرازي ، وأبي علي الحافظ النيسابوري ، وأبي الحسن الدارقطني ، وكتاب ( التمييز ) لمسلم بن الحجاج . ثم تواريخ المحدثين وكلامهم في أحوال الرواة ، مثل كتاب ابن معين ، الذي يرويه عنه عباس الدوري ، وكتاب خليفة بن خياط العصفري ، ويعقوب بن سفيان الفسوي ، وأبي خيثمة النسائي ، وأبي زرعة الدمشقي ، وحنبل بن إسحاق الشيباني ، ومحمد بن إسحاق النيسابوري ، وكتاب ( الجرح والتعديل ) لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ، ويربي على هذه الكتب كلها ( تاريخ محمد بن إسماعيل البخاري ) فإذا أحرز صدراً مما ذكرناه فلا عليه أن يشتغل بالسماع والكتب للفوائد المنثورة غير المدونة المجموعة ، يعمد إلى استيعابها دون انتخابها ) اهـ . ملخصاً .
وقال الحافظ ابن عبد البر : " واعلم ـ رحمك الله ـ أن طلب العلم في زماننا هذا ، وفي بلدنا قد حاد أهله عن طريق سلفهم وسلكوا في ذلك ما لم يعرفه أئمتهم ، وابتدعوا في ذلك ما بان جهلهم وتقصيرهم عن مراتب العلماء قبلهم . فطائفة منهم تروي الحديث وتسمعه ، قد رضيت بالدؤوب في جمع مالا تفهم ، وقنعت بالجهل في حمل ما لا تعلم ، فجمعوا الغث والسمين ، والصحيح والسقيم ، والحق الكذب في كتاب واحد ، وربما في ورقة واحدة . ويدينون بالشيء وضده ، ولا يعرفون ما في ذلك عليهم . قد شغلوا أنفسهم بالاستكثار من التدبر والاعتبار ، فألسنتهم تروي العلم ، وقلوبهم قد خلت من الفهم ، غاية أحدهم معرفة الكتب الغريبة ، والاسم الغريب ، والحديث المنكر . وتجده قد جهل مالا يكاد يسمع أحداً جهله من علم صلاته وحجه ، وصيامه ، وزكاته . وطائفة هي في الجهل كتلك أو أشد ، لم يعنوا بحفظ سنة ولا الوقف على معانيها ، ولا بأصل من القرآن ولا اعتنوا بكتاب الله عز وجل ، فحفظوا تنزيله ، ولا عرفوا ما للعلماء في تأويله ، ولا وقفوا على أحكامه ، ولا تفقهوا في حلاله وحرامه ، قد اطرحوا علم السنن والآثار ، وزهدوا فيها ، وأضربوا عنها فلم يعرفوا الاجتماع من الاختلاف ، ولا فرقوا بين التنازع والائتلاف ، بل عولوا على حفظ مادون لهم من الرأي والاستحسان الذي كان عند العلماء آخر العلم والبيان ، وكان الأئمة يبكون على ما سلف وسبق لهم من الفتوى فيه ، ويودُّن أن حظهم السلامة فيه ..." اهـ . مختصراً .
وعن عبد الله بن وهب عن مالك بن أنس قال : " إن العلم ليس بكثرة الرواية ، إنما العلم نور يجعله الله في القلب " .
وقال الخطيب البغدادي : " العلم هو الفهم والدراية، وليس بالإكثار والتوسع في الرواية " .
وقال أيضاً : " وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية لا حفظ رواية ، فإن رواة العلوم كثير ، ورعاتها قليل . ورب حاضر كالغائب ، إذ كان في اطَّراحه لحكمة بمنزلة الذاهب عن معرفته وروى بإسناده إلى الحسن البصري ( ت 110هـ ) رحمه الله ـ قال: " تعلموا ما شئتم أن تعلموا ، فلن يجازيكم الله على العلم حتى تعلموا ، فإن السفهاء همتهم الرواية ، وإن العلماء همتهم الرعاية " .
وقال أبو عمر يوسف بن عبد البر ( ت 463هـ ) : " ... أما طلب الحديث على ما يطلبه كثير من أهل عصرنا اليوم دون تفقه فيه ولا تدبر لمعانيه ، فمكروه عند جماعة من أهل العلم " .
وقال أيضاً : " الذي عليه جماعة فقهاء المسلمين وعلمائهم ذم الإكثار دون تفقه ولا تدبر، والمكثر لا يأمن مواقعة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لروايته عمن يؤمن وعمن لا يؤمن " ثم ذكر بإسناده إلى ابن شبرمة قال : " أقلل الرواية وتفقه " .
وقال الحافظ ابن القيم ( ت 751 هـ ) : " صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده ، ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ، ولا أجل منهما ، بل هما ساقا الإسلام ، وقيامه عليهما ، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم ، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم ، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم ، وهم أهل الصراط المستقيم الذي أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة . وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد ، يميز به بين الصحيح والفاسد ،والحق والباطل ..،
ويمده حسن القصد وتحري الحق وتقوى الرب في السر والعلانية ، ويقطع مادته إتباع الهوى وإيثار الدنيا ، وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى))
8- ينبغي أن يتذاكر مع زملائه ما وقع في مجلس الشيخ من الفوائد والقواعد والضوابط وغير ذلك ، وأن يعيدوا ما سمعوه بينهم ، فإن في المذاكرة نفعاً عظيماً .
قال الخطيب البغدادي : " وأفضل المذاكرة مذاكرة الليل ، وكان جماعة من السلف يبدؤون في المذاكرة من العشاء فربما لم يقوموا حتى يسمعوا أذان الصبح " .
" فإن لم يجد الطالب من يذاكره ذاكر نفسه بنفسه ، وكرر معنى ما سمعه ولفظه على قلبه اللفظ على لسان سواء بسواء ، وقل ما يفلح من يقتصر على حضور الفكر والعقل في مجلس الشيخ خاصة، ثم يتركه ويقوم ولا يعاوده بالمذاكرة " .
وقال رحمه الله : " وإذا لم يجد الطالب من يذاكره ، أدام ذكر الحديث مع نفسه وكرره على قلبه " .
ومما ورد عن السلف في المذاكرة وبيان أهميتها ما يأتي :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فنسمع منه الحديث ، فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه " .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : " تزاوروا وتدارسوا الحديث ، ولا تتركوه يدرس " .
وعن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " إذا سمعتم مني حديثاً فتذاكروه بينكم " .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : " تحدثوا وتذاكروا ، فإن الحديث يذكر بعضه بعضاً " .
وعن ابن أبي ليلى عن عطاء قال : " كنا نكون عند جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فيحدثنا ، فإذا خرجنا من عنده تذاكرنا حديثه " قال : " فكان أبو الزبير أحفظنا للحديث " .
قال أبو هريرة رضي الله عنه : " جزأت الليل ثلاثة أجزاء : ثلثاً أصلي ، وثلثاً أنام ، وثلثا أذاكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وعن ابن جرير : " كان عمرو بن دينار يجزى الليل ثلاثة أجزاء :ثلثاً ينام ، وثلثاً يصلي ، وثلثاً يذاكر فيه الحديث " .
وقال عبد الله بن المعتز : " من أكثر مذاكرة العلماء لم ينس ما علم ، واستفاد ما لم يعلم " .
وعن عبد العزيز بن أبي حازم قال : قال لي أبي : " كان الناس فيما مضى من الزمان الأول إذا لقي الرجل من هو أعلم منه قال : اليوم يوم غنمي ، فيتعلم منه ، وإذا لقي من هو مثله قال : اليوم يوم مذاكرتي فيذاكره ، وإذا لقي من هو دونه علمه لم يزه عليه " قال : " حتى صار هذا الزمان ، فصار الرجل يعيب من فوقه ابتغاء أن ينقطع منه حتى لا يرى الناس أن له إليه حاجة ، وإذا لقي من هو مثله لم يذاكره ، فهلك الناس عند ذلك " .
بقلم:د0محمد بن مطر الزهراني - رحمه الله تعالى.
المرجع:كتاب (من هدي السلف في طلب العلم)
1- قال أبو عمر بن عبد البر ( ت 463هـ ) : " طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعدَيها ، ومن تعدَاها جملة فقد تعدَى سبيل السلف – رحمهم الله – ومن تعدَى سبيلهم عامداً ضلَ ، ومن تعدَاه مجتهداً زلَ . فأول العلم حفظ كتاب الله جل وعز ، وتفهمه ، وكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه معه ، ولا أقول إن حفظه كله فرض ، ولكن أقول إن ذلك واجب لازم على من أحب أن يكون عالماً ، ليس من باب الفرض " .
وقال الحافظ ابن جماعة ( ت 733هـ ) :
" يبتدىء أولاً بكتاب الله عزوجل فيتقنه حفظاً ، ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه ، فإنه أصل العلوم وأمها وأهمها " . وقال الخطيب البغدادي ( ت 463هـ ) : " ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عزوجل ، إذا كان أجل العلوم وأولاها بالسبق والتقديم " .
2- ثم يحفظ من كل فنِ مختصراً يجمع فيه بين طرفي الحديث وعلومه ، والفقه وأصوله ، والنحو والتصريف ، ولا يشغله ذلك عن مدارسة القرآن وتعهده وملازمته وِرد فيه أحاديث تزجر عنه " .
3- ثم يشتغل بشرح تلك المختصرات على المشايخ ، وليحذر من الاعتماد في ذلك على الكتب أبداً ، بل يعتمد في كل فن من هو أحسن تعليماً له ، وأكثر تحقيقاً فيه وتحصيلاً منه ، وأخبرهم بالكتاب الذي قرأه ، بعد مراعاة الصفات التي تقدم ذكرها من الصلاح ، والاستقامة ، وحسن المعتقد ، الورع ونحو ذلك .
4- وليأخذ من الحفظ والشرح ما يمكنه ويطيقه حاله من غير إكثار يُملَ ، ولا تقصير يُخلَ بجودة التحصيل .
قال الخطيب البغدادي : " ولا يأخذ الطالب نفسه بما لا يطيقه ، بل يقتصر على اليسير الذي يضبطه ويحكم حفظه ويتقنه " .
ثم ذكر بإسناده إلى إسماعيل بن علية قال : " كنت أسمع من أيوب خمسة أحاديث ، ولو حدثني بأكثر من ذلك ما أردت " .
وعن سفيان الثوري قال : " كنت آتي الأعمش ومنصوراً فأسمع أربعة أحاديث ، خمسة ، ثم أنصرف كراهة أن تكثر وتفلت " .
وفي ترجمة سفيان الثوري في الحلية لأبي نعيم الأصبهاني : عن زيد بن الحُباب قال: " سمعت الثوري وسأله شيخ عن حديث فأجابه ، ثم عن آخر فأجابه ، ثم عن ثالث فأجابه ، ثم سأله في الرابعة ، فقال : إنما كنت أقرأ على الشيوخ الحديثين والثلاثة ، لا أزيد حتى أعرف العلم والعمل بها . فألح الشيخ عليه فلم يجبه . فجلس الشيخ يبكي ، فقال له سفيان : يا هذا تريد ما أخذُته في أربعين سنة تأخذه أنت في يوم واحد ؟ " .
وعن شعبة أيضاً قال : " كنت آتي قتادة فأسأله عن حديثين ، فيحدثني ، ثم يقول : أزيدك ؟ فأقول : لا ، حتى أحفظها وأتقنها " .
وعن يونس بن يزيد قال : قال لي ابن شهاب : " يا يونس ، لا تكابر العلم ، فإن العلم أودية بأبها أخذت فيه قطع بك قبل أن تبلغه ، ولكن خذه مع الأيام والليالي. ولا تأخذ العلم جملةَ، فإن من رام أَخُذَه جملة ذهب عنه جملةَ ، ولكن الشيء مع الأيام والليالي " .
وعن عبد الرزاق عن معمر قال : سمعت الزهري يقول : " من طلب العلم جملة فاته جملة ، وإنما يدرك العلم حديث وحديثان " .
وعن أبي عمرو الأوزاعي قال : عرضنا على مالك (( الموطأ )) في أربعين يوماً ، فقال : كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يوماً ! قلماً تفقهون فيه " .
5- إذا شرح محفوظاته المختصرات وضبط ما فيها من الإشكاات والفوائد المهمات ، انتقل إلى بحث المبسوطات مع المطالعة الدائمة وتعليق ما يمر به ، أو يسمعه من الفوائد النفيسة والمسائل الدقيقة . ولا يستقل ُ فائدة يسمعها ، أو يتهاون بقاعدة يضبط بها ، بل يبادر إلى تعليقها وحفظها . ولتكن همته في طلب العلم عالية ، فلا يكتفي بقليل العلم مع إمكان كثيرة ، ولا يقتنع من إرث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بيسيره ، ويغتنم وقت فراغه ونشاطه ، وزمن عافيته ، وشرخ شبابه ، ونباهة خاطره ، وقلة شواغله قبل عوارض البطالة ، أو موانع الرياسة .
قال عمر رضي الله عنه : " تفقهوا قبل أن تسودوا " .
وقال الشافعي : " تفقه قبل أن ترأس ، فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه " .
6- أن يرغب بقية الطلبة في التحصيل ويدلهم على مظانه ويصرف عنهم الهموم المشغلة عنه ، ويهون عليهم مؤنته ويذاكرهم بما حصله من الفوائد والقواعد والضوابط ، وينصحهم في الدين ، فبذلك يستنير قلبه ، ويزكو عمله ، ومن بخل عليهم بعلمه لم يثبت لم يثمر ، ولا يفخر على بقية الطلبة أو يعجب بجوده ذهنه ، بل يحمد الله تعالى على ذلك ، ويستزيده منه بدوام شكره .
7- التكبير بسماع الحديث ، ولا يهمل الاشتغال به وبعلومه والنظر في إسناده ورجاله ومعاينه وأحكامه ، ويعتني بالصحيحين ، ثم السنن ، والموطأ ، والمسانيد ، وبقية كتب الحديث ، ويعتني بمعرفة صحيح الحديث ، وحسنه ، وضعيفه ، ومسنده ،ومرسله ، وسائر أنواعه ،فإنه أحد جناحي العالم بالشريعة ،والآخر هو القرآن ، ولا يكتفي بمجرد السماع ، بل يعتني بالدراية أشد من اعتنائه بالرواية .
قال الخطيب البغدادي : " من أول ما ينبغي أن يستعمله الطالب شدة الحرص على السماع ، والمسارعة إليه والملازمة للشيوخ ... " ثم قال : " ويبتدىء بسماع الأمهات من كتب أهل الأثر والأصول الجامعة للسنن ، وأحقها بالتقديم كتاب ( الجامع ) والمسند والصحيحان لمحمد بن إسماعيل البخاري ،ومسلم بن الحجاج النيسابوري ، ومما يتلو الصحيحين سنن أبي داود ، وأبي عبد الرحمن النسائي ، وأبي عيسى الترمذي ، وكتاب محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري، الذي شرط فيه على نفسه إخراج ما اتصل سنده بنقل العدل عن العدل إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم كتب المسانيد الكبار ، كمسند الإمام أبي عبدالله أحمد بن حنبل ، وأبي يعقوب إسحاق بن راهويه ، ومسند أبي بكر بن أبي شيبة ، وعبد بن حميد الكشي وغيرهما ... " إلى أن قال : " وأما موطأ الإمام مالك بن أنس فهو المقدم في هذا النوع ، وجب أن يبتدىء بذكره على كتاب غيره ، ثم الكتب المتعلقة بعلل الحديث ، منها : كتاب أحمد بن حنبل ، وعلي بن المديني ، وأبي حاتم الرازي ، وأبي علي الحافظ النيسابوري ، وأبي الحسن الدارقطني ، وكتاب ( التمييز ) لمسلم بن الحجاج . ثم تواريخ المحدثين وكلامهم في أحوال الرواة ، مثل كتاب ابن معين ، الذي يرويه عنه عباس الدوري ، وكتاب خليفة بن خياط العصفري ، ويعقوب بن سفيان الفسوي ، وأبي خيثمة النسائي ، وأبي زرعة الدمشقي ، وحنبل بن إسحاق الشيباني ، ومحمد بن إسحاق النيسابوري ، وكتاب ( الجرح والتعديل ) لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ، ويربي على هذه الكتب كلها ( تاريخ محمد بن إسماعيل البخاري ) فإذا أحرز صدراً مما ذكرناه فلا عليه أن يشتغل بالسماع والكتب للفوائد المنثورة غير المدونة المجموعة ، يعمد إلى استيعابها دون انتخابها ) اهـ . ملخصاً .
وقال الحافظ ابن عبد البر : " واعلم ـ رحمك الله ـ أن طلب العلم في زماننا هذا ، وفي بلدنا قد حاد أهله عن طريق سلفهم وسلكوا في ذلك ما لم يعرفه أئمتهم ، وابتدعوا في ذلك ما بان جهلهم وتقصيرهم عن مراتب العلماء قبلهم . فطائفة منهم تروي الحديث وتسمعه ، قد رضيت بالدؤوب في جمع مالا تفهم ، وقنعت بالجهل في حمل ما لا تعلم ، فجمعوا الغث والسمين ، والصحيح والسقيم ، والحق الكذب في كتاب واحد ، وربما في ورقة واحدة . ويدينون بالشيء وضده ، ولا يعرفون ما في ذلك عليهم . قد شغلوا أنفسهم بالاستكثار من التدبر والاعتبار ، فألسنتهم تروي العلم ، وقلوبهم قد خلت من الفهم ، غاية أحدهم معرفة الكتب الغريبة ، والاسم الغريب ، والحديث المنكر . وتجده قد جهل مالا يكاد يسمع أحداً جهله من علم صلاته وحجه ، وصيامه ، وزكاته . وطائفة هي في الجهل كتلك أو أشد ، لم يعنوا بحفظ سنة ولا الوقف على معانيها ، ولا بأصل من القرآن ولا اعتنوا بكتاب الله عز وجل ، فحفظوا تنزيله ، ولا عرفوا ما للعلماء في تأويله ، ولا وقفوا على أحكامه ، ولا تفقهوا في حلاله وحرامه ، قد اطرحوا علم السنن والآثار ، وزهدوا فيها ، وأضربوا عنها فلم يعرفوا الاجتماع من الاختلاف ، ولا فرقوا بين التنازع والائتلاف ، بل عولوا على حفظ مادون لهم من الرأي والاستحسان الذي كان عند العلماء آخر العلم والبيان ، وكان الأئمة يبكون على ما سلف وسبق لهم من الفتوى فيه ، ويودُّن أن حظهم السلامة فيه ..." اهـ . مختصراً .
وعن عبد الله بن وهب عن مالك بن أنس قال : " إن العلم ليس بكثرة الرواية ، إنما العلم نور يجعله الله في القلب " .
وقال الخطيب البغدادي : " العلم هو الفهم والدراية، وليس بالإكثار والتوسع في الرواية " .
وقال أيضاً : " وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية لا حفظ رواية ، فإن رواة العلوم كثير ، ورعاتها قليل . ورب حاضر كالغائب ، إذ كان في اطَّراحه لحكمة بمنزلة الذاهب عن معرفته وروى بإسناده إلى الحسن البصري ( ت 110هـ ) رحمه الله ـ قال: " تعلموا ما شئتم أن تعلموا ، فلن يجازيكم الله على العلم حتى تعلموا ، فإن السفهاء همتهم الرواية ، وإن العلماء همتهم الرعاية " .
وقال أبو عمر يوسف بن عبد البر ( ت 463هـ ) : " ... أما طلب الحديث على ما يطلبه كثير من أهل عصرنا اليوم دون تفقه فيه ولا تدبر لمعانيه ، فمكروه عند جماعة من أهل العلم " .
وقال أيضاً : " الذي عليه جماعة فقهاء المسلمين وعلمائهم ذم الإكثار دون تفقه ولا تدبر، والمكثر لا يأمن مواقعة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لروايته عمن يؤمن وعمن لا يؤمن " ثم ذكر بإسناده إلى ابن شبرمة قال : " أقلل الرواية وتفقه " .
وقال الحافظ ابن القيم ( ت 751 هـ ) : " صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده ، ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ، ولا أجل منهما ، بل هما ساقا الإسلام ، وقيامه عليهما ، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم ، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم ، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم ، وهم أهل الصراط المستقيم الذي أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة . وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد ، يميز به بين الصحيح والفاسد ،والحق والباطل ..،
ويمده حسن القصد وتحري الحق وتقوى الرب في السر والعلانية ، ويقطع مادته إتباع الهوى وإيثار الدنيا ، وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى))
8- ينبغي أن يتذاكر مع زملائه ما وقع في مجلس الشيخ من الفوائد والقواعد والضوابط وغير ذلك ، وأن يعيدوا ما سمعوه بينهم ، فإن في المذاكرة نفعاً عظيماً .
قال الخطيب البغدادي : " وأفضل المذاكرة مذاكرة الليل ، وكان جماعة من السلف يبدؤون في المذاكرة من العشاء فربما لم يقوموا حتى يسمعوا أذان الصبح " .
" فإن لم يجد الطالب من يذاكره ذاكر نفسه بنفسه ، وكرر معنى ما سمعه ولفظه على قلبه اللفظ على لسان سواء بسواء ، وقل ما يفلح من يقتصر على حضور الفكر والعقل في مجلس الشيخ خاصة، ثم يتركه ويقوم ولا يعاوده بالمذاكرة " .
وقال رحمه الله : " وإذا لم يجد الطالب من يذاكره ، أدام ذكر الحديث مع نفسه وكرره على قلبه " .
ومما ورد عن السلف في المذاكرة وبيان أهميتها ما يأتي :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فنسمع منه الحديث ، فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه " .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : " تزاوروا وتدارسوا الحديث ، ولا تتركوه يدرس " .
وعن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " إذا سمعتم مني حديثاً فتذاكروه بينكم " .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : " تحدثوا وتذاكروا ، فإن الحديث يذكر بعضه بعضاً " .
وعن ابن أبي ليلى عن عطاء قال : " كنا نكون عند جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فيحدثنا ، فإذا خرجنا من عنده تذاكرنا حديثه " قال : " فكان أبو الزبير أحفظنا للحديث " .
قال أبو هريرة رضي الله عنه : " جزأت الليل ثلاثة أجزاء : ثلثاً أصلي ، وثلثاً أنام ، وثلثا أذاكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وعن ابن جرير : " كان عمرو بن دينار يجزى الليل ثلاثة أجزاء :ثلثاً ينام ، وثلثاً يصلي ، وثلثاً يذاكر فيه الحديث " .
وقال عبد الله بن المعتز : " من أكثر مذاكرة العلماء لم ينس ما علم ، واستفاد ما لم يعلم " .
وعن عبد العزيز بن أبي حازم قال : قال لي أبي : " كان الناس فيما مضى من الزمان الأول إذا لقي الرجل من هو أعلم منه قال : اليوم يوم غنمي ، فيتعلم منه ، وإذا لقي من هو مثله قال : اليوم يوم مذاكرتي فيذاكره ، وإذا لقي من هو دونه علمه لم يزه عليه " قال : " حتى صار هذا الزمان ، فصار الرجل يعيب من فوقه ابتغاء أن ينقطع منه حتى لا يرى الناس أن له إليه حاجة ، وإذا لقي من هو مثله لم يذاكره ، فهلك الناس عند ذلك " .
بقلم:د0محمد بن مطر الزهراني - رحمه الله تعالى.
المرجع:كتاب (من هدي السلف في طلب العلم)
تعليق