مقياس المعروف والمنكر
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يقول الله تبارك وتعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] ويقول الله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري: {من رأى منكم منكراً، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان}. أيها الإخوة: حول هذا الموضوع ألقي الضوء على مجموعة من النقاط المهمة، وإن كان الوقت لا يتسع لكل ما يتعلق به. فأولاً: ما هو المقياس، في معرفة المعروف والمنكر؟ كيف يعرف الإنسان المعروف من المنكر؟ المعروف: مأخوذ من المعرفة، وهي في أصل اللغة العربية: اسم لما يعرفه القلب ويطمئن إليه وتسكن له النفس، ولذلك سمي المعروف معروفاً لأن النفوس تألفه وتسكن إليه، وتطمئن إليه، وهو اسم جامع لكل ما يحبه الله من طاعته والإحسان إلى عباده. والمنكر: هو اسم لما تنكره النفوس وتنبو عنه، وتشمئز منه ولا تعرفه، فهو ضد المعروف، وهو أيضاً اسم جامع لكل ما عرف بالشرع والعقل قبحه، من معصية الله تعالى وظلم عباده.
الجاهلية النسبية
ومع ذلك فإن هذه المجتمعات، لا يمكن القول بأنها مجتمعات جاهلية مطلقاً -كما يقول بعض العلماء والمفكرين المسلمين- لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أنه لا يزال في المسلمين من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال الله عز وجل: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:181] وهذه آية عامة شاملة، وقد بينها الرسول عليه الصلاة والسلام في أحاديثه الكثيرة التي منها الحديث المتواتر: {أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة منصورة -وإنما سماها منصورة لأنها مجاهدة، فالنصر من ثمرات الجهاد، وهي تجاهد على أمر الله، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله ولا يضرها من خذلها ولا من خالفها}. ولذلك لا يمكن القول بوجود جاهلية مطبقة في الأمة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها، في زمان ما إلا قبيل قيام الساعة، حين يبعث الله تعالى الريح الطيبة، فلا تدع أحداً في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان إلا قبضته، فحينئذٍ يبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر، ويتسافدون تسافد الحمر، يفعلون الفواحش على قارعة الطريق، وأفضل إنسان في ذلك الوقت إذا جاء وهم يفعلون الفاحشة، قال: يا فلان لو اعتزلتم الطريق، لو ما فعلتم الفاحشة في وسط الطريق على الأقل اعتزلوا هذا الطريق، وهؤلاء تقوم عليهم الساعة. وهنا تلاحظون سراً عظيماً من أسرار هذه الشريعة، هذا السر هو: أن الله عز وجل، أنـزل القرآن، وبعث الرسل، وأوجد هذه الكعبة، وأبقى هذه الطائفة المنصورة، لتحقيق الحجة على الناس، وإقامة الدين والشعائر، فإذا تعطلت منافع هذه الأشياء أذن الله بزوالها، وحينئذٍ يبعث الله ذا السويقتين، من الحبشة، فيهدم الكعبة ويستخرج كنـزها، لأنه لم يعد من يحج ولا يعتمر ولا يصلي إلى الكعبة، ويرفع الله هذا القرآن من المصاحف وصدور الرجال حتى لا يبقى في الأرض منه آية، ويبعث الله ريحاً طيبة فتقبض أرواح المؤمنين، الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، لأنه لم يعد يوجد من يسمع لهم ولا من يستجيب، وبعد ذلك تقوم الساعة، المقصود أن مجتمعات المسلمين لا يزال فيها من يهدي بالحق، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
عرف الناس متقلب
ومن خلال هذين التعريفين الموجزين تلاحظون: أولاً: أن المقياس في معرفة المعروف والمنكر ليس هو عرف الناس وتقاليدهم والأمر الشائع بينهم، فإن عرف الناس متقلب، وقد يعرف الناس اليوم شيئاً ويألفونه ويعتادون عليه، وينكرونه غداً، وقد ينكرون اليوم شيئاً ويقومون ضده ثم يستسلمون له غداً ويألفونه ويعملون به، فالمقياس في تحديد المعروف والمنكر هو الشرع وليس العرف، وكم جرى في أعراف الناس من المنكرات الكبيرة. أرأيت -مثلاً- إعفاء اللحية إنه معروف في عرف الشرع، أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة وابن عمر وغيرهما في الصحيح، لكن قد يشيع عند الناس ضد ذلك من إزالة الشعور وحلقها، فيصبح إعفاء اللحية في بعض البيئات والمجتمعات، أمراً منكراً مستغرباً، لم يعتده الناس ولم يألفوه. أرأيت تشمير الثياب ورفعها إلى ما فوق الكعبين أو إلى منتصف الساق أو إلى ما دون الركبة، هذا أمر ثبت في الشرع، ولكن كثيراً من المجتمعات لا تعرف هذا الأمر، إنما تعرف إطالة الثياب وإرخاءها وإسبالها، خاصة في الرجال، أما النساء فعلى العكس من ذلك، فإذا رأوا رجلاً قد رفع ثوبه إلى نصف الساق أو دون ذلك أو فوقه؛ بدأوا يتغامزون ويتناظرون وقد يتضاحكون، فهذا معروف بالشرع، لكنه منكر في بعض البيئات والمجتمعات. أرأيت احتجاب المرأة هو أمر عرف بالشرع قرآناً وسنة أنه ثابت ومعروف، لكن قد يجهل بعض المسلمين هذا الأمر في بعض المجتمعات، فإذا رأوا امرأة قد تسترت وتحجبت، ضحكوا منها! وقالوا: ما شأن هذه المرأة تمشي وكأنها خيمة؟ وكما قال بعضهم، وقال آخرون: هذه المرأة إنما تسترت لأنها دميمة، فتريد أن تستر قبحها عن الناس. في مثل تلك المجتعمات أصبح منكراً يستغرب فاعله، وعلى الضد من ذلك، كم من منكر أصبح مألوفاً ومعروفاً في بعض المجتمعات. الغناء -مثلاً- حين يقوم إنسان يحرم الغناء ويذكر الأحاديث الصريحة فيه، تجد كثيراً من الناس يفغرون أفواههم ويفتحون عيونهم مستغربين! هذا الغناء الذي نسمعه في الإذاعات وأجهزة التلفاز وأشرطة التسجيل، وربما يسمعون -أحياناً- من بعض المنتسبين إلى العلم من يبيحه، لا يقع في آذانهم قط أنه منكر، بل قد ألفوه وعرفته نفوسهم وسكنت إليه، فصار في عرفهم معروفاً، وهو في الشرع منكر. أرأيت الربا الذي شاع وذاع بين المسلمين في بنوكهم وصارفهم ومؤسساتهم حتى لا يكاد يخلو منه إلا القليل، وأصبح الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري: {يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء فيما أخذ من حلال أو من حرام؟} حين يتحدث الإنسان عن تحريمه، أو عن تحريم بعض صوره الشائعة عند الناس، تجد كثيرين منهم يفاجئون ويستغربون، وقد يرمون هذا المتحدث بالعظائم؛ لأنه يستنكر أمراً ألفوه وعرفوه واطمأنت إليه نفوسهم، فصاروا لا يظنون إلا أنه عين المعروف، وهو في الشرع منكر. أرأيت الصور، وخاصة الصور الخليعة من صور النساء الفاتنات التي انتشرت بين المسلمين اليوم عبر الكتاب والمجلة والشريط والمسرحية، أو التمثيلية، أو غيرها.. هذه الصور التي أصبحت تقابل عين الإنسان في الطائرة، في السيارة، في البقالة، في البيت، في السوق، في المدرسة، في كل مكان، حين ينشأ عليها الإنسان ويألفها تصبح عادية في نظره، وحين يسمع إنساناً يقول: إن النظر إلى صور النساء في المجلات والأفلام وغيرها لا يجوز! يستغرب ذلك، ويقول: هذا مسكين، إن الناس اليوم يعانون من النظر إلى الفواحش والمشاهد الجنسية المؤذية واللقطات. ولا أقول -كما يقول بعض المتفائلين-: المخلة بالحياء، بل اللقطات التي تقضي على الحياء وتئده، وتراهم يقولون: الناس مشغلون بهذه الأشياء بينما هذا الإنسان لا زال يتحدث، عن منع النظر إلى الصور، صارت القضية معروفة عند كثير من الناس، لماذا؟ لأن القضية انتشرت وذاعت وشاعت، فأصبحت تقابل الإنسان في كل مكان فتَطبَّعَ عليها واعتادها، وأصبح لا يستنكرها. وهكذا تبرج النساء والاختلاط وغير ذلك من المنكرات، قد يعتادها الناس في مجتمع ما، فتصبح في عرفهم معروفاً، لكن عرف الناس لا يغير الشرع، ولهذا ينبغي أن نلاحظ من خلال تعريف المعروف والمنكر، أن المعروف: هو ما عرف بالشرع والعقل حسنه، لأن كل ما جاء به الشرع فالعقل يدل عليه، كل ما جاء الشرع بتحسينه، فالعقل يدل على تحسينه، العقل السليم والفطرة السليمة، وأن المنكر: هو كل ما دل الشرع والعقل على قبحه وفساده، وكل ما جاء الشرع بتقبيحه، فالعقل يدل على تقبيحه. أما أعراف الناس فلا عبرة بها؛ لأن أعراف الناس قد تصبح سقيمة في وقت من الأوقات، فترى المنكر معروفاً والمعروف منكراً. الأمر الآخر الذي يلاحظ من خلال هذه التعريف، أن الأصل في المجتمع المسلم أنه يعرف المعروف ويقره ويرضاه ويأمر به، وأنه ينكر المنكر ويرفضه ويأباه وينهى عنه، هذا هو المجتمع السليم.
الأصل في المجتمع المسلم معرفة المعروف وإنكار المنكر
وإذا أردت أن تعرف مدى سلامة مجتمع ما أو فساده، فطبق عليه هذه القاعدة: إذا وجدت هذا المجتمع يشمئز من المنكرات، فينكرها ويحاربها، فهذا دليل على سلامته في الجملة، فإذا أُشْرِب هذه المنكرات وتقبلها بسهولة، فاعرف أنه مجتمع منحل. ولذلك كان أسلم المجتمعات هو مجتمع الصحابة رضي الله عنهم، فكانوا يعرفون المعروف وينكرون المنكر، ولذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الأثر الصحيح الذي رواه الحاكم وغيره قال: [[ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح]]. ثم ضرب لذلك مثلاً بأن المسلمين -أعني الصحابة-، اتفقوا على اختيار أبي بكر للخلافة، فحينئذ عُلم أن هذا أمر يحبه الله ويرضاه، ولهذا أصبح من جملة عقائد أهل السنة والجماعة تفضيل أبي بكر على من عداه من الصحابة، والإقرار بأنه أول الخلفاء الراشدين، ومن بعده عمر كذلك، ثم عثمان ثم علي، هذا مثال لهذه القاعدة. ولهذا أجمع المسلمون على قبول إجماع الصحابة رضي الله عنهم وأنه حجة فيما بينهم وبين الله، فإذا اتفق الصحابة على أمر، أصبح المسلمون من بعدهم متعبدين بهذا الأمر وهو من ضمن الأدلة الشرعية، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين. ولذلك كان الإمام مالك رحمه الله يأخذ بعمل أهل المدينة، فما وجد عليه عمل أهل المدينة في القرن الأول اعتبره من ضمن الأدلة الشرعية، وهذا أصل خاص بالإمام مالك، وكان رحمه الله يفسر ذلك بأن عمل أهل المدينة إنما هو على النبوة. أما عمل الأمصار الأخرى فإنه على أوامر الملوك، وكذلك المجتمعات الخالفة من بعدهم، ما كان من هذه المجتمعات يقبل المعروف ويرضى به ويدعو إليه، فهو مجتمع سليم، وما كان يرفض المعروف ويأباه ويقر المنكر فهو منحرف. وحين تلقي نظرة تحاول أن تطبق فيها هذه القاعدة على المجتمعات الإسلامية اليوم، تجد أن هذه المجتمعات بلا شك تتفاوت تفاوتاً كبيراً، ولكن يغلب على هذه المجتمعات في الجملة، أنها تتقبل المنكرات وتألفها وتنتشر بين أفرادها بشكل سريع ذريع، ما أسرع -مثلاً- ما تنتشر الموضات والأزياء الأجنبية في أوساط النساء، بمجرد ظهور مغنية أو ممثلة أو فاجرة أو داعرة بزي معين، لا يمر غير وقت قصير إلا وتجد هذا الزي قد شاع وذاع، وأصبحت نساء المؤمنين تتبارى عليه، وتتنافس فيه، وما إن تظهر مغنية أو ممثلة أو داعرة بتسريحة معينة من تسريحات الشعر، إلا وتجد المسلمات خلفها يطبقن ما رأين تطبيقاً دقيقاً أميناً، وما إن تجد شباب الغرب، يسيرون خلف تقليد من التقاليد، إلا وسرعان ما ينتشر بين شباب المسلمين. هل نعتقد أن الظواهر التي نلاحظها في شبابنا اليوم في ملابسهم، في طريقة شعورهم، في طريقة تصليحهم لسياراتهم، في بعض الظواهر التي قد تشيع -أحياناً- بين الشباب، هل نعتقد أنها نشأت من فراغ؟ كلا، إنها أشياء يلاحظونها في المجتمعات الكافرة، سواء حين يسافرون إلى تلك المجتمعات ويشاهدونها عياناً، أو من خلال الأفلام والمسرحيات التي تعرض الأوبئة الموجودة في بلاد الروم أمام أعين نظارة المسلمين، وقد تكون -أحياناً- نوعاً من الخدع في التصوير، فيغتر بها شبابنا ويطبقونها مثلما يقع في ما كان منتشراً ما يسمى بعملية (التفحيط) وغيرها! هل نعتقد أن انتشار هذه الأشياء، أمر طبيعي؟ كلا، إنه يدل على وجود فراغ في عقول ونفوس هؤلاء المسلمين، وانحراف يجعلها قابلة للمنكر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يقول الله تبارك وتعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] ويقول الله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري: {من رأى منكم منكراً، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان}. أيها الإخوة: حول هذا الموضوع ألقي الضوء على مجموعة من النقاط المهمة، وإن كان الوقت لا يتسع لكل ما يتعلق به. فأولاً: ما هو المقياس، في معرفة المعروف والمنكر؟ كيف يعرف الإنسان المعروف من المنكر؟ المعروف: مأخوذ من المعرفة، وهي في أصل اللغة العربية: اسم لما يعرفه القلب ويطمئن إليه وتسكن له النفس، ولذلك سمي المعروف معروفاً لأن النفوس تألفه وتسكن إليه، وتطمئن إليه، وهو اسم جامع لكل ما يحبه الله من طاعته والإحسان إلى عباده. والمنكر: هو اسم لما تنكره النفوس وتنبو عنه، وتشمئز منه ولا تعرفه، فهو ضد المعروف، وهو أيضاً اسم جامع لكل ما عرف بالشرع والعقل قبحه، من معصية الله تعالى وظلم عباده.
تعليق