منقول عن الحياة
عبدالله الأشعل الحياة - 14/07/08//
أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في 10/7/2008 بياناً أوضحت فيه أن في ضوء تقرير البعثة الدولية في دارفور وتحقيقات المحكمة والأدلة التي توصلت إليها، فقد أحالت إلى مجلس الأمن كل هذه الوقائع وشرع المجلس منذ 10/7 في نظر الملف كاملاً. وأشارت المحكمة إلى أنها تبحث في إصدار أمر بضبط الرئيس السوداني عمر البشير ونائبه وإحضارهما لمحاكمتهما، والاستعانة على ذلك بمجلس الأمن.
لقي البيان ترحيباً حاراً من منظمات حقوق الإنسان ومن المواقع الإلكترونية الموالية لإسرائيل وللأوساط الصهيونية والجماعات التي أنشأتها لمساندة ضحايا دارفور وترويج معلومات بأن الضحايا يزيد عددهم على ثلث المليون، بينما اللاجئون والمشردون يتجاوزون المليونين ونصف المليون.
هذا التطور الخطير أعقب إعلان المحكمة الجنائية الدولية في منتصف حزيران (يونيو) أنها تراجعت عن خطة لخطف طائرة أحمد هارون وزير الداخلية السوداني السابق الذي اتهم مع خمسين مسؤولاً سودانياً بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1593 مع إحالتهم على المحكمة للتحقيق، وأصدرت قرارها بالاتهام.
توازى ذلك مع تصاعد الضغوط الأميركية على الحكومة السودانية، فواشنطن وإسرائيل تساندان انفصال الجنوب والاستعداد لذلك في استفتاء عام 2011 بدعم أميركي - إسرائيلي، لإعادة رسم خريطة السودان والسيطرة على مقدراته النفطية وضرب المصالح المصرية فيه.
وثبتت باعتراف قيادات التمرد في دارفور علاقة إسرائيل بهم وتسليحهم وفتح مكاتب لهم فيها، ثم كان تجرؤ المعارضة على محاولة قلب نظام الحكم في الخرطوم بعد أيام من الإعلان عن محاولة قلب نظام الحكم في تشاد والتوتر الجديد في علاقات تشاد والسودان.
هذا التطور الجديد هو قمة الحرب النفسية الأميركية ضد الرئيس السوداني، وهو عمل يمثل قمة التصعيد منذ إثارة الأزمة في دارفور بعد ترتيبات السلام بين الشمال والجنوب، وانخراط الحركة الشعبية في الجنوب في دعم التمرد في دارفور والشرق ضد الخرطوم. المعلوم أن هذا التطور لا يمكن قراءته منعزلاً عن المخطط الأميركي الذي عمد إلى توظيف مجلس الأمن، والآن يوظف المحكمة الجنائية الدولية، ولذلك لا مفر من تحليل أبرز الجوانب القانونية والسياسية وآثارها على مجمل الملف في دارفور.
أولاً: لا نزاع في أن الجانب الإنساني للمشكلة يستحق الاهتمام إذ لا يمكن السكوت على جرائم ترتكب ضد السكان، ولكن تصعيد الجانب الإنساني والتركيز على جرائم الحكومة من دون المتمردين وعدم الضغط عليهم لتوقيع اتفاق أبوجا الذي وقعته الحكومة أثار التساؤل.
ثانياً: من الناحية القانونية تتمتع القيادة السودانية بحصانة الدولة وهو مبدأ مستقر في القانون الدولي وأكدته محكمة العدل الدولية عام 2003 عندما أصدر القضاء البلجيكي مذكرة توقيف ضد وزير خارجية الكونغو بتهمة ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، فرفعت الكونغو القضية التي صدر في شأنها ذلك الحكم الشهير، على رغم أننا انتقدناه بسبب جسامة الجرائم التي يمكن الإفلات منها بسببه. وسبق أن أثير الموضوع عندما اعتزم أرييل شارون زيارة بلجيكا فانتظره أمر القاضي بالقبض عليه في قضية رفعها أهالي ضحايا صبرا وشاتيلا، وتم تعديل المادة 12 من قانون الإجراءات الجنائية البلجيكي لينسجم مع حكم المحكمة السابق.
ويرد البعض على ذلك بأنه تم القبض على ميلوسوفيتش وهو رئيس يوغوسلافيا وعلى تايلور رئيس ليبيريا، وردّي أن القبض على ميلوسوفيتش كان بترتيب حلف الأطلسي استكمالاً لحملته غير المفهومة والقصف الجوي لأكثر من شهر للمدن اليوغوسلافية وهو ما أدانته محكمة العدل الدولية، كما أن اعتقاله لا يعد سابقة طيبة، ثم أنه حدث قبل تأكيد المحكمة لهذا المبدأ. أما تايلور فاحتالت واشنطن مع نيجيريا لإخراجه من ليبيريا ثم نقضا الاتفاق معه وقدماه للمحاكمة، بصرف النظر عما يستحق.
ثالثاً: صحيح أن المحكمة الجنائية الدولية تستطيع أن تستعين بمجلس الأمن، لكن الفيتو الروسي والصيني هما في انتظار أي اقتراح أميركي بالقبض على البشير، والسند القانوني هو مبدأ حصانة الدولة من ناحية، ومبدأ قيام كل المنظمات الدولية على مبدأ سيادة الدولة.
رابعاًً: سلوك المحكمة الجنائية الدولية السياسي يقطع بأن واشنطن التي تحتقر القضاء الدولي عموماً والجنائي خصوصاً وتحارب هذه المحكمة بطرق لا يتسع المقام لتفصيلها، تسيطر تماماً على عملها، بل إن المحكمة نفسها فقدت الصدقية بعد أن اعترفت بأنها خططت لخطف طائرة أحمد هارون خلال رحلة للحج، فكيف تسوغ المحكمة إحضار متهم بطريقة غير مشروعة».
هذا الموقف يدفع الدول العربية إلى عدم الانضمام إلى المحكمة ويهزم كل دعاوى من يكافح لجذب العالم العربي إليها بوهم أنها يمكن أن تحاكم المجرمين الإسرائيليين، وهو طعم لا يجوز للعالم العربي أن يبتلعه.
خامساً: صحيح أن جرائم وقعت في دارفور في سياق الحمى التي أوجدها الغرب ومساندته المتمردين على الحكومة، لكن المتمردين الذين وظفتهم أميركا وإسرائيل في حرب سياسية مؤلمة يتاجرون بالقضية ويرتكبون أبشع الجرائم. والحل يجب أن يبدأ بدفع التمرد إلى الانضمام إلى اتفاق أبوجا، ووضع القضية في إطارها السوداني والأفريقي والعربي، حتى لا يؤدي تهور المحكمة الجنائية إلى انهيار كل رغبة سودانية في التعاون في العملية السلمية.
* كاتب مصري
عبدالله الأشعل الحياة - 14/07/08//
أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في 10/7/2008 بياناً أوضحت فيه أن في ضوء تقرير البعثة الدولية في دارفور وتحقيقات المحكمة والأدلة التي توصلت إليها، فقد أحالت إلى مجلس الأمن كل هذه الوقائع وشرع المجلس منذ 10/7 في نظر الملف كاملاً. وأشارت المحكمة إلى أنها تبحث في إصدار أمر بضبط الرئيس السوداني عمر البشير ونائبه وإحضارهما لمحاكمتهما، والاستعانة على ذلك بمجلس الأمن.
لقي البيان ترحيباً حاراً من منظمات حقوق الإنسان ومن المواقع الإلكترونية الموالية لإسرائيل وللأوساط الصهيونية والجماعات التي أنشأتها لمساندة ضحايا دارفور وترويج معلومات بأن الضحايا يزيد عددهم على ثلث المليون، بينما اللاجئون والمشردون يتجاوزون المليونين ونصف المليون.
هذا التطور الخطير أعقب إعلان المحكمة الجنائية الدولية في منتصف حزيران (يونيو) أنها تراجعت عن خطة لخطف طائرة أحمد هارون وزير الداخلية السوداني السابق الذي اتهم مع خمسين مسؤولاً سودانياً بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1593 مع إحالتهم على المحكمة للتحقيق، وأصدرت قرارها بالاتهام.
توازى ذلك مع تصاعد الضغوط الأميركية على الحكومة السودانية، فواشنطن وإسرائيل تساندان انفصال الجنوب والاستعداد لذلك في استفتاء عام 2011 بدعم أميركي - إسرائيلي، لإعادة رسم خريطة السودان والسيطرة على مقدراته النفطية وضرب المصالح المصرية فيه.
وثبتت باعتراف قيادات التمرد في دارفور علاقة إسرائيل بهم وتسليحهم وفتح مكاتب لهم فيها، ثم كان تجرؤ المعارضة على محاولة قلب نظام الحكم في الخرطوم بعد أيام من الإعلان عن محاولة قلب نظام الحكم في تشاد والتوتر الجديد في علاقات تشاد والسودان.
هذا التطور الجديد هو قمة الحرب النفسية الأميركية ضد الرئيس السوداني، وهو عمل يمثل قمة التصعيد منذ إثارة الأزمة في دارفور بعد ترتيبات السلام بين الشمال والجنوب، وانخراط الحركة الشعبية في الجنوب في دعم التمرد في دارفور والشرق ضد الخرطوم. المعلوم أن هذا التطور لا يمكن قراءته منعزلاً عن المخطط الأميركي الذي عمد إلى توظيف مجلس الأمن، والآن يوظف المحكمة الجنائية الدولية، ولذلك لا مفر من تحليل أبرز الجوانب القانونية والسياسية وآثارها على مجمل الملف في دارفور.
أولاً: لا نزاع في أن الجانب الإنساني للمشكلة يستحق الاهتمام إذ لا يمكن السكوت على جرائم ترتكب ضد السكان، ولكن تصعيد الجانب الإنساني والتركيز على جرائم الحكومة من دون المتمردين وعدم الضغط عليهم لتوقيع اتفاق أبوجا الذي وقعته الحكومة أثار التساؤل.
ثانياً: من الناحية القانونية تتمتع القيادة السودانية بحصانة الدولة وهو مبدأ مستقر في القانون الدولي وأكدته محكمة العدل الدولية عام 2003 عندما أصدر القضاء البلجيكي مذكرة توقيف ضد وزير خارجية الكونغو بتهمة ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، فرفعت الكونغو القضية التي صدر في شأنها ذلك الحكم الشهير، على رغم أننا انتقدناه بسبب جسامة الجرائم التي يمكن الإفلات منها بسببه. وسبق أن أثير الموضوع عندما اعتزم أرييل شارون زيارة بلجيكا فانتظره أمر القاضي بالقبض عليه في قضية رفعها أهالي ضحايا صبرا وشاتيلا، وتم تعديل المادة 12 من قانون الإجراءات الجنائية البلجيكي لينسجم مع حكم المحكمة السابق.
ويرد البعض على ذلك بأنه تم القبض على ميلوسوفيتش وهو رئيس يوغوسلافيا وعلى تايلور رئيس ليبيريا، وردّي أن القبض على ميلوسوفيتش كان بترتيب حلف الأطلسي استكمالاً لحملته غير المفهومة والقصف الجوي لأكثر من شهر للمدن اليوغوسلافية وهو ما أدانته محكمة العدل الدولية، كما أن اعتقاله لا يعد سابقة طيبة، ثم أنه حدث قبل تأكيد المحكمة لهذا المبدأ. أما تايلور فاحتالت واشنطن مع نيجيريا لإخراجه من ليبيريا ثم نقضا الاتفاق معه وقدماه للمحاكمة، بصرف النظر عما يستحق.
ثالثاً: صحيح أن المحكمة الجنائية الدولية تستطيع أن تستعين بمجلس الأمن، لكن الفيتو الروسي والصيني هما في انتظار أي اقتراح أميركي بالقبض على البشير، والسند القانوني هو مبدأ حصانة الدولة من ناحية، ومبدأ قيام كل المنظمات الدولية على مبدأ سيادة الدولة.
رابعاًً: سلوك المحكمة الجنائية الدولية السياسي يقطع بأن واشنطن التي تحتقر القضاء الدولي عموماً والجنائي خصوصاً وتحارب هذه المحكمة بطرق لا يتسع المقام لتفصيلها، تسيطر تماماً على عملها، بل إن المحكمة نفسها فقدت الصدقية بعد أن اعترفت بأنها خططت لخطف طائرة أحمد هارون خلال رحلة للحج، فكيف تسوغ المحكمة إحضار متهم بطريقة غير مشروعة».
هذا الموقف يدفع الدول العربية إلى عدم الانضمام إلى المحكمة ويهزم كل دعاوى من يكافح لجذب العالم العربي إليها بوهم أنها يمكن أن تحاكم المجرمين الإسرائيليين، وهو طعم لا يجوز للعالم العربي أن يبتلعه.
خامساً: صحيح أن جرائم وقعت في دارفور في سياق الحمى التي أوجدها الغرب ومساندته المتمردين على الحكومة، لكن المتمردين الذين وظفتهم أميركا وإسرائيل في حرب سياسية مؤلمة يتاجرون بالقضية ويرتكبون أبشع الجرائم. والحل يجب أن يبدأ بدفع التمرد إلى الانضمام إلى اتفاق أبوجا، ووضع القضية في إطارها السوداني والأفريقي والعربي، حتى لا يؤدي تهور المحكمة الجنائية إلى انهيار كل رغبة سودانية في التعاون في العملية السلمية.
* كاتب مصري
تعليق