Unconfigured Ad Widget

تقليص

إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

عائشة .. في غـرفة التشريح .. !

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    أحمد كان قد أسرّ لعائشة .. في وقت مضى ، أن ( شهاب الاسلام ) ، هو ابن خالتهم عبد السلام الياسر . كتابات شهاب الإسلام ، شدتها منذ البداية ، قبل أن تعرف اسمه الحقيقي . في بداية دخولها الكلية ، كانت متحمسة لطرحه الجريء ، في مواضيع لها علاقة بظروف عمل المرأة ، خاصة في القطاع الصحي . أسلوبه وافق هوى في نفسها ، في بداية دخولها الكلية .. يوم كانت في قمة حماسها . كانت تصور مقالاته ، التي يزودها بها أحمد ، وتوزعها بين الطالبات في كليتها .
    شيئاً فشيئاً ، اكتشفت أنها لم تتعلق بمقالاته فقط ، بل بشخصه . صارت تطلب من أحمد ، بطريق غير مباشر ، أن يجمع لها معلومات أكثر عن شخصيته . تتذرع أحياناً بحاجة الطالبات ، للاتصال المباشر به ، لإطْلاعه على خفايا ما يحدث في الكلية . تقول لأحمد ، أنهن لا يمكن أن يتواصلن مع شخص ، حتى يعرفن شخصيته الحقيقية ، ليثقن به . أحمد قام باتصالات كثيرة ، عن طريق البريد الالكتروني ، و ( الماسنجر ) ، مع أعضاء عديدين في المنتدى ، حتى استطاع معرفة الشخصية الحقيقية لشهاب الإسلام . في إحدى المناسبات الاجتماعية ، واجهه بما وصل إليه من معلومات عن شخصيته ، فأقر بذلك ، وطلب منه أن يكتم الأمر .

    عندما التحقت عائشة بالجامعة ، كان ( شهاب الإسلام ) ، طالباً في السنة الثانية في كلية التربية . لم تعرف حقيقة شخصيته ، إلا حينما صارت هي في السنة الثالثة ، في كلية الطب ، وهو كان قد تخرج وقتها من الجامعة ، وقلت مشاركاته في منتديات الانترنت ، وإن لم يفتر حماسه . ظلت لغته ، وأسلوبه في الكتابة ، بنفس القوة والحدة . تجربتها في الكلية ، حيث احتكت أكثر ، وتفاعلت على مستويات متفاوته ، مع أفراد مختلفين ، من أساتذة وزميلات .. إضافة إلى كونها صارت أكبر ، وأكثر نضجاً ، جعــلها أقل قابلية لهذا النوع من الطرح ، وأقل انجذاباً ، لِلَغة بهذا المستوى من الحدة . لكنها .. في أعماقها ، ظلت تشعر بانجذاب إليه .
    بعد أن عرفت شخصيته ، تشجعت وأرسلت له رسالة بريد إلكترونية . ذكرت في الرسالة أنها تعرفه ، وعرفته بنفسها ، وشكرته على مواقفه ، وطرحه الجريء . بررت إرسال الرسالة إليه ، بأنها افتقدت حضوره في الانترنت ، وأن مشاركاته قلت بشكل ملــــحوظ . رد عليها برسالة ، شكرها فيها ، وذكر أن قلة مشاركته في الانـــترنت ، تعود لتخرجه من الجامعة ، وانشغاله بالبحث عن وظيفة . ختم الرسالة ، بالدعاء لها بالتوفيق في دراستها ، وحياتها المستقبلية .
    لغة الرد في رسالته كانت باردة . لم يكن بها احتفاء ، أو حماس ، أو تشجيع من أي نوع .. فضلاً عن أنها لم تشتمل على أي مفردة حميمة . قلق صار يساورها ، وتكدر خاطرها .. لكنها عزت ذلك لطبيعته الجادة ، أو ربما أنه يرى أن التزامه الديني ، يمنعه من أن يستخدم لغة غير رسمية ، وكلمات مجاملة ، مع امرأة ليست من محارمه . وقفت عند عبارته ، التي تمنى لها فيها التوفيق في حياتها المستقبلية . هي الآن في آخر سنتها الرابعة في الكلية ، وبقي على تخرجها سنتان . هل هــــذا هو ( المستقبل ) ، الذي تمنى لها التوفيق فيه ..؟ حين أعادت قراءة الرسالة ، وجدت أنه قد أشار إلى دراستها ، وتمنى لها التوفيق فيها أيضاً .. إلى جانب ( حياتها ) ، المستقبلية .

    طــــــافت في ذهنها خــواطر سيئة ، وقلبت أفكاراً سلبية : هل كانت حساباتها خاطئة .. أكانت سنوات من الوهم ..؟ ليس أقسى ، وأكثر فجيعة ، من أن تراهن على وهــم . تمــــضي سنوات عمرك .. تراه إلى جانبك ، بناءً عالياً ، صنعته من شوق ، وحب .. وتحسبه مشروع حياة ، ثم تفيق ذات صباح ، فلا ترى إلا سراباً ، وتتلمس .. وليس ثمة شيء . أمس رفــــضت العريس الثامن ، الذي يتقدم لخطبتها . أغلبهم زملاء في الكلية ، من دفعات سابقة ، تخرجوا أو على وشــك التخرج . متفوقون ويغلب على سلوكهم المحافظة والانضباط الشديد .
    علامة الاستفهام كبرت : هل فرّطت بمستقبلها ( الحقيقي ) ، متعلقة بسراب ..؟
    تتابع على خاطرها ، أسماء الشباب الذين تقدموا لخطبتها .. ورفضتهم . أكثرهم تدور أحاديث الطالبات الخاصة حولهم . لا تتذكر أن واحدة من الطالبات ، التي كانت توزع عليهن نسخاً من مقالات ( شهاب الإسلام ) ، تحدثت عنه بإعجاب ، ولو بطريقة عابرة .. رغم أن بعضهن يتبنين آراءً ، أكثر تطرفاً مما يطرح . تساءلت في سرها بمرارة : " كيف ربطت مستقبلها ، وعلقت قلبها ، بمعرف مجهول في الانترنت " ..؟ كيف لو عرفت زميلاتها ، أنها رفضت مستقبلاً لها ، مع خالد ، ومحمد ، وناصر ، وفهد ، وعبد الكريم .. من أجل شهاب الإسلام ، الذي يتمنى لها ( التوفيق في حياتها المستقبلية ) ..؟ لكن مع من ..؟ سؤال انغرز في قلبها ، مثل مخيط غار في كرة صوف . تعوذت من الشيطان ، وهي تفتح إحدى الصفحات الداخلية لكراسة محاضراتها ، وتتأمل عبارة كتبتها ، قبل سنتين ، بأكثر من لون : " شهاب الإسلام .. أضأت قلبي ..! " . إلى جانب العبارة في أسفل الصفحة ، ألصقت قصاصة مقال ، لشهاب الإسلام عنوانه : عائشة الصالح .. قبس من نور يضيء دهاليز كلية الطب " .
    مستقبلها الذي جعلت شهاب الإسلام أهم أركانه ، تشكل من حلمها .. بإنسان يؤمن برسالتها وليس بــ ( صورتها ) . نظرت إلى إقبال الزملاء ، على طلب الزواج بها .. أنه رغبة في جمالها ، وليس إيماناً برسالتها ، وتقديراً لدورها . في الكلية نفرت من زملائها ، الذين يتهافتون كالفراش ، على الجميلات . زميلاتها ممن لم يتوفر لهن حد أدنى من الجمال ، لم تشفع لهن جديتهن ومحافظتهن . التناقض بين المبادئ والأفعال ، بــــــــدا صارخاً ، وهي ترى فتيات يذبلن بين قاعات الكلية ، وممرات المستشفى .. لأن حظهن من الجمال قليل . بينما .. الرجال ، أصحاب الشعارات ، عندما لا يتوفر الجمال يبحثون عنه خارج الكلية ، لدى من هُنّ أكثر جاذبية .. بدعوى ( النقاء ) . تصبح الطالبة أو الطبيبة ، أقل نقاء وطهرانية ، إذا كانت أقل جــــــمالاً . هذا هو المبدأ ، الذي تتندر عليه ، هي وزميلاتها .. مقابل الهمس ، الذي يعلو أحياناً ، بين ( الذكور ) ، عن تبسّط طالبات الطب والطبيبات ، في علاقاتهن مع زملائهن الرجال .


    عن أنس رضي الله عنه قال
    : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن لله تعالى أهلين من الناس . قالوا : يا رسول الله من هم ؟ قال : هم أهل القرآن أهل الله وخاصته ) . (صحيح الجامع2165)






    تعليق


    • #17
      هي الآن تخطو خطوتها الأخيرة ، نحو نهاية مشوارها . ست سنوات مرت ، هي المسافة بين حلم طفلة التاسعة ، ومشروع امرأة الرابعة والعشرين . إحساسها بالاخــتلاف ، أصبح أعلى وتيرة ، وأسرع إيقاعاً . ليس فقط نظرة أهل بيتها وأقاربها ، الذين تعودت عليهم منذ سنوات ، ينادونها بالدكتورة . لقد تغيرت صفتها الأكاديمية كذلك . لم تعد طالبة ، بل صارت تسمى Residence ، أو طبيب مقيم . أصـبحت تدخل غرف العمليات .. لتشارك في رفع الألم ، وتخفيف المعاناة عن الناس . منظر الناس يسلمون أرواحهم .. طواعية لآخرين ، ويأتمنونهم على أجسادهم ، لم تكن عملية سهلة . استشعرت المسؤولية ، إلى درجة أنها في بعض المرّات ، تتردد في اتخاذ الخطوة الأولى ، لخوض تجربة معادة ومكررة ، ضمن روتين عملها اليومي .
      لم يكن ترددها في دخول غرفة العمليات .. الذي تفـــكر فيه ، ولا تعلنه ، نتيجة خوف ، أو رهاب من أي نوع . ثمة صراع يتنامى داخلها . فهي .. إزاء ما تراه من تقصير وتجاوزات ، تحدث في غرف العمليات .. تجاه المرضى ، طورت لنفسها معادلة صارمة : " يسلمك روحه .. تحافظ عليها ، يأتمنك على جسده .. لا تخونه " . معادلتها الصارمة ، التي لم تتهاون في تطبيقها ، كثيراً ما أدخلتها في جدالات حادة ، مع أساتذة وزملاء . اعترضت مرّة ، على وجـــود زميل بملابسه العادية في غرفة العمليات ، لأنه كما يقول ، وصل متأخراً ، ولم يجد الوقت لتبديل ملابسه . أصرت أن يبدل ملابسه ، أو أن العملية لن تبدأ ، كما هددت بالتصعيد .
      في مرّة ثانية كانت المشكلة مع زميلة . جاءت إلى غرفة العمليات ، كما لو كانت تدخل قاعة أفراح .. كما تقول . المكياج طبقات ، والعطور أنواع . أبدت استياءها في البداية ، ولكن .. حينما بدأ المكياج يسيح ويختلط بأحمر الشفاه .. قررت أن تتوقف ، وتوقف كل شيء . لم يكن الوضع يسمح بأي نوع من أنصاف الحلول . تم استبدال الزميلة بأخرى ، لكن القصة خرجت من غرفة العمليات .. ووصلت العميد . لم تحصل محاسبة ، ولا لفت نظر . لكن أصداؤها وتداعياتها ، ظلت تتردد داخل الكلية ، عبر التعليقات الساخرة ، التي يتداولها الطلاب والأطباء : غرفة العمليات صار يطلق عليها ( قاعة الديسكو ) ، أما العملية نفسها ، فأصــــــبح اسمها .. بين الطلاب والطالبات ، ( حفلة الدي جي ) .

      مسألة الانضباط المهني ، في غرفة العمليات ، تبدو يسيرة ، أمام موقفها الحاد والقطعي ، تجاه حماية خصوصية المرضى . حين يأتي دورها في الجدول ، لتكون ضمن الطاقم الطبي داخل غرفة العمليات ، تحدث حالة استنفار قصوى بين جهاز التمريض ، الذي سيتولى تجهيز المريض . التعليمات تنفذ بدقة ، بخصوص الأجزاء التي يمكن كشفها من جسم المريض ، الذي ستجرى له العملية . عندما يكون المريض أنثى ، تتابع شخصياً إجراءات تجهيزها لغرفة العمليات . في البداية واجهت إهمالاً ، أو تجاهلاً ، أو رفضاً من الأطباء .. بـــشأن طلباتها بهذا الخصوص . لكنها .. متسلحة بموقف شرعي وأخلاقي ، قاومت كل الضغوط ، وأساليب الإهمال والتجاهل . لم تكن تتردد في التعبير عن اعتراضها ورفضها ، لأي سلوك ترى فيه انتهاكاً لخصوصية مريض ، تحت أي تبرير . كثيرٌ من الألقاب والصفات ألصقت بها ، ويتم تداولها همساً ، بين بعض الأطباء مثل : ( حارسة العورات ) . تتصنع اللامبالاة أحياناً ، وتتظاهر بالقوة . لكن .. حين تخلو بنفسها ، يعتريها الضعف البــــــــشري .. فتــــــــــبكي . تحدث نفــــــسها : " الجميع يـــؤثر الســـــلامة " ، حتى ( الطيبون ) . في إشارة منها للأطباء المتدينين .

      كان قد بقي أمامها أسابيع لتتخرج وتصبح طبيبة عامة . لكن .. كأن قدرها يأبى إلا أن تنهي مسيرة حياتها الأكاديمية ، بحدث غير اعتيادي ، يضاف إلى سجلها الحافل بالمواجهات والمصادمات والمواقف المدوية . كان يوم اثنين ، خرجت من البيت صائمة ، جدولها اليوم مزدحم . أوصلها السائق إلى المستشفى ، متأخرة خمس دقائق . صعدت إلى القسم ، وأنهت تحرير بعض الأوراق . كانت هناك جولة على بعض المرضى ، حرصت أن تنهيها قبل التاسعة ، حيث أن موعد عملية ، ستكون ضمن طاقمها .. سوف يكون السـاعة التاسعة وعشرون دقيقة . لم تنس أن تتصل بجهاز التمريض ، لتؤكد على تجهيز المريض . صار لها عادة أن تصلي ركعتين ، قبل كل عملية تدخلها .. فاتجهت إلى مكتبها وَصلّت . وصلت غرفة العمليات في التاسعة وخمس دقائق . مريضة اليوم شابة في بداية عشريناتها ، تشتكي من فتق مزمن أسفل البطن . كانت المريضة قد وصلت ، فاتجهت إليها وطمأنتها ، وهدّأت من قلقها . بعد عشر دقائق ، اكتمل وصول الطاقم الطبي .
      بدأت العملية ، ومرّت النصف ساعة الأولى بشكل اعتيادي . انتبهت بعد ذلك ، أن الطبيب ومساعده ، يتبادلان إشارات بالأعين . لم تفهم طبيعة هذه الإشارات ، ولم تجد لها تفسيراً .. إلا حين لاحظت أنهما يتعمدان إزاحة الغطاء عن بعض أجزاء جسد المريضة ، بطريقة تبدو عفوية . توترت .. لم يكن بمقدورها أن تفعل شيئاً ، سوى ملاحقتهما ، وتغطية الأجزاء التي تتعرض للكشف . انتهت العملية ، لكنها شعرت بإحباط شديد . مبدؤها : " يأتمنك على جسده .. ولا تخونه " . ، صار يلح عليها بأن تفعل شيئاً . في طريقها لغرفة تغيير الملابس ، قلبت الأمور ، فرأت أنه ليس لديها الكثير لتفعله . سلوكهما بدا عفوياً وتلقائياً ، ولا يمكن إدانتهما بأي شكل من الأشكال . أي تصعيد ، سيكون بالضرورة ضدها .


      عن أنس رضي الله عنه قال
      : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن لله تعالى أهلين من الناس . قالوا : يا رسول الله من هم ؟ قال : هم أهل القرآن أهل الله وخاصته ) . (صحيح الجامع2165)






      تعليق


      • #18
        عندما انتهت من تبديل ملابسها ، غسلت وجهها واسترخت على أحد المقاعد . التوتر مع الصيام أرهقها ، والحدث زادها مرارة . مرت ربع ساعة ، شعرت أنها أكثر هدوءاً . نهضت وتوجهت خارجة من غرفة العمليات ، ثم خطر لها أن تمر على المريضة في غرفة الإفاقة ، لتطمئن عليها . حين أزاحت الستارة ، فوجئت بمنظر صدمها . المريضة ما زالت في غيبوبتها ، عارية تماماً .. الغطاء مرفوع عنها ، والطبيب ومساعده يتأملانها . صرخت :
        - حسبي الله عليكم ..! هذا والله خيانة وإجرام ..
        فوجئا بوجودها فارتبكا ، وحاولا استيعاب المفاجأة ، بالتظاهر بأنهما يقومان بإجراء روتيني ، لمتابعة حالة المريضة ، وذلك بالتهامس والإشارة لموضع العملية ، ثم إعادة تغطية المريضة . لم تنجح محاولتهما في تهدئتها ، أو الحد من انفعالها ، رغم أن الطبيب حاول الاستخفاف بها ، والظهور بمظهر الواثق من نفسه .. حين قال :
        - روحي لبيتكم يا شاطرة .. أحسن لك .

        استمرت في توجيه عبارات التوبيخ والتوعد بتصعيد الموضوع .. والتهديد بمقاضاتهما . صوتها المرتفع ، جعل بعض الأطباء والعاملين ، يتوجه لمصدر الصوت ، لتقصّي الأمر . حرج الطبيب ومساعده ، ازداد مع تكاثر الأشخاص ، الذين دفعهم الفضول للقدوم ، لمعرفة ما يجري . كانت تتكلم عن " خسة ونذالة .. وخيانة للأمانة وشـــرف المهنة " ، دون أن يدري الموجـــــودون ، ما الذي حـــدث بالضبط . بعض الحضور ، ظن أنها قد تعرضت للتحرش .. إلى أن قالت :
        - لقد مسكت سعـــــادة الدكتور بسام ومساعده متلبسين ، بجريمة كشف عورة مريضة . إن الأمر لا يقف عند الاعتداء على شرف الناس ، وهذه بحد ذاتها جريمة ، بل كذلك .. خيانة للعهد والميثاق وشرف المهنة .
        رد الدكتور :
        - أنتم تعرفون الأخت .. مريضة بالوسواس ..
        - المريض يا دكتور ، هو الذي لم يردعه دين ، ولا سن ، ولا شرف مهنة ، عن كشف عورات المرضى النائمين .
        - ما قلت لكم ..؟ الأخت مهووسة بشيء يتداوله المتطرفون في الانترنت ، اسمه العورات النائمة .. وهناك من يحرضها من متطرفي وإرهابيي الانترنت .
        ثم أراد أن يحول الأمر إلى سخرية منها ، وتكريساً لاتهامه لها بالوسواس ، وصلتها بمن يسميهم متطرفي الانترنت .. فقال :
        - الأخت تحب القيادة والزعامة والأضواء .. ما يكفيها أنها اشتهرت في الكلية باسم ( الملا عمر ) ، بسبب سلوكها المتطرف ، البعيد عن المهنية . لذلك .. أقترح .. لإرضاء هوسها ، نسميها زعيمة ( حزب العورات النائمة ) .
        ثم اصطنع ابتسامة ، وصار يتلفت نحو الموجودين ، لينال تأييدهم ، ومشاركتهم السخرية منها .. لكنها ردت :
        - الدفاع عن عورات المسلمين النائمة ، ضد لصوص الأعراض مثلك ، يا سعادة الدكتور .. شرف . من هو المسكون بفوبيا الجنس .. أيها التنويري ، من نوع تلك الشعارات الفارغة التي دائماً ترددها .. لتسويغ الانحراف ..؟ والله العظيم لن يمر الحادث بسهولة ، وإن لم تتخذ الكلية إجراءاً .. إني لأصعد الأمر لوسائل الإعلام .

        لم يتخذ إجــراء من أي نوع ، ولم تجرِ حتى مساءلة .. وحرصت عمادة الكلية ، وإدارة المستشفى ، على احتواء الموضوع ، والتكتم عليه .. حفاظاً على سمعة الكلية والمستشفى . كـــــــــثير من حقوق الناس تهدر ، لتبدو صـــــــورة المؤسسات الرســـــمية ( كاملة ) . يموت الناس ، أو يتعرضون للأذى .. بسبب إهمال الأطباء ، أو تعدي الأفراد ، على الموقوفين في المراكز الأمنية .. ولا يحاسب أحد ، لأن هذا يضر بسمعة الوزارة المعنية ، التي ترخص أمام ( نزاهتها ) المزعومة ، أرواح المواطنين . تساق قضية ( الخصوصية ) دائماً ، لتبرير عدم مساءلة أي مسؤول ، أو محاكمته علناً على تقصيره . أطرف تعليق على هذا الوضع الشاذ ، ما سمعته مرّة من إحدى صديقاتها : " في العالم .. غيرنا ، حين يعيث المسؤول فساداً ، في حياة الناس وأموالهم .. يستقيل أو يحاكم ، أما عندنا .. فلا هذا ولا ذاك ، لأن لنا ، كما يقولون ( خصوصيتنا ) ، وقاعدتها الذهبية : " صورة الحكومة أولاً ، وسمعة المسؤول ثانياً .. وليذهب المواطن إلى الجحيم " . عائشة .. على أساس من قناعات وتجارب سابقة ، كانت تتوقع موقفاً مثل هذا ، لكنها .. نجحت في تسريب الموضوع إلى الصحافة .. إلى الأستاذ سعد ، كاتب عــــمود صحفي مشهور ، فدارت سجالات حول القضية ، تؤكد على وجوب حماية خصوصية المرضى ، واستحداث نــــظام للملابس ، داخل غرف العمليات .. يحميهم من العبث والتجاوزات .
        الميدان الآخر للحدث ، كان أحاديث أفراد المجتمع ، ومنتديات الانترنت . ظل النقاش حاداً وساخناً ، لأكثر من شهر .. مما خلق رأياً عاماً ، يطالب بوضع قوانين تحمي المرضى ، وتعاقب من ينتهك حرماتهم . الحادثة نفسها وتداعياتها ، أشاعت حالاً من الحذر والخوف ، لدى أفراد يقعون في انتهاكات لخصوصيات المرضى ، أو تقصير في حقهم . هناك حديث مرتفع ، عن تحرشات يقوم بها بعض العاملين الذكور في المستشفيات . يتردد أن هناك عبثاً واستغلالاً جنسياً ، لبعض المريضات ، من قبل أشخاص ، يعملون في قطاعات فنية مساندة في المستشفيات ، يزعمون أنهم يتلقون توجيهات من أطباء ، مستغلين جهل المرضى وذويهم .


        عن أنس رضي الله عنه قال
        : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن لله تعالى أهلين من الناس . قالوا : يا رسول الله من هم ؟ قال : هم أهل القرآن أهل الله وخاصته ) . (صحيح الجامع2165)






        تعليق


        • #19
          بعد الفضيحة .. التي صارت حديث الناس ، صار هناك توجس . لا أحد يرغب أن يضع نفسه ، في موقف مثل الذي حصل للدكتور ومساعده . الأمر في بعض مراحله ، كاد أن يكون أكثر خطورة ، لولا تدخل بعض الأشخاص ، من داخل الكلية .. لدى عائشة . كانت قد هددت ، إن لم يتخذ إجراء وعقوبات رادعة ، بأنها ستبلغ أولياء المريضة ، بالفعل الذي ارتكبه الدكتور ومساعده .

          صدمة عائشة ، لم تكن من الفعل فقط .. على بشاعته . بل من الطبيب نفسه . يقدم الدكتور بسام نفسه ، ويعرّفه زملاؤه ، على أنه ليبرالي تنويري ، يناصر حرية المرأة ، وحقها في العمل ، ويدافع عن الحريات عموماً . كثيراً ما وصف الدعوات التي توجه إلى عمادة الكلية ، أو لوزارة الصحة ، بتنظيم عمل المرأة في القطاع الصحي .. بما يوائم عادات المجتمع وتقاليده ، والحد من الاختلاط .. غير المبرر ، بين الجنسين ، بأنها ( فوبيا ) جنسية ، يروّج لها ( المتزمتون ) ، المسكونون بميكانزم غريزي ، يجعلهم ينظرون للمرأة ، على أنها هدف جنسي متحرك . جاءت الحادثة ، ليس فقط ، بمثابة الفضيحة للدكتور بسام ، ولتسقط صورة المثقف ، التي صنعها لنفسه . بل كذلك .. لتكشف حــــقيقة موقفه من المرأة ، و( الأجندة ) التي يقوم بتسويقها ، حول حقوق المرأة . كما أن وقوف بعض زملاء الدكتور إلى جانبه ، ومساندتهم له .. على فداحة الفعل الذي ارتكبه ، جعلها تقطع أن دعاوى الحرية والليبرالية ، التي يدعيها بعض الأشخاص ، ليست إلا شعاراً فارغاً ، لسلوك شهواني . أمْرٌ كانت تدركه ، وتعرفه حق المعرفة ، لكنها كثيراً ما تدخل في جدالات ونقاشات ، حول حقيقته ، وإمكانية إثباته . قالت للدكتور نايف ، وهو زميل للدكتور بسام ، تبنى حـــملة للدفاع عنه :
          - أفهم أن تنادوا بحق امرأة أن تتبرج ، لكن كيف تدافع عن زميلك الذي يعرّي امرأة نائمة ، معتدياً على أهم حقوقها .. خصوصية جسدها ..؟ هل تريد أن تقنعني أن المريضة النائمة ، كانت في حالة ( سلوك ظلامي ) ، وأن زميلك الدكتور بسام ، كان يمارس ( فعلاً تنويرياً ) ويعبر عن سلوك ليبرالي ..؟!

          الحدث صار حديث مجتمع الجامعة ، وربما انتقل خارجها ، لكن عين عائشة وقلبها ، كانا في مكان آخر . ماذا كتب في الانترنت عن الموضوع .. وما الذي كتبه شهاب الإسلام تحديداً ..؟ شقيقها أحمد ظل يزودها بكل ما دار في الانترنت حول الحادثة وتداعياتها . مكثت هي أسابيع ، تتابع الإنترنت بنفسها ، وَتَطّلع على ما يحضره أحمد لها . لم تجد شيئاً لشهاب الإسلام . نفد صبرها ، فسألت عنه أحمد ، الذي كان يتوقع سؤالاً مثل هذا .. قال :
          - تابعت كل ما كتب .. لم أجد شيئاً لشهاب الإسلام ، ولم يرد على البريد الالكتروني ، الذي أرسلته إليه بهذا الخصوص .

          أحمد كتم عن عائشة ، كلاماً سمعه عن شهاب الإسلام .. وهي ظلت تترقب . بعد أيام ، بعض زميلاتها اللائي يعرفن اهتمامها بما يكتب شهاب الإسلام ، سَرّبن لها كلاماً منسوباً إليه ، في أحد مواقع الانترنت .. مفاده : " موقفها جيد ، لكن ما الذي يجيز لها أن تبقى في غرفة العمليات ، مع رجال أجانب ، يتكشّفون عورات المسلمين ..؟ ! " . سكتت ولم تعلق ، وحاولت أن تستبعد صدور هذا الكلام منه . صار الموضوع هماً ، لم تطق الصبر عليه ، فصارحت أحمد بما نقل إليها . لم يشأ أن يؤكد لها الموضوع ، الذي تواتر عنده من أكثر من مصدر . خشي أن يسبب لها صدمة . قال :
          - سمعتُ مثلك هذا الكلام .. لكني لست متأكداً من أنه فعْلاً قاله ..!

          هزت رأسها ، وهي تنصرف لغرفتها .. وتغالب ، لتبدو تعابير وجهها طبيعية . لم يكن ردّه مقنعاً .. ولم تعلق . لكنها .. شعرت بجرس يُقْرع في قلبها . للحزن ، والرحيل ، والفقد .. طعم واحد ، وأصواتٌ متعددة . قَرَأَتْ مرّة .. أن الريح تعوي في الأطلال الخربة . حين ضمت ساعديها إلى صدرها ، وتلمست أضلاعها ، تحسست صوتاً ، كأنّ صخبه في أذنيها.. تساءلت : أهذا صوت عواء الريح في قلبي ..؟
          على مشارف عامها السادس والعشرين .. تلتفت ، ثمة إنجازات كبيرة ، على أكثر من صعيد . الذين حولها يقولون : ما زلت صغيرة .. المستقبل أمامك ، لديك الكثير لتحقّقينه . اليوم .. حين أحست بذلك الدويّ في صدرها ، أدركت أن لا شيء في قلبها تحقق ، منذ أول خاطر ، تسلل عبره شهاب الإسلام إليه : أطلال .. وريـــح تعوي . نحن لا نقيس انــــــــجازاتنا .. فقط ، بما حققناه .. لندهش الآخرين ، فيصفقوا لنا . للقلوب مساحة من زمن ، تزهر فيها .. قــصيرة ، إن لم يأتِ ربيعها بــ( وسمي ) ، فليس إلا عطش الدهر .. وحزن الأبد . المستقبل بدا موحشاً وعدماً ، وحديث القلب : شُختِ .. ليس ثمة وقت لأحلام ..!


          عن أنس رضي الله عنه قال
          : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن لله تعالى أهلين من الناس . قالوا : يا رسول الله من هم ؟ قال : هم أهل القرآن أهل الله وخاصته ) . (صحيح الجامع2165)






          تعليق


          • #20
            كانت جالسة على طرف سريرها . أرهقها الهم ، فلم تخلع حتى معطف المستشفى الأبيض . الأفكار كانت قد أخذتها بعيداً ، حين دقت نغمة جوالها ، معلنة استلام رسالة . سحبت الجوال من جيب معطفها ، ووضعته على منضدة الزينة . ترددت في فتح الرسالة . سئمت من كثرة الرسائل ، التي وصلتها ، حول قضية الدكتور ومساعده ، إما استفساراً عن الموضوع ، أو إشادة بموقفها .
            حين بدلت ملابسها ، ألح عليها فضول غير عادي ، بأن تفتح الرسالة التي وصلتها قبل قليل . التقطت الجــــــــوال واستلقت على سريرها ، فتحت الرسالة .. لم تكن من النوع الذي اعتــــــادت استلامه مؤخراً : " لكم باقة ورد ، لــــــــدى محل ( الفصول الأربعة ) للورود . نرجو الاتصال ، لإعطاء مندوبنا وصفاً لعنوانكم . رقم الطلب 5/5/24 " . اعتدلت في جلستها . غمامة فرح ، بدأت تتشكل على محياها . قسماتها غدت أكثر إشراقاً ، وابتسامة صارت تنمو في ثغرها . شعور بالبهجة ، تحسه يجتاحها ، ويكاد يرفعها عن الأرض .. كأنها على بساط ريح . همست لنفسها : " شيء رائع ، أن يأتيك ورد بعد أن أصبحت المشاهد كلها .. بلون رمادي ، ولم يعد لإيقاع الحياة طعم .. أو لون " . تحب الورد ، ولا تتفق مع الرأي الرافض له ، على أساس من موقف ديني . ليس في تهادي الورد تقليداً لكافر . سمعت هذا الرأي من أكثر من عالم موثوق . تحتفظ بذاكرتها بموقف جميل عن الورد ، ترويه إحدى زميلاتها . تحدثت الزميلة عن زوجها الذي غاضبها مرة .. فندم . ثم اختلس .. في ذات الوقت ، فرصة انشغالها ، بأمر ما ، وأشترى لها وردة ، أرفقها ببطاقة كتب فيها : " أفتقد الذوق أحياناً " . كان للوردة ، والعبارة ، والموقف .. فعل السحر ، تقول الزميلة .
            الورد مظهر من مظاهر الجمال .. أو هو أبهى مظاهر الجمال .. و " الله جميل يحب الجمال " . لكنها .. تكره المغالاة والتباهي ، في إهداء الورد ، مثل ذلك الذي تراه يحدث في المستشفى .. بين النساء خصوصاً . تذكر أنها دخلت على إحدى المريضات ، فوجدت حول سريرها ورداً ، قيمته لا تقل عن عشرة ألاف ريال . عرفت السبب . كل صاحبة باقة ورد ، تبرز اسمها بشكل واضح على باقتها ، فتأتي أخرى تزايد عليها ، فتهدي أغلى منها .. وتجعل اسمها بارزاً .. وهكذا ..! المريضة لاحظت اندهاشها من العدد الكبير من باقات وآنية الورد .. فقالت مزهوة : " أنا سعيدة .. الورد جميل " . فاجأها ردّها : " ألا ترين أنه يصبح قبيحاً ، عندما يتحول إلى مباهاة وتبذير " .

            اتصلت بمحل الورد ، وأعطتهم وصفاً لعنوان البيت . بانتظار وصول الهدية ، أخذت تستعرض في ذهنها من قد يكون المرسل . اليوم الخميس ، لا تتذكر مناسبة توافق هذا التاريخ . رجحت أن تكون إحدى صديقاتها .. في الكلية أو المستشفى ، أو ربما أحدٌ من عائلتها ، مهتم بها ، وهي لا تعلم .. أو قد يكون شخصاً قدر موقفها ، في موضوع عورات المرضى النائمين . وصل مندوب الفصول الأربعة ، واستلمت الباقة . كانت جميلة جداً ، فتلهفت لمعرفة المرسل . التقطت البطاقة المرفقة ، التي كانت كبيرة ، خلاف البطاقات ، التي ترفق عادة مع باقات الورود .. وشرعت تقرأ :
            " سيدتي الجميلة ، أنت لا تعرفينني ، ولستِ بحاجة لأن تعرفينني . جئتُ مرّة .. قبل عام إلى الطوارئ ، ومعي طفلتي المريضة ، وهي في حال يرثى لها ، من المرض وعدم النظافة . كان اهتمامك بها ، ورعايتك لها ، ولمستك الحانية ، ومتابعتك لحالتها ، شيء لا يفعله .. إلا إنسان يمارس فعله عن إيمان . ثم كان خطابك المطَمْئِن ، اللطيف ، المؤدب لنا .. الــــذي غمرنا بشعور من الأمان والسكينة .
            أعتقد أن وجود مثلك ، ليس في هذه الأماكن فقط ، بل في حياة الناس ، ضرورة كونية ، لكي لا يختل ميزان القيم ، وليكون للحياة معنى .. كذلك .
            لقد سألت عنك وقتها ، وأُخْبِرتُ باسمك ، وعلمت أنك طبيبة تحت التدريب ، ولم تتخرجي . بقيت أسأل عن موعد تخرجك ، فعلمت أنه يوم السبت ، فأردت أن تكون لي مشاركة بالفرحة ، بإنجاز إنسان رائع خَـلاّق مثلك .
            حين أردت أن أشاركك فرحتك ، فكرت بروحك الجميلة ، التي لا يهمها ما يلمع وما يبرق . أعلم أنه يستهويك ما يستهوي النساء ، لكن قيمتك لدي .. لا أستطيع أن أصل إليها . ليس لأن حالتي المادية لا تسمح ، بل لأني أؤمن .. وأحلف بالله العظيم ، أنك أسمى من جواهر الأرض كلها .
            أؤمن بأن إنساناً ، بمثل أدبك ، وأخلاقك ، وجمال روحك .. لابد أن يكون هو نفسه مصدراً للجمال ، ومُستَقْبِلاً للجمال . أؤمن أيضاً ، أن الورد ، من حيث هو ، تعبير عن قيمة جمالية سامية ، ورمز لأسمى معاني التواصل الإنساني .. يمثل مشتركاً ثقافياً إنسانياً . أما أعلى درجات إيماني ، فهي أن كينونتك ، أصدق معنى للحضور الإنساني ، وحضورك الفاعل في حياتنا .. أبهى صورة للجمال ، لذلك أهديتك ورداً ..
            ســـــــــــــــــلامي ، ومودتـــــــــــــي .. ودعــــــــــــــــــــــائي " .
            محمد ..


            عن أنس رضي الله عنه قال
            : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن لله تعالى أهلين من الناس . قالوا : يا رسول الله من هم ؟ قال : هم أهل القرآن أهل الله وخاصته ) . (صحيح الجامع2165)






            تعليق


            • #21
              كانت الدموع تترقرق من عينيها ، وهي توالي قراءة البطاقة .. تنتقل من كلمة لأخرى ، لتعود لقراءة الجملة مرّة ثانية . لا تدري .. هل تفرح للورد ، أو للّغة العذبة السامقة ، أم للّفتة الجميلة .. بالاحتفاء بتخرجها ، من إنسان غريب . هي نفسها ، رغم أهمية المناسبة لها ، لم يرتقِ اهتمامها بها ، إلى هذا المستوى . لا تدري هل هو بسبب خيبات القلب ، أو لأن الحدث ، بعد سنوات الدراسة الطويلة ، صار تحصِيلُ حَاصِل . في الأشهر الأخيرة ، صارت تمر بحالات هبوط نفسي ، تحس بها.. تؤزّمها ، وتغمسها في مستنقع يأس ، ثم تهوي بروحها إلى أعماق . لولا زحمة العمل ، التي أصبحت تتعمد أن تغرق نفسها في بحرها .. لتهرب من واقعها ، لاختنقت في جُبِّ أزمتها .
              تتأمل الورد وتتلمسه ، ثم تعـــــــود تقرأ البطاقة . أحست بـروحها تصعد . تغادر رويداً .. رويداً ، حضيض بؤس ، هوت في أعماقه ، وحين وصلت إلى الكلمة الأخيرة ، شعرت كأنها على رأس قمة .. حولها فضاء مفتوح .. ومدى لا نهائي . تنـــهدت بعــــمق : " كم هو مبهج ، وباعث على الأمل ، أن تمتد لك يد غريبة .. لم تنتظرها ، لتنتشلك من قاع ، لم يدرك من حولك ، كم صار لك ، تتردّ!ى في قراره " .
              يتوغل الألم في داخـــلنا بقسوة ، حين يَنْفُضْ الذين نحبهم أيديهم منّا ، وينفَضّون عنا .. يتركوننا ، نغوص في لجة أحزاننا . نواجه عناءنا ، بقلوب أفرغها الفقد ، من أي رجاء .. ونزعت منها ، رياح الوحدة والوحشة .. كل الأشرعة .

              عابرون كثيرون في حياتنا .. بذات الجمال ، والثراء الروحي ، ويملكون فيضاً من المشاعر والأحــــاسيس ، لا ندرجهم ضمن ( قائمتنا ) المهمة .. لأننا وضعنا لها معايير ، لا علاقة لها بالقيم الخَلاّقة للفرد .. من حيث هو إنسان ، يمكن أن يضيف لحياتنا الحقيقية شيئاً . كم من مثل صاحب الرسالة ، افتقدوا فقط .. آلية التواصل معنا ، ليسكبوا مثل هذا الفيض في أرواحنا . لم يكن .. لأنهم يحتاجــــون أن ( نحــسن ) إليهم ، لنستحثهم على فعل ذلك ، فتنثال مشاعرهم نحونا . بل لأننا .. خلقنا ( حدوداً ) ، تحدد جغرافيتنا ، ووضعنا نقطة عبور واحدة .. نحونا ، لأفراد منتخبين ، وفق معايير ، لا علاقة لها بما تحتاجه أرواحنا ، ويحتاجه الإنسان فينا . نخسر كثيراً ، مشاعر دفاقة بهذا الحجم .. نحتاجها ، من أناس بسطاء . لأن فرصتهم لكي يبــوحوا بها ، لا تَتَأتّى إلا مرّة واحدة .. لحظة نشرع أبواب قلوبنا لهم .إن لم نفعل ذلـــــك في ساعة ( صفر ) ، يفرضها قدر لقائنا بهم ، على ناصية لحظة من زمن حياتنا .. فلن يحــــدث ذلك مطلقاً . سيبتلعهم إيقاع الحياة ، الذي يسرق أعـمارهم ، في ساعات لهــاث خلف لقمة عيش .. فـــلا يعودوا ، وتخوننا معاييرنا ، التي لم تمنحهم الفرصة .. فتقصيهم ونخسر .

              وضعت الورد في مستطيل زجاجي ملأته بالماء ، بعد أن استلّت منه وردة جوري ، وضعتها على وسادتها . ألصقت البطاقة بطريقة أنيقة ، في الزاوية العليا اليسرى لمرآة منضدة الزينة . في هذه الأثناء قرع باب غرفتها .. كان صوت أمها تستأذن . أسرعت وفتحت الباب ، وبهجة طافحة على وجهها .. بادرتها والدتها :
              - منوّره .. أكيد هناك أخبار سارة . لم أرك من أمس يا عيوّ ... يا عائشة ، اشتقت لك ..!
              انتبهت أنها كانت ستناديها يا عيوش ، وهو الاسم الذي كانت تدللها به ، منذ كانت صغيرة .. وإلى وقت قريب . قالت مُداعبة :
              - لأنك لم تعودي تدلليني ..! حتى عيوش صرت تستكثرينه علي .
              - لا والله .. لكـــــني أحس إنك صرت كبيرة ، وقلت يمكن أن يحرجك تصغيري لك .. خاصة وأنه بقي يومين وتصيرين دكتورة ..
              قالتها وهي تبتسم . ضمتها عائشة وهي تقول :
              - ما فيه أحلى من عيوش على لسانك .
              انتبهت لإناء الورد ، ولوردة الجوري على وسادتها فقالت :
              - عندك هدية ثمينة من النوع الذي تحبينه ، خسارة .. فيه أحد سبقني في تكريمك ..!
              لم تعلق .. لكن والدتها لاحظت البطاقة الملصقة بعناية على المرآة ، فاقتربت وقرأت مقتطفات منها .. وتوقفت عند التوقيع ، الذي لم يعطها أي دلالة على صاحبه . التفتت إليها ، وفي عينيها علامة استفهام . ابتسمت عائشة ، وعرفت ما يدور في خلدها .. فقالت :
              - هذه شهادة تخرجي الأولى ، وقعها ( إنسان ) لا أعرفه .. لكنه منحني وثيقة عبور ، لأكتشف كينونتي ، وقيمتي الحقيقية .. وأهداني ورداً . الجامعة .. يا أمي ستقدم لي يوم السبت ، وثيقة تخرجي الرسمية ، بوصفي طبيبة مجازة ، وستمنحني ورقة ، تسميها مرتبة شرف ، سأضيفهما لمجموعة الأوراق التي كدستها في خزانتي . هذا هو الفرق يا أمي .
              ابتسمت ابتسامة خفيفة ، وهزت رأسها ، ثم ثَبّتت نظراتها على وردة الجوري ، الملقاة على الوسادة البيضاء ، المطعمة بتشجيرات صغيرة من الأحمر والأخضر .. تحاول أن تبحث عن علاقة ما ، بين مكانها على الوسادة ، وبين البطاقة المعلقة على المرآة بأناقة . علقت عائشة :
              - آه .. وردة الجوري ..! انتزعتها من الباقة ، ووضعتها على الوسادة . كنت أستعد للنوم ، وأردت أن أحلم أحلاماً وردية .. مزيج من البياض الذي ملأتني به الرسالة ، ولون الوردة .
              - الله يجعل أحلامك كلها وردية يا عيوش . غداؤك جاهز .. سأضعه في الثلاجة ، وإذا قمت سخنيه .. يا عيوني .


              عن أنس رضي الله عنه قال
              : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن لله تعالى أهلين من الناس . قالوا : يا رسول الله من هم ؟ قال : هم أهل القرآن أهل الله وخاصته ) . (صحيح الجامع2165)






              تعليق


              • #22
                خرجت وسحبت الباب خلفها بهدوء .. وفي الوقت الذي كان صوتها ، يتناهى إلى داخل الغرفة ، طالبة من إخوانها الصغار عدم إزعاجها ، لتخلد إلى النوم ، كانت عائشة تضع رأسها على الوسادة ، ووردة الجوري تتمدد أمام عينيها ، على طرف الوسادة البيضاء المشجرة ، مثل حورية بحر ، استلقت بضجر ، على شاطيء رملي أبيض، تناثرت فوقه الأصداف، وأعشاب البحر .. بانتظار ( فارس ) ، أخلف موعده .

                يوم السبت كان استثنائياً لدى أم أحمد . ما أن خرجت عائشة في الصباح ، إلى المستشفى ، حتى حولت البيت إلى ورشة عمل . عند العودة من المدارس .. كل فرد من العائلة أوكلت إليه مهمة :
                - ستعود عائشة اليوم مبكرة من المستشفى .. لتستعد للذهاب إلى حفل التخرج الليلة . كل شيء يجب أن يكون قد انتهى قبل رجوعها .
                كانت قد وضعت برنامجاً لحفلة مصغرة .. بين المغرب والعشاء ، قبل أن تذهب إلى الحفل في الجامعة . تقتصر الحفلة على الدائرة القريبة من الأقارب ، الأعمام والعمات والأخوال والخالات .. وبناتهم الكبيرات . بعد ساعات من العمل ، تحول البيت إلى لوحة جميلة من الزخرفة والزينات . صُفّت الهدايا بطريقة بديعة في الصالة الرئيسة . في غرفة الطعام ، تم تنظيم المائدة بذوق فنان . تقتضي الخطة أن يتم استقبال عائشة ، حين عودتها من العمل عند باب البيت ، ثم يتم عصب عينيها ، واقتيادها إلى غرفتها ، حتى لا ترى أياً من مظاهر الاحتفال ، ولا تخرج إلا حين يصل الضيوف بعد صلاة المغرب .
                سارت الاستعدادات وفق الخطة المرسومة . بهجة عائشة لا توصف ، حين خرجت من غرفتها . أدهشها مستوى التنظيم ، وجمال مظاهر الاحتفاء . الحفاوة البالغة من أقاربها الرجال ، ضخ فيها روحاً غير عادية . عبارة عمها ، الذي يكبر والدها .. حملتها إلى سماوات :
                - عائشة .. دعوت الله ألاّ أموت ، حتى أشهد هذه المناسبة .
                مفاجأتها بكلام عمّها جاءت بسبب الإشاعات التي رُوّجت ، أنه كان ممن سعوا لدفع أقاربها للضغط على والدها ، لمنعها من دخول كلية الطب . كان في خاطرها شيء عليه ، فأسعدها أن تسمع هذا الكلام منه .. خاصة وأنه اشتهر في الأسرة بورعه وتقواه . أخذت رأسه وقبلته بشدة ، وصارت تلثم يمينه وشماله ، وتقول :
                - هذا الكلام .. أغلى وسام ..
                شكرت الجميع على حضورهم ودعمهم .. ثم قالت :
                - ما كنت لأكـــــون شيئاً .. لولا هــــــذا الرجــــــــل .. إن كــانت عــــــــائشة أصبحت ( شيئاً ) .. فهو من جعلها كذلك ، وحال دون أن تكون رقماً ، ضمن ألاف الإناث .
                ثم أشارت إلى والدها ، الذي امتلأت عيناه بالدموع .
                كانت على وشك أن تنصرف إلى والدتها والمدعوات في الداخل .. حين تذكرت وصية والدتها لها ، بأن تشكر أعمامها وأخوالها على هداياهم .. فاستدركت :
                - حضوركم أهلي .. واحتفاؤكم بتخرج ابنتكم أعظم هدية ، وهداياكم القيّمة ، يعجز العرفان بالجميل .. مهما بلغ ، أن يَفِيكم حقكم ، بما تكــلفتم به .

                حفل النساء كان مهرجاناً آخر من الحفاوة والفرح . احتفى بها الجميع ، وعبّروا عن فخرهم بها . روت لها البنات ، كيف كُنّ يتداولن أخبار تفوقها ، ومواقفها داخل الكلية ، بكثير من الاعتزاز .. بين زميلاتهن وصديقاتهن ، ويفتخرن بقرابتها لهن . هي بدورها عبّرت عن امتنانها وشكرها ، وكررت كثيراً ، شعورها العميق بالحب والعرفان للجميع ، وخصت والدتها بثناء خاص :
                - لولا أمي ما كنت طبيبة .. والله لولاها ما كنت سأصبح طبيبة . ألمها هو الذي خلق الفكرة الأولى في عقلي ، وحبها ، ورعايتها ، وتشجيعها ، هو ما جعلني أصمد أمام طوفان الخذلان والتثبيط .
                ذكرت كيف أنها في بعض الأحيان تأتي من الكلية تبكي ، من موقف مرّ بها ، أو ظلم وقع عليها .. فتأخذها في أحضانها ، حتى تسكن وتهدأ .
                - من يملك حضناً يلوذ به ، وصدراً يسكن إليه ، ألا يستطيع أن يقاوم أعتى الأعاصير ..؟ بلى .. يقاوم والله .
                يحمر وجه والدتها خجلاً ، وتتمتم : " عائشة تبالغ " . فتضمها إليها ، وتقول .. مؤكدة للحضور أثرها عليها :
                - يا بعد عمر عيّوش أنتِ ، والله ثم والله ، ما أنسى نظرتها ، مع نافذة غرفتها ، إذا خرجت الصباح للكلية .. كأنما ترسل نظراتها معي ، تحفني وترعاني ، ولا وقفتها عند الباب ، إذا رجعت بعد العصر .. وابتسامتها تدعوني لأحضانها ، وهي تردد : " عقبال ما أفرح بك يا دكتورة " .
                خالتها هَيَا ، أم عبد السلام الياسر ، ( شهاب الإسلام ) ، التي كانت حاضره .. عقبت على كلامها :
                - تستاهلين يا عائشة . ما تلام الوالدة .. مثلك يرفع الرأس . عقبال ما نفرح بك الفرحة الكبيرة ..!
                أدركت عائشة ، أنها بعبارتها الأخيرة ، كانت تلمح للزواج . انتفض قلبها ، مثل عصفور بللته غمامة . هل خالتها تريد أن توصل لها رسالة من شهاب الإسلام ؟ هل الشائعات التي تقول أنه لا يفكر فيها ، وأنه يبحث عن زوجة .. ليست صحيحة ، وأن خالتها أرادت بجملتها هذه ، أن تدحض هذه الشائعة ..؟ وجع الأيام السابقة ، أحست به ينسل من قلبها ، مثل شوكة تنزع من أخمص قدم . كمية هائلة من الهواء زفرتها .. فاتسع صدرها ، كأن ثقلاً أزيح عنه .. أو كأنها لم تتنفس منذ أيام .
                تَعجْب من حالات القلب : كيف تغدو به وتروح ، كلمات ومواقف . كيف يتعلق بــ ( غائب ) ، يهيم النهار كـــله ساهياً .. لا يدري عنه ، وفي الليل يحضن وسادة .. ربما ، وينام ملء عينيه .. ساكناً ، لا يتحرك منه ، إلا بضع قطرات من ريقه ، تتهادى على وسادة من ريش . وهو .. القلب ، يضطرب داخل أضلاع ، تضيق وتحكم الحصار عليه .. مثل قضبان زنزانة ، ويضطرم مثل مرجل ، من شوق يشتعل في سويدائه .. لا يطفئه إلا ريق ، تراق قطراته عبثاً ، وضمّةٌ .. كان هو أولى بها من الوسادة ..!


                عن أنس رضي الله عنه قال
                : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن لله تعالى أهلين من الناس . قالوا : يا رسول الله من هم ؟ قال : هم أهل القرآن أهل الله وخاصته ) . (صحيح الجامع2165)






                تعليق


                • #23
                  أختها أروى ، التي استمعت لتعقيب خالتهما هيا .. هي الوحيدة ، التي التقطت المشاعر ، التي أورقـــــت في وجهها .. فانــــفرجت أساريره ، مثل ورد ناعس ، نبّهَه الربيع .. فأفاق وتفتح . أروى أختها وصديقتها الخــــاصة أيضاً . في لحظة صدق وألم ، حـدثتها بحقيقة شعورها ، تجاه شهاب الإسلام . لم تستطع أن تحتمل السر لوحدها ، وعجز قلبها ، الذي تهتك من الهم القلق ، أن يكون وحده وعاءً .. لوجع بهذا الحجم . أروى لا تتفق معها في شعورها .. وترى أنها متعلقة بوهم . قالت لها مرّة : " حب من طرف واحد " ، فمرضت بسبب ذلك لأيام . تحاشت بعدها أن تقول لها رأيها بصراحة .


                  أصرت أختها وقريباتها ، أن تلبس لحفل التخرج ، اللباس الذي اخترنه لها ، لهذه المناسبة . حين ترددت ، قالت خالتها نوره تشاكسها .. وهي عزيزة عليها ، أكثر من غيرها ، من بين خالاتها وعماتها :
                  - لا خيار لك .. إذا شئت أن نرافقك للحفل ، ونفرح معك .
                  - لكني سأبدو فيه وكأني عارضة أزياء ، ولست طبيبة .. ماركة مشهورة جداً وغالية ، وآخر موضة .
                  ابنة عمها جمانة ، وهي من صديقاتها المقربات .. أطلقت واحـــداً من تعليقاتها الساخرة :
                  - لا بأس يا عائشة .. هذه المرّة ، لا نريد أن نراك تبدين ، وكأنك تشي غيفارا ..
                  ضحكت .. وقالت :
                  - شفتوا يا بنات .. جمانة أرحم . فيه ناس في الكلية يسمونني " الملا عمر " ..!

                  ذهبت عائشة إلى حفل التخرج ، برفقة والدتها وأختها وقريباتها . كانت محل حفاوة الجميع . صفق الحضور طويلاً ، حين أعلن عن اسمها ضمن المكرّمات ، والحائزات على جوائز تقدير . والدتها التي كانت تصلها إشاعات ، أن ابنتها صاحبة مشاكل ، وعلى خلاف مع الجميع ، لم تجف دمعتها ، وهي ترى حجم الحفاوة الذي نالته . بين دقيقة وأخرى ، يأتي من يسلم على عائشة ، ويبارك لها ، ويغدق عليها عبارات الثناء . ترد هي بالشكر والامتنان ، ثم تشير إلى والدتها :
                  - هذه أمي .. الفضل لها ..
                  فتغرق الأم في بحر من الدموع .

                  كانا أسبوعا احتفال ، ازدحما بكل مظاهر الاحتفاء . حفلات عشاء ، وهدايا ، وباقات ورد .. وتبريكات . اتصالات هاتفية ، ورسائل جـــــوّال ، وفاكسات . وقت سمته : كرنفال حب . عادت بعد هذا ( الكرنفال ) لتغرق في دوامة العمل . اعتادت أن تضع هاتفها الجوّال على وضع الصامت ، حينما تدخل العيادة . حين توقفت عند صلاة الظهر عن استقبال المرضى ، نظــرت إلى الجوّال لترى ما قد يكون وصلها من رسائل ، أو فاتها من اتصالات . لاحظت أن هناك أكثر من 10 اتصالات فــــائتة . حين استعرضتها ، انتابها قلق . سبع من هذه الاتصالات جاءت من والدتها . بادرت بالاتصال ، وهي تـــظن أن أمراً سيئاً أصاب أهلها . دق جوّال أمها حتى انقطع الرنين .. فازداد قلقها . أعادت الاتصال ، فجاء صوت أمها عجلاً :
                  - هلا عيوّش .. أقلقتك يا عمري ..!
                  - سلامات يا أمي ، عسى ما شر ..؟
                  - أشغلتني أم نايف اللاوي ، من صباح رب العالمين وهي تتصل . تقول إن زوجة ولدها في المستشفى تنتظر الولادة .. تواجه مشكلة في تنويمها ، وزوجها مُصِّر على أن تُوَلّدها دكتورة ، واتصلت بي ، تبغى فزعتك ..!
                  - فهد اللاوي ..! ما تذكرين يا أمي أعمال فهد اللاوي ..؟ أنا مجروحة منه .. والله ..
                  - خليك أكبر منه يا عائشة ، ولو من أجل أمّه ..!

                  فهد اللاوي شخص سليط ، وهو أحد أقرباء عائشة من جهة والدتها . يتبنى موقفاً متشنجاً ونشازاً ، ضد دراسة الفتيات في كلية الطب ، من منظور التعصب القبلي . دراسة المرأة للطب وممارسته ، من الأمور ( الوضيعة ) ، التي لا تليق بامرأة تنتسب لأسرة تحترم نفسها .. كما يقول . لم يتورع في كل مناسبة ، عن الغمز واللمز بطالبات الطب ، ونال عائشة منه الشيء الكثير . كان يسميها ( المسترجلة ) ، ويقول عنها : " من سيـــــتزوج بنتاً ، تقضي من الوقت ، تخالط الرجال ، أكثر من الذي تقضيه في بيتها " .
                  بيّتتْ عائشة في نفسها أمراً . اتصلت بإحدى زميلاتها ، طبيبة نساء وولادة ، وشرحت لها موقف الرجل ، ورجتها أن تقبل المرأة لتكون مريضتها ، وتتولى توليدها . اتفقت معها كذلك ، أن تطلب من المرأة ، أهمية أن يتصل زوجها بعائشة ، ويطلب منها أن يتولى توليد زوجته طبيبة .. على اعتبار أنها هي المسؤولة ، دون أن يعلم أنه يتصل بعائشة . اتصلت زوجة نايف اللاوي بزوجها ، وأبلغته ضرورة أن يتصل بالمسؤولة ، لأنها صاحبة القرار ، بأن تكون هي ، تحت إشراف دكتورة تقوم بتوليدها .
                  اتصل نايف اللاوي بعائشة ، وعرّف بنفسه ، وسأل .. بصوت فيه الكثير من الخضوع ، أن تقوم طبيبة بتوليد زوجته . كانت مفاجأة كبيرة له ، أن يعلم أن من يتحدث معها هي عائشة ، التي لم تَبْقَ نقيصة لم يلصقها بها . حاول أن يبدو أكثر لطفاً ، وأكثر تقديراً وامتناناً . لكنها أشعرته أنها لن تعمل هذا من أجله ، وإنما من أجل والدته التي اتصلت بوالدتها ، ملمحة إلى مواقفه السابقة . زميلتها أيضاً ، أخبرت زوجته أن تَدَخّل الدكتورة عائشة الصالح ، هو الذي جعلها تقبل أن تكون مريضتها ، وتقوم بتوليدها ، بالرغم من أن جدولها مزدحم بمريضات أخريات ، وهي ليست من المراجعات المنتظمات للمستشفى .. ثم أضافت :
                  - هل تعرفين ماذا كان يقول زوجك عن الدكتورة عائشة والطبيبات ..؟


                  عن أنس رضي الله عنه قال
                  : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن لله تعالى أهلين من الناس . قالوا : يا رسول الله من هم ؟ قال : هم أهل القرآن أهل الله وخاصته ) . (صحيح الجامع2165)






                  تعليق


                  • #24
                    استحت ولم ترد ..! لا يخفاها ما اعتاد زوجها أن يقول عن الطبيبات ، والعاملات في القطاعات الصحية ، مقــــــولته التي دائــــــــــــماً يـــــرددها : " بــــــــــنات ( الحمايل ) لا يشتغلن هذه الشغله " . بعد أن انصرفت الدكتورة ، اتصلت زوجته بعائشة وشكرتها بشدة ، واعتذرت عن مواقفه وتصرفاته :
                    - أنا متأكدة أنه سيشــعر بالخجل من كلامه السابق .

                    في المساء حين عادت عائشة إلى البيت ، أخبرت أمها أن مشكلة زوجة فهد اللاوي ، تم حَلّها ، وأنها الآن .. ربما ، في غرفة الولادة ، تحت إشراف إحدى زميلاتها . سعادة والدتها كانت كبيرة ، ليس من أجل أم فهد اللاوي . لكن لأن تصرف عائشة ، يعبّر عن شهامة ، وسيخرس لسان ولدها ، الذي نال ابنتها منه الشيء الكثير . لم تفوّت الفرصة ، فسارعت للاتصال بأم فهد اللاوي :
                    - أبشرك يا أم فهد .. الدكتورة عائشة ، جزاها الله خيراً ، توسطت لــــزوجة ولدك ، عند واحدة من زميلاتها الدكتورات .
                    - جزاها الله ألف خير ، وجعل ما قامت به ، في ميزان أعمالها .
                    - هذه عائشة ، التي لم يبق شيء لم يقله فهد فيها ، وفي زميلاتها ..!
                    - لا عليك منه يا أم أحمد .. سفيه . عائشة تاج رأسه .
                    كانت قد تعمدّت ، أن تجعل جهاز الهاتف على وضع السماعة الخارجية ، لكي تسمع عائشة الحوار . حين قالت الأم عن ولدها أنه سفيه ، وأن عائشة تاج رأسه ، ابتسمت ابتسامة عريضة ، والتفتت نحو عائشة ، وغمزت لها بعينها . هزت عائشة رأسها ، وردت على ابتسامة أمها ، بابتسامة خفيفة . لم تكن تفضل أن تشمت أمها بالرجل أمام والدته . لكنها .. قدرت شعور والدتها تجاهها .. ودفاعها عنها .

                    أحياناً تبدو الأمور ، وكأن الأحداث تجري وفق مصادفات مرتبة . لم يمر عليها أسبوع .. من قبل ، بمثل هذه الصدف الغريبة . اليوم الأحد يوم عمل مزدحم . لديها عملية في بداية اليوم ، ثم جولة ميدانية على المرضى .. وبعد الظهر عيادة . في آخر النهار كانت منهكة جداً . قبل أن تعود إلى البيت ، مرّت على مكتب ، تشترك فيه مع بعض الزميلات ، وأخذت بعض الأوراق وجوّالها ، الذي تركته الصباح ، لأنها .. في هذا اليوم بالذات ، لا تحتاجه أبداً . في طريق العودة ، أجرت اتصالاً مع والدتها .. تطمئنها على نفسها ، كما اعتادت أن تفعل ، في نهاية كل يوم عـــــمل . فــــوجئت برد والـــــدتها .. الذي تأخر ، وكـــان مجرد ( نعم ) جافة ، بدلاً من : ( هلا بروحي وعــيوني ) ، التي اعتادت أن تسمعها منها ، كلما ردت على اتصالها . سلمت .. وقبل أن تستوعب المفاجأة من ردها البارد ، بادرتها أمها :
                    - عيوش .. أنت غيرت رقم جوّالك ..؟
                    - لا .. ليه يا أمي ..؟
                    - أيش الرقم الجديد هذا ..؟
                    أدركت أن ثمة خطأ ما .. وقع . تأملت الجهاز ، فاكتشفت أنه يشبه جهازها . شرحت لأمها ، أنها أخذت عن طريق الخطأ ، جوّال زميلة لها ، يشبه جهازها . لم يكن من وسيلة لمعرفة صاحبة الجوّال ، إلا انتظار اتصالها عليه .. للسؤال ، أو مراجعة الاتصالات والرسائل الصادرة والمرسلة . مر وقت .. بعد وصولها البيت ، ولم يرِدْ أي اتصال . دفعها الفضول ، لاستعراض الاتصالات الصادرة . لم تكن كثيرة ، وليس بينها مكرر ، إلا واحد تم الاتصال به مرتين . لاحظت أنه الرقم الرديف ، لجوّال إحدى الزميلات .شكّت أن يكون رقم زوجها . أرادت أن تتثبت أكثر قبل الاتصال ، ففتحت صندوق الرسائل المرسلة . كان فيها رسالة واحدة .. تحمل نفس الرقم المتصل به ، فتأكدت أنها هي .. رشا . قرأت الرسالة :
                    " وددت أن أقول شيئاً .. كنت هذا النهار ، فارسي النبيل والجميل " .
                    " كنت فارسي النبيل والجميل " . الرسالة جميلة .. ما أعذبها ، أرسلتها لزوجها .. همست لنفسها . ارتاحت أنها عرفت صاحبة الجوّال ، لكن الرسالة أثارت شجنها . منذ سنوات ، وهي تنتظر ( فارسها ) ، الذي لم يأتِ ..! لواعج حزنها ، التي صارت تتنامى ، جعلها تذكر الله . خشيت أن تحسد صاحبتها .. التي لها ( فارس ) تؤوب إليه ، وتلوذ به . يتمدد الحزن ، ويتناثر في أعماقنا ، مثل بقعة نفط ، تنتشر على سطح البحر .. لا نستطيع أن نحاصرها ، أو نسيطر عليها . تماماً .. حين تكون سعادة الآخرين ، تثير دواعي شقائنا . إذ كلما ظننّا أننا سلونا ، يفجؤنا وجودها .. مثيراً لذكرى ، أو محرضاً على ألم . نجده يترصد لنا .. فـــرحهم ، لينكأ جرح أحزاننا : في رسالة جوّال ، أو حديث باسم .. أو أماكن غفت فيها الذكريات .
                    أقفلت الجوّال ولم تشأ أن تتصل بزميلتها . خشيت أن تسألها ، كيف عرفت أنه جوّالها .. فتضطرّ أن تقول لها ، أنها اطلعت على الرسالة المرسلة . لا تريد أن تبدو فضولية ، تتجسس على خصوصيات الناس ، ولم تستحسن كذلك ، أن تعرف زميلتها أنها اطلعت على رسالة ، بينها وبين زوجها ، تحمل قدراً كبيراً وجميلاً ، من الحميمية ، والمشاعر الخاصة . لو حصل وتكدرت علاقتهما ، لاتّهمتها أنها هي السبب .. وعزت ذلك لعينها . هكذا يفكر كثير من الناس .
                    من الغد ، أخذت الجوّال معها إلى العمل . في فترة الاستراحة لصلاة الظهر ، وجدت بعض الزميلات مجتمعات في الكافتيريا . سلمت .. ونادت عليهن :
                    - يا بنات .. أنا أمس أخذت جوّالاً ، ليس لي .. بالخطأ ، وأبحث عن جوّالي . لم استطع أن أتصل بصاحبة الجوّال لأنه مغلق .
                    صاحت الزميلات عليها ، وأخبرنها أن زميلتهم رشا ، هي أيضاً معها جوّال لا تدري من صاحبته ، وقد تركته في المكتب ، ويمكن أن يكون هو جوّالها . ذهبت إلى المكتب وأخذت جوّالها ، ووضعت الجوال الذي معها ، في صندوق البريد الخاص برشا .


                    عن أنس رضي الله عنه قال
                    : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن لله تعالى أهلين من الناس . قالوا : يا رسول الله من هم ؟ قال : هم أهل القرآن أهل الله وخاصته ) . (صحيح الجامع2165)






                    تعليق


                    • #25
                      لم تمر الصدفة التي جعلتها تَطّلع على الرسالة ، في جوّال زميلتها .. بهدوء . الرسالة أيقظت مشاعر كامنة ، وبعثت آمالاً توارت ، أمام دوّامة العمل ، ورتابة روتينه اليومي . حين وصلت البيت ، صلت العصر ونامت ، لتستيقظ في المساء ، على الصدفة الثانية ، على حدث عائلي .. أثار جدلاً . أختها أروى خطبت اليوم .. للمرة الثالثة ، ووالدها ووالدتها يرفضان تزويجها قبلها . غضبت واحتجت .. ورفضت أن يربط مصير أروى بمصيرها :
                      - جاءها نصيبها .. لا تقفوا في طريقها ..! أنا إذا جاء نصيبي سأتزوج .

                      حديث خالتها أم شهاب الإسلام ، يوم حفلة تخرجها ، عن الفرحة الكبرى بها ، ما زال حياً في قلبها . رسالة الجوّال التي قرأتها في جوّال زميلتها ، عن ( الفارس النبيل الجميل ) .. أحيت الأمل .. بــ ( الفارس ) الذي لابد أن يأتي ، ولكنه تأخر . أي صــدفة جعلت أروى تُخطَب ، ويصر أهلها على أن تتزوج هي أولاً .. لحظة انبعث حلم الفارس من مرقده ، بعد طول سبُاَت .. تساءلت ..؟
                      تمت الموافقة على زواج أروى ، وبدأت الاستعدادات له . العطلة الصيفية على الأبواب ، لكن برنامجها المزدحم ، لا يسمح لها بمشاركة فاعلة في التجهيز . قالت لأروى :
                      - حين تبدأ الإجازة ، يسافر الناس ، ويخف الضغط ، وسأكون إلى جانبك . لو تدرين كم أنا سعيدة بك .. ولك .
                      - لو تدرين .. كم أتطلع إلى الليلة ، التي أراك فيها عروساً .. يا سندريلا ، دون أن تضطري ، أن تفقدي فردة حذائك .
                      ابتسمت عائشة . فهمت أن أختها تلمح لحكاية الفتاة ( سندريلا ) ، في الأسطورة الشهيرة .. التي لم يأتها فارس أحلامها ، إلا بعد معاناة وطول انتظار .
                      كانتا تتحدثان حين دخلت والدتهما ، فقالت مداعبة :
                      - هاه .. إن شاء الله فيه تبديل أدوار .. عائشة قررت أن تأخذ العريس .. هذا ..؟
                      نظرت عائشة لوالدتها بعتاب .. فأضافت والدتها :
                      - قلبي عليك يا حبيبتي ..
                      ثم غيرت مجرى الحديث ، موجهة الخطاب لأروى .. لتفادي جرح مشاعر عائشة :
                      - خالتك نورة أخبرتني ، أنها اتصلت على جوّالك ، أكثر من مرة .. تريد أن تبارك لك .. قالت أنه مغلق .
                      - أكلمها الآن ..
                      - أكدي عليها ، إن موعد اجتماعنا الأسبوعي .. الأربعاء ، صار في البيت ، وليس الاستراحة .
                      اتجهت أروى لغرفتها ، واتصلت بخالتها . كانت مرتبكة .. وبدا واضحاً ، أنه لم يكن هدف الاتصال الوحيد ، المباركة لها بالزواج . أسرّت لها بأمر :
                      - أتـــدرين يا أروى .. تحدثت مع عبد السلام .. شهاب الإسلام ، قبل أيام عن الزواج ، واقترحت عليه عائشة ، لأتأكد من شعوره تجاهها . قال لي : " عائشة والنعم .. لكن أنا ما يهمني نجاحـــها ، ودورها في المجتمع .. أنا لا يمكن أن أتزوج بنتاً ، تتفرج على عورات الرجال في غرفة التشريح .


                      المصدر: صيد الفوائد .


                      عن أنس رضي الله عنه قال
                      : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن لله تعالى أهلين من الناس . قالوا : يا رسول الله من هم ؟ قال : هم أهل القرآن أهل الله وخاصته ) . (صحيح الجامع2165)






                      تعليق


                      • #26
                        المشاركة الأصلية بواسطة abdalftah مشاهدة المشاركة
                        الله يعطيك العافية على هذا المجهود الجميل - بارك الله فيك
                        الله يعافيك .

                        و فيك بارك أخي الكريم .


                        عن أنس رضي الله عنه قال
                        : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن لله تعالى أهلين من الناس . قالوا : يا رسول الله من هم ؟ قال : هم أهل القرآن أهل الله وخاصته ) . (صحيح الجامع2165)






                        تعليق


                        • #27
                          قصة حلوة بس كنت اظنها قصيرة
                          لكن سلاسة الاسلوب اضطرني أن أكملها مع أن عيناي متبعتان
                          تسلم أخي صقر
                          ليش هيك النهاية ؟

                          تعليق


                          • #28
                            طويييييييييييلة جدا
                            لكن يا لك من رجل!!
                            أرجعتنا إلى زمان خلى وانقضى ولم يبقى منه إلا القصص -إلا من رحم الله -
                            جزاك الله خيرا

                            تعليق


                            • #29
                              المشاركة الأصلية بواسطة al-nibras مشاهدة المشاركة
                              قصة حلوة بس كنت اظنها قصيرة
                              لكن سلاسة الاسلوب اضطرني أن أكملها مع أن عيناي متبعتان
                              تسلم أخي صقر
                              ليش هيك النهاية ؟
                              لو وضعت أجزاء كبيرة لما رغب أحد في إتمامها ... لكن على العموم تستحق تعب قراءتها .

                              سلمك الله أخي الكريم .

                              النهايات السعيدة ليست قاعدة ... و لو أني من عشاقها .

                              شكرا على المرور العطر .

                              المشاركة الأصلية بواسطة mangawy مشاهدة المشاركة
                              طويييييييييييلة جدا
                              لكن يا لك من رجل!!
                              أرجعتنا إلى زمان خلى وانقضى ولم يبقى منه إلا القصص -إلا من رحم الله -
                              جزاك الله خيرا
                              صدقت ... إلا من رحم ربي .

                              و أنت من أهل الجزاء .

                              __________________________________

                              أتعبتكم معي ...


                              عن أنس رضي الله عنه قال
                              : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن لله تعالى أهلين من الناس . قالوا : يا رسول الله من هم ؟ قال : هم أهل القرآن أهل الله وخاصته ) . (صحيح الجامع2165)






                              تعليق


                              • #30
                                والله كنت رح أبكي قصة مؤثرة وجميلة وعسى أن تؤثر في الناس ولو بالقليل
                                (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) لقمان :21

                                الرد على من قال بحل المعازف

                                http://www.abumishari.com/

                                تعليق

                                يعمل...
                                X