آثار الافتراق على الأمة الإسلامية
د. عثمان علي حسن
الأستاذ بكلية الشريعة
جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين
الافتراق من آثار الاختلاف ونتائجه وليس من لوازمه، أي يمكن للناس أن يختلفوا مع اجتماع الكلمة وحصول الألفة. وقد اختلف خيار الصحابة في كثير من المسائل العلمية والعملية ولم ينحل عقد الأخوة، ولم ينصرم حبل المودة بينهم، فكان الاختلاف توسعة ورحمة وتنوعاً وإثراء.
الافتراق حالة مرضية كانت في الأمم قبلنا، وهو صفة بارزة في اليهود والنصارى، وقد حُذرنا أن نكون مثلهم: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) [سورة آل عمران:105]، لكن استفاد متأخروهم من دروس سابقيهم، حتى سعى بابا الفاتيكان ليبرأ اليهود من جريمتهم التاريخية في سفك دم المسيح (على حد زعمهم). هذه العقيدة التي تطاولت عليها القرون، وتعاقبت عليها أجيال النصارى، يراد لها أن لا تكون عائقاً دون الالتقاء والتعاون، ونحن نملك من أسباب الالتقاء والتعاون والتنسيق ما لا يملكه غيرنا، ونواجه من دواعي ذلك ومبرراته وأسبابه ما يحتم اجتماع الكلمة واتحاد الموقف وتراص الصفوف.
تناسوا اختلافاتهم الدينية والمذهبية والعرقية في سبيل الرقي بمجتمعاتهم. فهل نعتبر من تاريخنا أو تاريخهم؟ (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) [سورة الأنفال: 73].
الأصل في الإسلام وأهله الاجتماع لا الافتراق، والتعاون لا التصارع، والتآخي لا التعادي، والاتحاد والترابط لا التشتت والتباعد، هذا ما أمر به الإسلام أهله المنتسبين إليه، المتمسكين به.. فلا يوجد دين ولا مذهب دعا إلى هذه الأمور وعُني بها وحرص عليها كما هو الحال عليه في الإسلام..
فشرع الإسلام من مناهج التوحيد وشعائر التعبد وشرائع التكافل الاجتماعي ما يعين على تحقيقها وتعميقها؛ فهناك التذكير بأن أصل الخلقة واحد، من نفس واحدة،
والمعبود واحد، والقبلة واحدة، والمرجعية واحدة، والصراط واحد، والناس خلف إمام واحد في الصلاة وفي السياسة، وهناك كفالة اليتيم، وإغاثة الملهوف، ورعاية الأرملة والمسكين، وهناك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتناصح، والتشاور، والتحابب إلى غير ذلك مما يحارب روح العصبية ونوازع الصراع والافتراق.. وهناك النهي عن العصبية باسم الجنس أو النوع أو الوطن أو القبيلة أو اللون، بل كلكم لآدم وآدم من تراب..
ولهذا جاءت النصوص الشرعية بالنهي عن الاختلاف والافتراق، كما في قوله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ولتكن منكم أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) [سورة آل عمران:100 ــ 105].
وجاء في سبب نزولها ما أخرجه ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن زيد بن أسلم قال: مرَّ شاس بن قيس ــ وكان شيخاً قد عسا في الجاهلية، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم ــ على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من إلفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً معه من يهود، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم ذكرهم يوم بعاث، وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج، ففعل فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الرُّكب، أوس بني قيظى أحد بني حارثة من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه، إن شئتم والله، رددناه الآن جذعة، وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا: قد فعلنا، السلاح السلاح، موعدكم الظاهرة ــ والظاهرة الحرة ــ فخرجوا إليها، وانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم، فقال: يا معشر المسلمين الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ أبعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً؟ فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم لهم، فألقوا السلاح، وبكوا، وعانق الرجال بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس، وأنزل الله في ذلك الآيات من سورة آل عمران([1])..
فالآيات ترشد إلى عدة نقاط تتعلق بموضوعنا وهي:
- تقدير الأعداء لمكانة الجماعة والاجتماع، والوحدة والاتحاد، ولهذا يعملون على تقويضها لدى المسلمين، ويسعون في سبيل ذلك سعياً حثيثاً.
- أن من وسائل الأعداء الخبيئة والخبيثة في حرب المسلمين؛ ضرب وحدتهم وتفتيت جماعتهم، وذلك ببعث نوازع الفرقة بينهم؛ من اختلافات دينية أوطائفية أومذهبية أوعرقية أوقومية أوتاريخية أوغيرها.
- أن الفرقة من دعاوى الجاهلية ومن الكفر، فعبَّر عن الترابط بالإيمان، وعن الاختلاف بالكفر، وفي الحديث: التارك لدينه المفارق للجماعة([2]).
- الحذر الحذر من تحقيق مقاصد الأعداء في تفريق كلمة المسلمين، فيتم ذلك بأيدٍ مسلمة، كما قالوا في حكمتهم: الشجرة إنما يقطعها أحد أغصانها، فنكون كالذين يُخربون بيوتهم بأيديهم، وينوبون عن أعدائهم في مهمتهم!
- أن الاعتصام والاجتماع منّة من الله تعالى على عباده تتحق بطاعته وطاعة رسوله والاستمساك بحبله المتين، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- النهي عن التشبه بالأمم السابقة في التفرق والاختلاف، وهذا الأمر كثر الحديث عنه في القرآن الكريم.
- اختلاف الأجناس والألوان والأوطان واللغات والطبقات والثقافات ليس بالضرورة عامل تفريق وتنازع بقدر ما هو عامل تعارف وتكامل وتكافل وإثراء، فالله لم ينهنا عن الانتساب لقبائلنا وأوطاننا ونحو ذلك، وإنما نهانا عن التعصب لها، وأن تكون هي معيار الصواب والخطأ، وأساس الولاء والبراء، وأساس ذلك الإيمان والعمل الصالح: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) [سورة الحجرات: 13].
([1]) انظر الدر المنثور للسيوطي: 2/57 ــ 58.
([2]) صحيح البخاري: 12/201، وصحيح مسلم: 5/106.
- من أبشع أنواع الافتراق، الافتراق بعد معرفة الحق، وهذه علامة الهوى، ودلالة العجب، وشارة البطر: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم. وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم غاب بشخصه فهو موجود بهديه وسنته.
- التنازع يُشغل الأمة بنفسها عن مهمتها الرسالية في الدعوة إلى الخير، (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير..).
وقال تعالى: (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) [سورة الأنفال: 46]. هذه الآية تأتي ضمن عوامل النصر الحقيقية: من الثبات وذكر الله وطاعة الله ورسوله وتجنب الشقاق والنزاع والصبر، والحذر من البطر والرياء.
فواضح جدا أن التنازع هو أحد أسباب الهزيمة الرئيسة، كما أن تجنبه من أسباب النصر الرئيسة، ولا يتنازع الناس إلا بسبب تعدد القيادات، وبسبب الهوى، حينما يجعل كل واحد من نفسه قائداً وموجهاً ولا يقبل من غيره ذلك، ثم يركبه الهوى في تحسين ذاته ونفسه، فيرى من نفسه الحق المطلق، أما مجرد اختلاف أوجه النظر في المسألة الواحدة فليس من أسباب التنازع، لو تجرد صاحب النظر عن الهوى والإعجاب بالنفس.
فإذا وقع التنازع بسبب الهوى والعُجب تغيرت النفوس، وخُدش صفاء الأخوة، فكان الانتصار للنفس لا للحق والصواب، وللذات لا للجماعة والأمة، فتذهب القوى بتشتيتها، وتضعف بتمزيقها، فلو وقعت الهزيمة لم يكن أمراً عجباً (قل هو من عند أنفسكم) [سورة آل عمران: 165]. بل العجب أن يكون النصر مع وجود هذا التنازع، أو غيره من عوامل الهزيمة. ولنا في غزوة أحد عبر وعبر..
الأصل في العلاقة بين أهل الإيمان رابطة الأخوة (إنما المؤمنون إخوة) [سورة الحجرات: 10]. ويُوالى المؤمن ويُعادى، ويُحب ويُبغض على قدر ما فيه من الإيمان والطاعة وضدهما.. فإن حدث ما يعكر صفاء هذا التآخي وجب الإسراع إلى إصلاحه ولو بقتال من بغى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) [سورة الحجرات: 9ــ10]، إلى هذه الدرجة يكون الحرص على تماسك الصف الإسلامي، وفي الحديث: ((من أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا ما كان))([1]). وفي آخر: ((إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)).
ومنع الإسلام من كل ما من شأنه يؤدي إلى التفرق والتنازع من الشحناء والبغضاء، والتنابز بالألقاب والسخرية واللمز، والغيبة والنميمة، وسوء الظن والتجسس والتحسس، والتدابر، وغير ذلك من المعاني المذمومة والأخلاق المرذولة([2]).
وحذر القرآن الكريم من الفرقة، وجعلها من العقوبات القدرية لمن خالف أمر الله، قال تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض) [سورة الأنعام: 65].
وفي السنة: حديث ابن عمر قال: ((خطبنا عمر بالجابية فقال: يا أيها الناس، إني قمت فيكم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، فقال: أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليزم الجماعة))([3]).
وحديث أبي الدرداء: ((ألا أخبركم بخير من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة)). قال الترمذي: ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين))([4]).
ومن الحكم الموروثة قصة الأب الذي بيَّن لأبنائه أهمية اتحادهم وخطورة تفرقهم، حيث لم يستطيعوا تكسير العصي مجتمعة، فأنشأ يقول:
كونوا جميعــــاً يا بني إذا اعترى خطب ولا تتفرقوا آحــــــــــادا
تأبى العصي إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت أفــــــــــــرادا
إن أعداء الإسلام يعرفون ــ وبدقة ــ مكامن الخطر في أمة الإسلام، ومن ذلك وحدتهم واجتماع كلمتهم، وتصافي قلوبهم، فيعملون على بذر الخلاف بين الأمة، لإضعاف الكلمة وتشتيت الجهود، وكسر الشوكة، وإيهان العزيمة. هذا شأنهم وهو ما يُتوقع منهم، وينسجم مع أهدافهم من العلو في الأرض والاستكبار فيها بغير الحق. لكن شأننا أن لا نعطيهم الفرصة، وأن نسد أمامهم الأبواب، ونردم دونهم الثغرات
([1]) صحيح مسلم: 6/22.
([2]) انظر الآيتين: 11 و12 من سورة الحجرات.
([3]) رواه الترمذي في الفتن: 2166، والحاكم في مستدركه: 1/114، وصححه ووافقه الذهبي.
([4]) رواه الترمذي في صفة القيامة: 2511، وأبو داود في الأدب: 4919.
تعليق