….قدم سعيد لضيفه كأسا من الشاي الأخضر المنعنع وهو يقول له مواسيا:
ـ غدا إن شاء الله، سأسقيك شراب الببوش ( الحلزون) المعشب والذي سيعيد إليك بإذن الله ما ضيعته منك سنين الغربة
ثم سأله:
ـ أما زلت تتلهف على شربه كما كنت أيام الجامعة؟
انفجر صديقه علي ضاحكا ثم قال له وهو يغالب الضحك:
ـ ألم تبلغ بآخر فتوى حول أكل الببوش؟
هز سعيد رأسه نافيا مستغربا. لم يخطر بباله قط حكم الشرع في أكل الببوش رغم أنه يتناوله منذ صغره.. التفت إلى زوجته التي قرأ على صفحة وجهها ذات الدهشة التي اعترته ثم سرعان ما انساقا يضحكان مع ضيفهما الذي دفن وجهه بين راحتيه يتلوى بالضحك ويفشل في كل مرة في نقل إليهما الفتوى كما سمعها الجمعة الأخيرة قبل سفره. يلف مخيلته شريط ذلك الحوار الذي جرى بين أحد المصلين وإمام المسجد ( في فرنسا), فيفجر فيه زوبعة من الضحك. جفف عينيه يجاهد نفسه لنقل إليهم المشهد كما عايشه فقال:
قام أحد المصلين من وسط الجامع وسأل إمام المسجد وهو حائر محتار من أمره فقال له بصوت مفعم بالخشوع:
ـ سيدي الإمام أنا “زوفري” ضعيف أؤم بيتي في وقت متأخر من الليل منهكا مهلوكا، فلا أقو على تحضير طعام يومي. وأنا أخاف ربي العظيم وأخشى عقابه فأتجنب الاختلاط في الليل والنهار ولا أتردد إلا على مطاعم الأسماك
قاطعه الإمام يفتي بصوته الخشن متصنعا الخشوع والوقار:
ـ لا حرج عليك انكح ما طاب لك مثنى وثلاث …
انفجر سعيد وزوجته ضاحكين وانكمش علي على نفسه يتزلزل يخنق الضحك في داخله ثم سألاه دفعة واحدة:
ـ عمن كان يتحدث الإمام عن النساء أم عن الأسماك؟!
أجابهما علي وهو لا يقوى على تخليص كلامه من نبرات الضحك:
ـ هز الإمام رأسه ومسح لحيته يداري خجله واستدرك يقول للسائل الذي وقف يبحلق في وجهه فاغرا فاه:
ـ قصدي كل ما طاب لك من الأسماك واحد، زوج، تلاتة، ربعة… فهي من الطيبات التي أحلها الله لنا,
ثم أشار على مصل آخر قائلا له بزهو:”واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.”
فانتصب السائل الأول وقال:
ـ بل سيدي، أنا لم أنه سؤالي بعد.
ـ هيا تفضل هات ما عندك.
ـ كما تعلم سيدي “فالنصارى الكفار” يشنون هذه الأيام حربا شرسة على الدود والصراصير ويقدمون في المطاعم أطباقا خفيفة من الحشرات وبأثمان رمزية ومغرية. فهل سيدي سأغمض عيني لأطفئ نار الجوع وألتهم الدود وهي تزحف كما يفعلون أم للشرع رأي آخر سيدي الإمام؟؟؟ علما سيدي أن فوائد هذا الطبق الدودي عظيمة كما يؤكدون.
توقف سعيد وزليخة على شرب الشاي يتقززون, فواصل علي حديثه وهو يرسم على شفتيه ابتسامة خفيفة ويهز رأسه ينبئهما بأن ما سيدلي به أعظم وقال:
ـ لقد استغرب المصلون مثلكم من أمر زميلهم فراحوا يخزونه متقززين متهامسين: هذا منكر, إنهم ظلمة متوحشون…إنهم كفار لا يخشون ربهم….
فاعتدل الإمام في جلسته وأخذ ما يكفي من الوقت لتوصيل رسالته الطويلة ثم قال بعدما بدأ يسري الهدوء في أرجاء المسجد:
ـ أنتم تستغربون من أمر النصارى وتنكرون عليهم أكل الدود وحملتهم الإعلانية حول فوائدها الصحية، في حين تنسون أنفسكم وما تقترفون من الذنوب وما تصبون في أجوافكم من المحرمات وأنتم غافلون مغفلون تتلذذون.. وضع الله على أبصاركم غشاوة مثل القوم الظالمين..
قاطعه أحد المصلين وهو يخزي جماعة من زملائه ويرجمها بنظراته ويتوعدها بسبابته كأنه حل يوم الحساب ولم ينج من العقاب أحد سواه:
ـ أنت على حق سيدي الإمام، فأنا قد عاشرت هذه الجماعة المخزية وشاركتهم المبيت سنين طويلة. ولكن والله، ما شاركتهم يوما، سهراتهم الشيطانية، وكنت أنصح فيهم ليل نهار أن يدعوا الخمر والقمار
ثم توعدهم بسبابته ويقول لهم:
ـ اشهدوا الحق يا ظلمة أمام إمامكم عل الله يغفر لكم
انكمشت الجماعة على نفسها، وانتكست رؤوسها تنصت في خشوع رهيب إلى حكم الإمام فعاد يقول:
ـ ولكن سيدنا الإمام الشهادة لله، فقد تابوا كلهم توبة نصوحة وأنا أشهد عليهم أمامكم وأمام رب العالمين
ثم ضرب على جدار بطنه العاري وأضاف:
ـ والله سيدي، ما سرى في هذا إلا ما أحل الله لنا من الطيبات.
ـ اخرس يا أعمى يا مغفل..
بصوت مزمجر أعاد:
ـ والله سيدي ما فـــــ
ـ اخرس وإلا هشمت رأسك بهذه العصا…أتقسم، يا مغفل، أنك لم تعب شراب الببوش مثل كلب ظامئ؟؟ أتقسم أن أمك لم تسقيك يوما مرقه المعشب كي يسيل عرقك وتشفى من مرضك؟؟؟. ليتك ما شفيت ولا عافيت.
فحنوا رؤوسهم جميعا قائلين في اعتراف مبين:
ـ بلى سيدنا الإمام، غفرانك يا رب، غفرانك..
ثم انتصبوا مهللين مستغفرين ربهم ونعلوا أحذيتهم واندفعوا من الباب يتدافعون. في حين دنوت من الإمام وتسمرت حاجزا بينه وبين عصاه وقلت له بصوت عالم راسخ في العلم ليس كما أحدثكم الآن طبعا:
ـ بل سيدي، إن الأصل في الأشياء الإباحة.
فالتفت يمينا وشمالا وأشار علي بأدب قل ما حضي به مخلوق قبلي، أن أنتظر حتى يفرغ الجامع من المصلين ثم قال لي بعد ذلك بلهجة خشنة كالمعهودة فيه دائما وهو يريني عرض وجهه:
ـ أفصح عن كلامك لم أفهم سؤالك،
فأردفت بصوت هادئ مثل تلميذ أمام معلمه في الكتاب وقلت له:
ـ قصدي سيدي، أنه لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله نص صريح يحرم الببوش (الحلزون) مثل ما ورد بشأن الميتة والدم ولحم الخنزير.
قاطعه سعيد ضاحكا:
ـ وهل اقتنع بكلامك؟
ـ آخر ما يمكن أن تتوقعه من هؤلاء الأصناف، أن تزعزع ما يدور بقريحتهم
ـ فماذا كان رده إذن؟
ـ أشار إلي بسبابته ورمقني باحتقار من وراء أنفه وقال:
ـ الببوش الذي تتلهف عليه أليس ميتة؟ وإلا أنت الذي تدعي العلم وتحشر أنفك فيما هو من اختصاص أسيادك تقوم أمك بذبحه واحد تلو الآخر أو تستكفي بمرقه دون أن تهاجمه في مخبئه مثل خياط أعمى. إنه يسري عليه حكم الميتة يا غافل، استغفر ربك وبادر بالتوبة قبل أن يداهمك يوم لا تقبل فيه توبة ولا استغفار فتكون من الخاسرين.
ـ ولكن سيدي..
ـ تفضل انصرف، لا سيدي ولا امسيدي.
نص مقتطف من روايتي: زليخة ورسالة الأربعاء
ـ غدا إن شاء الله، سأسقيك شراب الببوش ( الحلزون) المعشب والذي سيعيد إليك بإذن الله ما ضيعته منك سنين الغربة
ثم سأله:
ـ أما زلت تتلهف على شربه كما كنت أيام الجامعة؟
انفجر صديقه علي ضاحكا ثم قال له وهو يغالب الضحك:
ـ ألم تبلغ بآخر فتوى حول أكل الببوش؟
هز سعيد رأسه نافيا مستغربا. لم يخطر بباله قط حكم الشرع في أكل الببوش رغم أنه يتناوله منذ صغره.. التفت إلى زوجته التي قرأ على صفحة وجهها ذات الدهشة التي اعترته ثم سرعان ما انساقا يضحكان مع ضيفهما الذي دفن وجهه بين راحتيه يتلوى بالضحك ويفشل في كل مرة في نقل إليهما الفتوى كما سمعها الجمعة الأخيرة قبل سفره. يلف مخيلته شريط ذلك الحوار الذي جرى بين أحد المصلين وإمام المسجد ( في فرنسا), فيفجر فيه زوبعة من الضحك. جفف عينيه يجاهد نفسه لنقل إليهم المشهد كما عايشه فقال:
قام أحد المصلين من وسط الجامع وسأل إمام المسجد وهو حائر محتار من أمره فقال له بصوت مفعم بالخشوع:
ـ سيدي الإمام أنا “زوفري” ضعيف أؤم بيتي في وقت متأخر من الليل منهكا مهلوكا، فلا أقو على تحضير طعام يومي. وأنا أخاف ربي العظيم وأخشى عقابه فأتجنب الاختلاط في الليل والنهار ولا أتردد إلا على مطاعم الأسماك
قاطعه الإمام يفتي بصوته الخشن متصنعا الخشوع والوقار:
ـ لا حرج عليك انكح ما طاب لك مثنى وثلاث …
انفجر سعيد وزوجته ضاحكين وانكمش علي على نفسه يتزلزل يخنق الضحك في داخله ثم سألاه دفعة واحدة:
ـ عمن كان يتحدث الإمام عن النساء أم عن الأسماك؟!
أجابهما علي وهو لا يقوى على تخليص كلامه من نبرات الضحك:
ـ هز الإمام رأسه ومسح لحيته يداري خجله واستدرك يقول للسائل الذي وقف يبحلق في وجهه فاغرا فاه:
ـ قصدي كل ما طاب لك من الأسماك واحد، زوج، تلاتة، ربعة… فهي من الطيبات التي أحلها الله لنا,
ثم أشار على مصل آخر قائلا له بزهو:”واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.”
فانتصب السائل الأول وقال:
ـ بل سيدي، أنا لم أنه سؤالي بعد.
ـ هيا تفضل هات ما عندك.
ـ كما تعلم سيدي “فالنصارى الكفار” يشنون هذه الأيام حربا شرسة على الدود والصراصير ويقدمون في المطاعم أطباقا خفيفة من الحشرات وبأثمان رمزية ومغرية. فهل سيدي سأغمض عيني لأطفئ نار الجوع وألتهم الدود وهي تزحف كما يفعلون أم للشرع رأي آخر سيدي الإمام؟؟؟ علما سيدي أن فوائد هذا الطبق الدودي عظيمة كما يؤكدون.
توقف سعيد وزليخة على شرب الشاي يتقززون, فواصل علي حديثه وهو يرسم على شفتيه ابتسامة خفيفة ويهز رأسه ينبئهما بأن ما سيدلي به أعظم وقال:
ـ لقد استغرب المصلون مثلكم من أمر زميلهم فراحوا يخزونه متقززين متهامسين: هذا منكر, إنهم ظلمة متوحشون…إنهم كفار لا يخشون ربهم….
فاعتدل الإمام في جلسته وأخذ ما يكفي من الوقت لتوصيل رسالته الطويلة ثم قال بعدما بدأ يسري الهدوء في أرجاء المسجد:
ـ أنتم تستغربون من أمر النصارى وتنكرون عليهم أكل الدود وحملتهم الإعلانية حول فوائدها الصحية، في حين تنسون أنفسكم وما تقترفون من الذنوب وما تصبون في أجوافكم من المحرمات وأنتم غافلون مغفلون تتلذذون.. وضع الله على أبصاركم غشاوة مثل القوم الظالمين..
قاطعه أحد المصلين وهو يخزي جماعة من زملائه ويرجمها بنظراته ويتوعدها بسبابته كأنه حل يوم الحساب ولم ينج من العقاب أحد سواه:
ـ أنت على حق سيدي الإمام، فأنا قد عاشرت هذه الجماعة المخزية وشاركتهم المبيت سنين طويلة. ولكن والله، ما شاركتهم يوما، سهراتهم الشيطانية، وكنت أنصح فيهم ليل نهار أن يدعوا الخمر والقمار
ثم توعدهم بسبابته ويقول لهم:
ـ اشهدوا الحق يا ظلمة أمام إمامكم عل الله يغفر لكم
انكمشت الجماعة على نفسها، وانتكست رؤوسها تنصت في خشوع رهيب إلى حكم الإمام فعاد يقول:
ـ ولكن سيدنا الإمام الشهادة لله، فقد تابوا كلهم توبة نصوحة وأنا أشهد عليهم أمامكم وأمام رب العالمين
ثم ضرب على جدار بطنه العاري وأضاف:
ـ والله سيدي، ما سرى في هذا إلا ما أحل الله لنا من الطيبات.
ـ اخرس يا أعمى يا مغفل..
بصوت مزمجر أعاد:
ـ والله سيدي ما فـــــ
ـ اخرس وإلا هشمت رأسك بهذه العصا…أتقسم، يا مغفل، أنك لم تعب شراب الببوش مثل كلب ظامئ؟؟ أتقسم أن أمك لم تسقيك يوما مرقه المعشب كي يسيل عرقك وتشفى من مرضك؟؟؟. ليتك ما شفيت ولا عافيت.
فحنوا رؤوسهم جميعا قائلين في اعتراف مبين:
ـ بلى سيدنا الإمام، غفرانك يا رب، غفرانك..
ثم انتصبوا مهللين مستغفرين ربهم ونعلوا أحذيتهم واندفعوا من الباب يتدافعون. في حين دنوت من الإمام وتسمرت حاجزا بينه وبين عصاه وقلت له بصوت عالم راسخ في العلم ليس كما أحدثكم الآن طبعا:
ـ بل سيدي، إن الأصل في الأشياء الإباحة.
فالتفت يمينا وشمالا وأشار علي بأدب قل ما حضي به مخلوق قبلي، أن أنتظر حتى يفرغ الجامع من المصلين ثم قال لي بعد ذلك بلهجة خشنة كالمعهودة فيه دائما وهو يريني عرض وجهه:
ـ أفصح عن كلامك لم أفهم سؤالك،
فأردفت بصوت هادئ مثل تلميذ أمام معلمه في الكتاب وقلت له:
ـ قصدي سيدي، أنه لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله نص صريح يحرم الببوش (الحلزون) مثل ما ورد بشأن الميتة والدم ولحم الخنزير.
قاطعه سعيد ضاحكا:
ـ وهل اقتنع بكلامك؟
ـ آخر ما يمكن أن تتوقعه من هؤلاء الأصناف، أن تزعزع ما يدور بقريحتهم
ـ فماذا كان رده إذن؟
ـ أشار إلي بسبابته ورمقني باحتقار من وراء أنفه وقال:
ـ الببوش الذي تتلهف عليه أليس ميتة؟ وإلا أنت الذي تدعي العلم وتحشر أنفك فيما هو من اختصاص أسيادك تقوم أمك بذبحه واحد تلو الآخر أو تستكفي بمرقه دون أن تهاجمه في مخبئه مثل خياط أعمى. إنه يسري عليه حكم الميتة يا غافل، استغفر ربك وبادر بالتوبة قبل أن يداهمك يوم لا تقبل فيه توبة ولا استغفار فتكون من الخاسرين.
ـ ولكن سيدي..
ـ تفضل انصرف، لا سيدي ولا امسيدي.
نص مقتطف من روايتي: زليخة ورسالة الأربعاء
تعليق