واقعة النقاب.. خطابات تبحث عن انتصار
محمد طلبة / 14-10-2009
الأيام الماضية شهدت جدلا واسعا حول مشروعية النقاب بين ادعاء البعض بكونه فريضة إسلامية وزعم البعض الآخر كونه عادة لا تمت للإسلام بصلة. القضية بتفاصيلها بدأت بتصريحات شيخ الأزهر الشريف وموقفه مع إحدى طالبات الأزهر المنتقبات، حيث رأى البعض في تلك التصريحات وما تبعها من جدل دلالة على حالة التفسخ الشديد في بنية الخطاب الإسلامي المعاصر.
فعلى مستوى الأزهر انقسم علماؤه على أنفسهم بشكل يكشف عن تناقض واضح في مناهج التلقي.. أما الفضائيات الدينية والبرامج الحوارية فقد كشفت عن استقطاب سلفي علماني حاد، اعتبره مراقبون أولى العورات الفكرية بالستر، إن لم يكن أخطر الأورام وأكثرها استحقاقا للاستئصال.
في هذا الصخب الذي يصنع وثن الأزمة بيديه، ثم يمتثل له خاضعا دون إرادة حقيقة أو بعض عقل.. يتوه المعنى، وينتقب الهدف، ويفقد النقاش جدواه بعد أن يتحول من وسيلة يقترب بها المتخاصمون إلى مبرر وحيد لاستمرار هذه المكلمة.
هذا التقرير يكشف أكثر عن ملامح الخطاب الإسلامي المعاصر ويضعنا أمام نموذج حي لطرائق إدارة الأطراف المتباينة لخلاف عمره يربوا على ألف عام بقرون.
النقاب ليس فرضا
يكاد يجمع معظم أطراف الحوار في هذه الأزمة على عدم فرضية النقاب؛ فالمدرسة الأزهرية بممثليها على اختلاف توجهاتهم وتباين رؤاهم يرون ذلك، وإن اختلفوا في تعاطي المسألة داخل سياق الدولة الحديثة.
فالدكتور عبد المعطي بيومي عضو مجمع البحوث الإسلامية مثلا يؤكد أن كل ما جاء من روايات بشأن النقاب هو من الضعيف والشاذ، لافتا إلى وجود أكثر من 11 حديثا نبويا في صحيح البخاري مفادها أن النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كن كاشفات للوجوه.
وبالتالي يتهم بيومي القائلين بفرضية النقاب بأنهم غير متخصصين، وأنهم لم يتدربوا على فهم الأحاديث ولا على تخريجها، مشيرا إلى أنه لا يوجد حديث واحد في السنة النبوية يثبت فرضية النقاب.
وفي رده على أحد الأسئلة بشأن تعريف الجلباب الذي أمر به الشارع الحكيم في أكثر من موضع، قال بيومي: إن الجلباب -حسب معاجم اللغة العربية- هو ما غطى جسد الرجل والمرأة من الرقبة إلى القدم، وإن غطاء الوجه لا يدخل تحت تعريف الجلباب.
وأوضح بيومي أن النقاب ليس فرضا وليس سنة، وإنما هو مجرد عادة، محيلا إلى آراء فقهاء المذاهب الأربعة الذين أجمعوا في الراجح من أقوالهم على أن وجه المرأة ليس بعورة.
وعلى العكس يظهر الصوت الأزهري السلفي على إحدى الفضائيات ليكشف عما أسميناه "تناقض واضح في مناهج التلقي" بين الأزهريين؛ فيؤكد د.محمد الصغير على وجود النقاب واقترابه من الفرضية، ناعيا على شيخ الأزهر تصرفه، ومشددا على أن الأزهر جامعا وجامعة وشيخا لم يشهد على مدار تاريخه عداء لشعائر الإسلام.
أصوات سلفية هادئة
ولم يختلف مع الدكتور عبد المعطي بيومي كثير من الدعاة الجدد من المنتمين إلى المدرسة السلفية في كون النقاب ليس فرضا، إلا أنهم خالفوه في موضع النقاب داخل الجسم التشريعي للإسلام؛ فالنقاب -حسب الداعية صفوت حجازي- ليس فرضا وليس سنة، ولكنه ليس عادة؛ لأن مجتمع النبي كان به المنتقبات وكان به الكاشفات للوجه، ولم ينكر النبي على المنتقبات فعلهن.
ووصف حجازي الجدل حول النقاب بأنه جدل بيزنطي عقيم لا طائل من ورائه، ولا قيمة حقيقية لحسمه، فمن أرادت أن تنتقب فلتنتقب، ومن أرادت غير ذلك فهي وشأنها.
ونصح حجازي المنتقبات بألا يولين اهتماما لتصريحات شيخ الأزهر، مشيرا إلى أن شيخ الأزهر ليس من حقه أن يأمر الطالبات بارتداء النقاب أو خلعه.
وأضاف: "لا يجوز لمخلوق أن يقول إن ارتداء النقاب عادة، ومن يرى أن التي ترتدي النقاب يمكنها أن تخفي من أسفله مطواة، فإن التي تخرج متبرجة وتظهر زينتها للآخرين عاهرة وتخفي معها الشيطان".
وحرض حجازي الطالبات المنتقبات على رفع دعوى قضائية ضد الجامعة إذا منعتهن من الدخول بسبب ارتدائهن للنقاب.
وأعرب الداعية الإسلامي خالد عبد الله عن دهشته من توصيف النقاب بأنه عادة، مؤكدا أن كون النقاب ليس فرضا لا يعني أنه لا أصل له، بل هو من الأمور التي تثاب عليها المسلمة أمام ربها.
وأشار خالد عبد الله إلى بعض الروايات التي تجزم بوجود النقاب في المجتمع النبوي، وارتداء كثير من الصحابيات له، ومنها رواية الركبان لأسماء بنت أبي بكر الصديق.
وهاجم عبد الله شيوخ الأزهر الشريف الذين يهونون من شأن نقاب المرأة المسلمة ولحية الرجل المسلم، مؤكدا انفرادهم بهذه الآراء الشاذة.
وعبر الشيخ محمد حسان -أحد الدعاة السلفيين- عن حزنه الشديد إزاء تصريحات شيخ الأزهر وموقف وزير التعليم العالي من المنتقبات، وتساءل: لماذا يحرمون المنتقبة من حقها في أن تلبس ما تشاء بينما لا يمنعون المتبرجة من دخول الجامعة آمنة مطمئنة؟!
حسان لم يتوقف كثيرا أمام موقف الشرع من النقاب، لكنه نصح المنتقبات بالصبر والاحتساب، ومحاولة المحافظة على نقابهن ما استطعن إلى ذلك سبيلا.
تأثيم وتفسيق وتبديع
لم يتوقف الطرح السلفي -بطبيعة الحال- عند حدود توضيح الموقف الشرعي من النقاب حسبما يرون، بل تجاوزه في خطابات بعض ممثليه إلى النيل من المخالفين بالتأثيم والتفسيق والتبديع، وغير ذلك من الأوصاف التي تقترب بالمخالف إلى ما خارج حدود الملة! حيث استنكر الشيخ مصطفى العدوي أن تسمح الجامعة بدخول المتبرجات -"العاهرات على حد قوله"- بينما تمنع المنتقبات الشريفات ويضيق عليهن.
ووصف العدوي القائلين بعدم وجوب النقاب بأنهم طائفة من أهل الزيغ والانحراف، ورماهم بالفسق والفجور، وبأنهم دعاة الرذيلة، وجند الشيطان الذين سخرهم لنشر مذاهبه الباطلة!.
وطالب العدوي المسلمين بضرورة التعاون لحراسة فضيلة النقاب من الكذابين الأفاكين الأثمة -حسب العدوي- الذين يقولون إن النقاب عادة!
وتندر الدكتور مازن السرساوي، أستاذ الحديث بجامعة الأزهر الشريف، من منع المنتقبة دخول الجامعة لدعاوى أمنية، قائلا: "هتخبي قنبلة في النقاب؟!".
واستنكر السرساوي أن يكون النقاب عادة، مؤكدا أنه بين الفرض والسنة، وعلى أن محاربة النقاب هي في حقيقتها محاربة لله ورسوله، كما أن ادعاء كونه بدعة أو عادة هو من قبيل الافتراء على الله.
وأكد السرساوي أن القرآن والسنة ذاخران بأدلة وجوب النقاب، نافيا مشروعية أن يقول المعاصرون بغير ما قال به السلف الصالح في أي أمر من الأمور، حتى في الأمور الخلافية لا يجوز للخلف أن يتجاوزوا آراء السلف الصالح إلى غيرها؛ فكل قول ليس له سلف صالح هو قول غير جائز، من وجهة نظر السرساوي.
فتاوى سياسية
ولم تغب السياسة -كما هو معتاد- عن المشهد الراهن؛ حيث رجح البعض أن يكون لتصريحات شيخ الأزهر وموقفه الموافق لتوجهات وزير التعليم العالي أهداف سياسية خفية، رآها البعض ممالئة للدولة، بينما رأى فيها آخرون محاولة للتغطية على بعض الأحداث الجسيمة.
في هذا السياق أصدرت جبهة علماء الأزهر في 9 أكتوبر الجاري (2009) بيانا أدانت فيه تصريحات شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي، ووصفتها بغير اللائقة، وبأنها "كلمات لنفس غضبت في غير الحق لغير الحق"، على حد تعبير البيان.
واتهمت الجبهة الشيخ طنطاوي بمحاولة التشويش على أحداث اقتحام المسجد الأقصى بموضوع النقاب، مؤكدة أنه لا يجوز لأحد في مثل هذه الأمور الخلافية أن يلزم الأمة برأيه.
وحول المعنى ذاته تحدث الداعية السلفي "أبو إسحاق الحويني" قائلا: "لا يستطيع رجل درس القرآن والسنة وابتعد عن السياسة أن يقول إن النقاب عادة، مؤكدا أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ارتداء النقاب والقفازين في الحج يحمل -بدلالة الخطاب- دليلا واضحا على ارتداء المرأة المسلمة إياه في غير ذلك".
وحذر الحويني من خطورة مثل هذه المواقف على وعي الناس، مشيرا إلى أن للقضية جانبا مظلما يتمثل في تشكيك العوام في كتب الشريعة وميراث الأجداد.
وتساءل الحويني في معرض دفاعه عن بعض آراء الأوائل في مسألة النقاب: هل كان علماؤنا الأوائل يزيفون علينا الأدلة والدين؟ هل كانوا يغشوننا؟ هل كانوا جهلة؟
وشدد الحويني على أن النقاب ليس مجرد إخفاء للوجه، وإنما هو قيمة، مؤكدا لى أن "المتبرجات يحترمن المنتقبات لسواد ملابسهن وحشمتها ووقارها"!.
ووصف الحويني من يقولون بغير ما قال الأسلاف بأنهم جهلة، لافتا إلى أنه لا يجوز لأحد أن يخالف ما قرره السلف الصالح إلا أن يكون مجتهدا مكتمل الأدوات.
العلمانيون يحيّون شيخ الأزهر!
على الجانب الآخر جاءت ردود فعل أصحاب الاتجاه العلماني في مصر والوطن العربي مساندة لشيخ الأزهر الشريف، وأعرب غير واحد من ممثلي هذا التيار عن موافقتهم على منع الطالبات المنتقبات من دخول الحرم الجامعي، وتأييدهم لإصدار قانون بتجريم النقاب في مصر.
ونشرت شبكة العلمانيين العرب على موقعها بتاريخ 6 تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩ تهنئة حارة لشيخ الأزهر الشريف على موقفه الذي وصفته بالمستنير، جاء فيه:
* تحية إلى كل العاملين بجد وصبر وشجاعة وجرأة في إصلاح المجتمع العربي وشفائه من أمراضه الموروثة المستعصية وأوبئته المعدية القاتلة.
* طريق الإصلاح وعر شاق وطويل، ولكن عندما يحمل مشعله شيخ جليل كشيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي، فعندها ستنار الطرق بالقناديل لنا ولأجيالنا القادمة.
* عقبال أن تصدر فتوى عن الأزهر الشريف بتحريم لبس الحجاب أيضا، وستصدر هذه الفتوى يوما ما وربما في المستقبل القريب.
رأي القرضاوي
وفي تقرير عن أزمة النقاب الراهنة، نقل برنامج "الرأي الحر" الذي تقدمه فضائية "الحوار" عن شبكة "إسلام أون لاين" رأي فضيلة العلامة "يوسف القرضاوي" رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في مسألة النقاب.
وقالت نقلا عنه: إن "النقاب ليس بدعة دخلت على المسلمين في عصور الانحطاط كما يتوهم البعض؛ فهذا الرأي تسطيح للمسألة وتضليل عن حقيقتها، فمما لا يماري فيه أحد يعرف مصادر العلم وأقوال العلماء أن القضية خلافية".
جدير بالذكر أن البرنامج تلقى مكالمات من بعض مسلمي إنجلترا وفرنسا وألمانيا يشكون إلى الله تصرفات شيخ الأزهر الشريف ومواقفه التي وصفوها بالمهينة، وبأنها لا تليق بمكانة الأزهر الشريف، ولا تليق بمكانة مصر.
في السياق ذاته، عرضت فضائية الجزيرة تقريرا حول النقاب تساءل فيه الكاتب والمفكر الإسلامي الكبير فهمي هويدي عن أسباب تنامي ظاهرة النقاب في مصر؟
وقال هويدي: إن أحدا من المهتمين بالتربية والمجتمع لا يسعه إلا أن يحاول دراسة الظاهرة التي لم يكن لها وجود حقيقي في الشارع المصري قبل 20 عاما.
ونبه هويدي على أنه في الأمور المتعلقة بالسلوك الاجتماعي لا يجوز أن تنحصر الأحكام والآراء التي تتناول هذه الظواهر في دائرة الأوامر والنواهي.
تعليق