براءة( قصة قصيرة )
في حب ، يحتضن الأب زوجته ، و هما يتأملان الصغيرة ، النائمة في براءة ، بينما احتوت بين ذراعيها دمية محشوة ، تكاد تقارب حجمها كبرا ، غافية في فراشها الصغير ، أسفل دثارها الزاهي اللون .و في هدوء ، و بعد أن طبعا قبلاتهما الحانية على جبين الصغيرة ، و أرسلا ما تبقى منها عبر الهواء ، غادرا الحجرة ، متمنين لها هنيء المنام ، و سعيد الأحلام .
و أطفئت الأنوار ..
و في خبث ، و بعينين شبه مغلقتين ، ترقبهما الطفلة ، و قد أوصدا الباب بعناية ، منصتة إلى خطواتهما ، التي أخذ وقعها يتباعد و يتباعد ، حتى احتواه الصمت المطبق .
و في حذر ، تزيح الصغيرة الغطاء ، و تثب من فراشها ، من دون أن تنسى أن تدثر الدمية جيدا ً، كي لا تصاب بالبرد أثناء غيابها .
و بخطى وئيدة تتحرك ، تتسلل حتى الشرفة المغلقة ، كم تمنت لو أنها استطالت قليلا ً، لكنها، و بمعاونة مقعدها الصغير ، شدت قامتها إلى أعلى ، حتى استطاعت الوصول إلى المقبض ، و بحذر تزحزح الباب ، لكن صريرا خافتا أبى إلا أن يصدر عن احتكاكه بالأرضية ، فتوقفت عن تحريكه ، و هي ترهف سمعها ، فلا تبلغه إلا دقات قلبها الخائف المرتجف .
لم يسمع أحد ..
تستكمل عملها البالغ الخطورة ، و أخيرا بدت لها فرجة ضيقة ، تكفي بالكاد لعبور جسدها الصغير .
و عبرها تتسلل ، لتطأ بقدميها العاريتين الأرضية الباردة ، و لتهب عليها نسمات الليل الأكثر برودة ، لكنها لا تبالي ، بل و تتابع خطاها إلى الأمام .
و بعينين جميلتين ، ترى صفحة سماء الليل الزرقاء ، و ترقب النجوم اللامعة المنثورة بها بلا نظام .
و بيدين صغيرتين ، تستند إلى حاجز الشرفة ، الأمر الذي يعطيها فرصة أكبر للتأمل ، لكنها اليوم لم تكتف بذلك ، بل تعدته لمحاولة تسلق الإفريز ذاته .
و بعد عدة محاولات تكاد تكون فاشلة لتسلقه ، و محاولات فاشلة للتشبث به ، و محاولات أكثر فشلا ً للإصرار على ذلك ، استطاعت الوصول إليه ، لتسحب جسدها إلى أعلى ، و تجلس على الحاجز ، بوجه تقابله الأنجم ، و ساقين أسفلهما الفراغ الممتد لأدوار ثلاثة ، لكنها لم تكن لتهتم بذلك ، إذ انصب اهتمامها على السماء وحدها ، و هي تحرك ساقيها في جذل .
كم هذا شعور رائع ، و لا أحد يعلم كي يحول بينها و بينه ..
و بعقل لا يعوقه لسانها ، الذي لم يعتد الحديث بعد ، فكرت :
- يا للسماء الجميلة ، كم أتمنى أن أطير إليها .
و بكف صغيرة تلوح في الهواء ، و كأنما تحتوي النجوم بين أناملها الرقيقة .
و بعينين صافيتين استدارت ، لينعكس عليهما ضوء القمر المحاق ، و ابتسمت ، و هي تقول لنفسها :
- أيها القمر ، كم أنت رائع .
و بعقلها الصغير تتصور لون السماء الجميل و لون غرفتها الأبيض ، و القمر الرائع و مصباح غرفتها .
و على ملامحها الصغيرة تلاشت الابتسامة ، و حل محلها الحزن ، و هي تنظر نحو المحاق قائلة له :
- لكنك لست مستديرا ً، كما أحبك .
و لكن سرعان ما عادت الابتسامة إلى ملامحها ، و هي تتابع :
- سآتيك غدا ، و لتكن بدرا ً كما أحبك ، و إلا سأحزن ، اتفقنا ؟
قالتها و هي ترفع ساقيها لأعلى و تستدير جهة الباب ، و تثب إلى الأرضية الباردة .
و قبل أن ترحل ، لوَّحت له بكفها مودعة ، و خيل إليها أنه يبتسم ، و هي تردف :
- إلى اللقاء .
لحظات ، و تمد ساقها بين الفرجة الضيقة ، لكن مقعدها سقط أثر ارتطامها به ، محدثا ً جلبة عالية .
و بأذنيها المرهفتين تسمع أصوات ما ، قادمة من خارج غرفتها .
و بسرعة تنزلق عبر فرجة باب الشرفة ، متجاهلة إغلاقه ، فلا وقت لذلك .
و بنفس السرعة تندس في فراشها الدافئ ، تحتضن دميتها ، و تتوارى خلف أغطيتها .
صوت الباب ينفتح ..
و تضاء الغرفة ، و تدخل الأم ، قائلة بصوتها الرقيق :
- ما الذي حدث يا حبيبتي ؟ ، ما هذه الجلبة ؟
و تجول الأم ببصرها في الغرفة ، فتسترعي انتباهها الشرفة المفتوحة ، فتقول :
- إنه الهواء ، كان لابد لي من أن أحكم إغلاقها .
و تتجه الأم لتوصد الباب ، ثم تلتفت نحو الصغيرة ، الغارقة في النعاس ، المحتضنة دميتها ، و تبتسم ، و هي تردف في حنان :
- يا للبراءة .
تقولها الأم ، قبل أن تطفئ الأنوار .. و تغادر الغرفة .
**************
محمد رشاد عبد الحكيم محمد
تعليق