تبتّلٌ في محرابِ شيخِنا العلاّمةِ الزاهدِ : مُحمّدِ بنِ محمّدٍ المُختارِ الشنقيطيِّ
في زحمةِ هذهِ الأحداثِ المتلاطمةِ ، وما تمخّضَ عنها من المواضيع ِ الفاترةِ ، وفي خِضمِّ التصنيفاتِ الجائرةِ ، والمهاتراتِ البائسةِ ، تنكّبتْ بالكثير ِ من المنتدياتِ الأحوالُ ، وتتابعتْ عليها وعلى كُتّابِها الأهوالُ ، ولجَّ الكثيرُ من أهلِها في الخلافِ ، وأصرّوا على العِنادِ ، وصارتِ الكتابة ُ فيها – إلا قليلاً - نوعاً من العبثِ وضرباً من الهذيان ِ ، وإلى المجون ِ والتهريج ِ أقربَ منها إلى التأصيل ِ والتقرير ِ ، ولم نعُدْ نرى فيها إلا هجوماً وتدابراً ، كأنّنا في معركةٍ أو نِزال ٍ .
أقولُ هذا ولا أزكّي نفسي ، أو أستثنيها من هذا ، فأنا منكم ، إن خيراً فخيراً ، أو شرّاً فشرّاً ، وقاتلَ اللهُ دُريدَ بنَ الصمّةِ ، إذ سنَّ الموتَ مع الجماعةِ ولو على حالةٍ لا تسرُّ ، عندما جعلَ رُشدهُ من رُشدِ غزيّة َ – وهي قومهُ - ، وغوايتُهُ من غوايتِها ، وصارَ هذا من السُنن ِ التي تزيدُها الأيّامُ ثباتاً ، مع أنّها طبعٌ ذميمٌ ، وخلقٌ سيءٌ .
هذه الظِلالُ القاتمة ُ من الحال ِ المرير ِ الذي نعيشهُ ، تتطلّبُ منّا وقفة ً نُراجعُ فيها النفسَ ، وواحة ً نتفيّأ في ظلالِها الأنسَ ، ونجدُ في مغانيها الرّاحة َ ، وفي أعطافِها الدعة َ ، وإذا استمرأنا وضعنا المُخزي ، فنحنُ على أعتابِ كارثةٍ فكريّةٍ كُبرى ، فما دامَ الحالُ يُراوحُ في مكانهِ ، بينَ قدح ٍ سافر ٍ يكشفُ مخبوءَ النيّةِ السيئةِ ، وبينَ تصنيفٍ ظالم ٍ يفضحُ خواءَ النفس ِ من الإنصافِِ ، والقلمُ يُبرى ليُكتبَ بهِ ما لا يصلحُ أن يكونَ صحيفة ً على حائطٍ في مدرسةٍ للصبيان ِ ، فإنَّ استصلاحَ الحال ِ وتقويمهُ يحتاجُ إلى زمن ٍ فسيح ٍ ، ونفوس ٍ صابرةٍ ، وهمم ٍ مشحوذةٍ ، ولا يلوحُ في الأفقِ دونَ ذلكَ إلا خرطُ القتادِ ، وسفُّ الرّمادِ ، والحمدُ للهِ على كلِّ حال ٍ .
في طريق ِ الإصلاح ِ للقلم ِ ، والتهيئةِ للفكر ِ ، والدُربةِ للعقل ِ ، هذهِ مادّة ٌ خاصّة ٌ عن شيخِنا العلاّمةِ العابدِ الزاهدِ : مُحمّدِ بن ِ مُحمّدٍ المختار ِ الشنقيطيِّ ، أسعدَ اللهُ أيّامهُ ، وأعلى قدرهُ ومنزلتهُ ، أبثّهُا بينَ يديكم لتكونَ كالغيثِ الذي ينهمرُ فيروي الأرضَ القفرَ اليبابَ ، وكالنّسيم ِ العليل ِ يبعثُ النّشاطَ في النّفوس ِ الحالمةِ ، وكالوردِ العبق ِ الفوّاح ِ في وسطِ القيظِ المُلهبِ يُبهجُ المُهجَ فتنتعشُ وتطربُ ، جمعتُها من خلاصةِ ما سمعتهُ من طلاّبهِ ، أو وقفتُ عليهِ مُعاينة ً ، لعلَّ اللهَ أن يُبعثَ بها الهِممَ من مرقدِها .
هو شيخُنا الفقيهُ المُفسّرُ الأصوليُّ : أبو عبدِ اللهِ مُحمدُ بنُ محمّد المختار ِ بنِ أحمدَ مزيد الجكنيُّ الشنقيطيُّ ، والدهُ رجلٌ من أهل ِ العلم ِ الكِبار ِ ، درّسَ – أعني والدهُ – في المدينةِ النبويّةِ – شرّفها اللهُ – وفي جُدّة َ – حرسها اللهُ - ، وكانَ عالماً فاضلاً من سراةِ الشناقيطِ ، سليل ِ أرومةٍ من ذوي الشرفِ والوجاهةِ ، ومن أهل ِ الفضل ِ فيهم ، وهو ينتسبُ – كما حدّثني قريبٌ للشيخ ِ – إلى الإمام ِ الكبير ِ : المختار ِ بن ِ بونة َ الجكنيِّ – جادَ اللهُ بالرّحمةِ مثواهُ - ، أحدِ كِبار ِ العلماءِ في بلادِ شنقيطَ ، توفّيَ قديماً ، ولهُ مصنّفاتٌ عدّة ٌ منها : طرّة ُ الألفيّةِ ، والاحمرارُ ، وهي من عجائبِ ما ألّفَ في علم ِ العربيّةِ ، أكملَ بهما ألفية َ بن ِ مالكٍ ووشّحها بحاشيةٍ كاشفةٍ لمعانيها، ولهُ قصّة ٌ عجيبة ٌ تدلُّ على كرامةٍ من اللهِ لهُ - بعدَ أن ِ افترى عليهِ بعضُ أهل ِ عصرهِ ونابذوهُ حسداً وبغياً - ، حدثتْ في ساعةِ وفاتِهِ ، حدّثني بها غيرُ واحدٍ من أهل ِ العلم ِ ومنهم شيخُنا مُحمّدٌ ، ولذكرِها موضعٌ آخرُ .
ومن شعرهِ – أي ابن ِ بونة َ - الذي يفخرُ بهِ – وهي قصيدة ٌ مشهورة ٌ - قولهُ :
نحنُ ركبٌ من الأشرافِ مُنتظمٌ ********* أجلُّ ذا العصر ِ قدراً دونَ أدنانا
قد اتخذنا ظهورَ العيس ِ مدرسة ً ********* بها نُبيّنُ دينَ اللهِ تِبيانا
ومن أرادَ الوقوفَ على ترجمتهِ ، فلْيُراجعْ كِتابَ " الوسيطِ في تراجم ِ أدباءِ شنقيطَ " ، وهو مطبوعٌ مُتداولٌ .
ومن عجائبِ ما يُذكرُ عن والدهِ ، ما حدّثني بهِ شيخي مُحمّدٌ نقلاً عن شيخِنا الإمام ِ : مُحمّدٍ العُثيمين ِ – برّدَ الله مضجعهُ – أنَّ والدهُ كانَ يحفظُ كتابَ " البدايةِ والنهايةِ " للإمام ِ ابن ِ كثير ٍ – رحمهُ اللهُ – كاملاً ، وقد كرّرَ شيخُنا نقلَ هذا الكلام ِ غيرَ مرّةً ، وأخبرني الشيخُ أنَّ والدهُ كانَ من كِبارِ الضابطينِ لعلمِ التأريخ ِ والنّسبِ ، وذكرَ شيئاً من ذلكَ أيضاً العلاّمةُ : بكرُ بنُ عبدِ اللهِ أبو زيدٍ – شفاهُ اللهُ ومتّعهُ بالعافيةِ - ، في كتابهِ " طبقاتُ النسّابينَ " وغيرهُ .
ومن فضائلهِ – أعني والدهُ - جلَدهُ وصبرهُ ، فقد أوتيَ صبراً عظيماً على ما ابتلاهُ اللهُ بهِ من الأمراض ِ وتقلّبِ الأحوال ِ ، وبقدر ِ ما كانَ يعظمُ بهِ البلاءُ ويشتدُّ عليهِ الكربُ ، كانَ يزدادُ في الثباتِ صبراً واحتساباً ، من ذلكَ أنّهُ كانَ لا يكرهُ البنج والمخدّرَ في الجراحةِ ، فحصلَ عليهِ حادثٌ اقتضى جراحة ً فامتنعَ من قبول ِ البنج ِ ، وأجريتْ لهُ العمليّة ُ وخيطتْ جلدة ُ رأسهُ وهو في كامل ِ وعيهِ ، ولم يزدْ على أنْ كانَ يذكرُ اللهَ تعالى ، ولهُ في هذا أخبارٌ عجيبة ٌ ، ذكرها شيخُنا في دروسِهِ ومحاضراتهِ ، وأتى على شيءٍ منها العلاّمةُ : مُحمّدٌ المجذوبُ – رحمهُ اللهُ – في كتابهِ " علماءُ ومفكّرونَ عرفتهم " ، في جزءهِ الثالثِ ، فلْيُراجعْهُ من أرادَ الوقوفَ على ذلكَ .
وُلدَ شيخُنا في المدينةِ النبويّةِ سنةَ 1381 هـ ، كما حدّثني بذلكَ ، ودرسَ فيها دراستهُ النظاميّةَ ، وأكملَ الدراسةَ المتوسّطةَ والثانويّةَ في معاهدِ الجامعةِ الإسلاميّةِ التابعةِ لها ، ثمَّ أكملَ دراستهُ الجامعيّة َ في الجامعةِ الإسلاميّةِ ، في كلّيةِ الشريعةِ ، وتخرّجَ منها ، ثُمَّ عُيّنَ بها معيداً ، وحضّرَ رسالتهُ الماجستيرَ فيها ، وكانَ عنوانُ رسالتهِ " القدحُ في البيّنةِ في القضاءِ " ، ولم تطبعْ بعدُ ، ثُمَّ حضّرَ رسالتهُ في الدكتوراه ، وكانَ ينوي ابتداءً أن تكونَ في تحقيق ِ جزءٍ من كتابِ الإمام ِ ابن ِ عبدِ البرِّ – رحمهُ اللهُ – " الاستذكارُ " ، ثمَّ عدلَ بعدَ مشورةٍ لبعض ِ مشايخهِ إلى أن تكونَ رسالتهُ في الجراحةِ وأحكامِها ، فاختارَ ذلكَ الموضوعَ ، وكانتْ أطروحتهُ بعنوان ِ " أحكامُ الجراحةِ الطبيّةِ والآثارُ المُترتبة ُ عليها " ، وقد أجيزتْ بمرتبةِ الشرفِ الأولى ، مع التوصيةِ بالطبع ِ ، وطبعتْ مراراً ، وأخذَ شيخُنا عليها جائزة َ المدينةِ المنوّرةِ للبحثِ العلميِّ .
هذهُ نبذة ٌ يسيرةٌ عن مولدِ الشيخ ِ ودراستهِ وشهاداتِهِ .
أمّا عن علمهِ وفضلهِ وديانتهِ ، فهذا أمرٌ علمهُ جميعُ من عرفَ الشيخَ أو بلغهُ خبرهُ ، واستقرَّ في نفوسهم ، لما سمعوهُ من علمهِ ووقفوا عليهِ من فضلهِ وآثار ِ صلاحهِ ، فالشيخُ لهُ منظرٌ يُنبئُ عن مخبرهِ ، فلا يراهُ أحدٌ إلا ويذكرُ اللهَ تعالى ، فوجههُ وضيءٌ ، طلقُ المُحيّا ، مبتسمُ الثغر ِ ، ناتئُ الجبهةِ وبها أثرٌ للسجودِ ، وأسنانهُ بها فلجة ٌ زيّنتْ طلعتهُ ، وسيما الصلاح ِ وآثارُ الهُدى تتقاطرُ من حال ِ الشيخ ِ وهديهِ وسمتهِ .
حينَ الحديثِ عن علمهِ ووفرتهِ ، فإنَّ الأمرَ لا يحتاجُ إلى كبير ِ برهان ٍ أو تأكيدٍ ، فمن سمِعَ دروسَ الشيخ ِ أو محاضراتِهِ ، علِمَ حقّاً غزارة َ محفوظهِ ، ودقّة َ فهمهِ ، وكثرة َ اطّلاعهِ ، وسعة َ مواردهِ ، فقد درسَ الشيخُ الفقهَ والحديثَ والتفسيرَ على والدهِ مِراراً ، ومن جملةِ ما قرأهُ : الكتبَ الستّة َ وتفسيرَ القرءان ِ مِراراً ، إضافة ً إلى عشراتِ المتون ِ في الفقهِ وأصولهِ وأصول ِ الحديثِ والعقيدةِ وغيرِها ، ولهُ دِراية ٌ عجيبة ٌ بمذاهبِ الفقهاءِ وأقوالِهم ، فهو يستحضرُ كِتابَ " بدايةِ المُجتهدِ ونهايةِ المُقتصدِ " لابن ِ رُشدٍ الحفيدِ ، ولا تكادُ تمرُّ مسألة ٌ إلا ويذكرُ فيها أقوالَ أهل ِ العلم ِ ومذاهبَهم وأدلّتهم ، ثُمَّ لا يكتفي بذلكَ فحسب ، وإنّما يُرصّعُ البحثَ بالترجيح ِ والموازنةِ بينَ الأقوال ِ ، بطريقةٍ تدلُّ على فقه النفس ِ ، وشيخُنا وإنْ كانَ على طريقةِ المالكيّةِ في التقرير ِ والتفريع ِ ، إلا أنّهُ لا يعتمدُ إلا ما صحَّ بهِ الدليلُ ، وترجّحَ لهُ بموجبِ المقارنةِ بينَ الأقوال ِ ، وهو في دروسهِ يُلقي بحسبِ ما يتهيأ لهُ ، فقليلاً ما يُعدُّ أو يُراجعُ للدرس ِ ، وإنّما يأتي إلى مجلسهِ ويُقرأ عليه ، فينطلقُ كالسيل ِ الهادر ِ ، ولا يُعرفُ انتهاءِ الدرس ِ إلا بسكوتهِ .
وطريقتهُ في التدريس ِ كطريقةِ أصحابِ المطوّلاتِ من كُتبِ الفقهِ ، إذ يذكرُ المسألة َ وفروعها ، ويُطيلُ النفسَ فيها ، فينتظمُ درسهُ أبوابَ الفقهِ أصولاً وفروعاً ، ويذكرُ في كلِّ مسألةٍ أقوالَ أهل ِ العلم ِ فيها ، ويوردُ أدلّتهم وافرة ً تامّة ً ، ثمَّ يذكرُ أجوبةٍ كلٍّ ، حتّى يصلَ إلى ما يختارهُ ويُرجّحهُ ، فيذكرُ وجهَ اختيارهِ ، ويُجيبُ على أدلّةِ الآخرينَ ، كلُّ ذلكَ صارَ طبعاً فيهِ وعادة ً ، فلا يتكلّفُ شيئاً في درسهِ البتّة َ .
وقد توفيَ والدُ شيخِنا في سنةِ 1406 هـ ، ولشيخِنا من العمر ِ 25 عاماً ، وحينَ وفاتهِ أجازهُ بالفُتيا والتدريس ِ ، وكان ابتداءُ شيخِنا بالقراءةِ على والدهِ وعمرُه عشرُ سنواتٍ ، كما أخبرَ بذلكَ في دروسهِ .
وشيخُنا كثيرُ القراءةِ والمطالعةِ ، ولهُ عناية ٌ خاصّة ٌ بالكتبِ ومعرفة ٌ بها ، ومكتبتهُ كبيرة ٌ ، ورثَ أكثرَها عن أبيهِ ، فيها نفائسُ الطبعاتِ وأندرُها ، وقد حدّثني صاحبٌ من طلبةِ العلم ِ ، أنّهُ تناقشَ مع شيخِنا في مسألةٍ ، فذكرَ صاحبُنا للشيخ ِ أنَّ ابنَ تيميّة َ يرى رأيهُ ، فقالَ شيخُنا : لقد قرأتُ الفتاوى ثلاث مرّاتٍ ، ولم يمرَّ عليَّ هذا الكلامُ ! ، فإذا كانتِ الفتاوى قرأها ثلاث مرّاتٍ ، فكيفَ يكونُ شأنُ غيرها من الكتبِ والرسائل ِ ؟ ، ومن عجيبِ ما وقعَ لي معهُ أنّي مرّة ً أتيتُهُ فرِحاً أريدُ إلزامهُ بأمر ٍ ما في مسألةٍ فقهيّةٍ ، فذكرتُ لهُ وجهها ، فقالَ وهو يبتسمُ ابتسامة َ القرير ِ : انظرِ الجوابَ عنها في كتابِ " شرح ِ مُختصر ِ الخرقيِّ " للإمام ِ الزركشيِّ ، وكانَ الكتابُ حديثَ الطباعةِ ، فعجبتُ من سرعةِ قراءةِ الشيخ ِ للكتابِ ، بلهَ وقوفهُ عليهِ ! .
يتبع =
في زحمةِ هذهِ الأحداثِ المتلاطمةِ ، وما تمخّضَ عنها من المواضيع ِ الفاترةِ ، وفي خِضمِّ التصنيفاتِ الجائرةِ ، والمهاتراتِ البائسةِ ، تنكّبتْ بالكثير ِ من المنتدياتِ الأحوالُ ، وتتابعتْ عليها وعلى كُتّابِها الأهوالُ ، ولجَّ الكثيرُ من أهلِها في الخلافِ ، وأصرّوا على العِنادِ ، وصارتِ الكتابة ُ فيها – إلا قليلاً - نوعاً من العبثِ وضرباً من الهذيان ِ ، وإلى المجون ِ والتهريج ِ أقربَ منها إلى التأصيل ِ والتقرير ِ ، ولم نعُدْ نرى فيها إلا هجوماً وتدابراً ، كأنّنا في معركةٍ أو نِزال ٍ .
أقولُ هذا ولا أزكّي نفسي ، أو أستثنيها من هذا ، فأنا منكم ، إن خيراً فخيراً ، أو شرّاً فشرّاً ، وقاتلَ اللهُ دُريدَ بنَ الصمّةِ ، إذ سنَّ الموتَ مع الجماعةِ ولو على حالةٍ لا تسرُّ ، عندما جعلَ رُشدهُ من رُشدِ غزيّة َ – وهي قومهُ - ، وغوايتُهُ من غوايتِها ، وصارَ هذا من السُنن ِ التي تزيدُها الأيّامُ ثباتاً ، مع أنّها طبعٌ ذميمٌ ، وخلقٌ سيءٌ .
هذه الظِلالُ القاتمة ُ من الحال ِ المرير ِ الذي نعيشهُ ، تتطلّبُ منّا وقفة ً نُراجعُ فيها النفسَ ، وواحة ً نتفيّأ في ظلالِها الأنسَ ، ونجدُ في مغانيها الرّاحة َ ، وفي أعطافِها الدعة َ ، وإذا استمرأنا وضعنا المُخزي ، فنحنُ على أعتابِ كارثةٍ فكريّةٍ كُبرى ، فما دامَ الحالُ يُراوحُ في مكانهِ ، بينَ قدح ٍ سافر ٍ يكشفُ مخبوءَ النيّةِ السيئةِ ، وبينَ تصنيفٍ ظالم ٍ يفضحُ خواءَ النفس ِ من الإنصافِِ ، والقلمُ يُبرى ليُكتبَ بهِ ما لا يصلحُ أن يكونَ صحيفة ً على حائطٍ في مدرسةٍ للصبيان ِ ، فإنَّ استصلاحَ الحال ِ وتقويمهُ يحتاجُ إلى زمن ٍ فسيح ٍ ، ونفوس ٍ صابرةٍ ، وهمم ٍ مشحوذةٍ ، ولا يلوحُ في الأفقِ دونَ ذلكَ إلا خرطُ القتادِ ، وسفُّ الرّمادِ ، والحمدُ للهِ على كلِّ حال ٍ .
في طريق ِ الإصلاح ِ للقلم ِ ، والتهيئةِ للفكر ِ ، والدُربةِ للعقل ِ ، هذهِ مادّة ٌ خاصّة ٌ عن شيخِنا العلاّمةِ العابدِ الزاهدِ : مُحمّدِ بن ِ مُحمّدٍ المختار ِ الشنقيطيِّ ، أسعدَ اللهُ أيّامهُ ، وأعلى قدرهُ ومنزلتهُ ، أبثّهُا بينَ يديكم لتكونَ كالغيثِ الذي ينهمرُ فيروي الأرضَ القفرَ اليبابَ ، وكالنّسيم ِ العليل ِ يبعثُ النّشاطَ في النّفوس ِ الحالمةِ ، وكالوردِ العبق ِ الفوّاح ِ في وسطِ القيظِ المُلهبِ يُبهجُ المُهجَ فتنتعشُ وتطربُ ، جمعتُها من خلاصةِ ما سمعتهُ من طلاّبهِ ، أو وقفتُ عليهِ مُعاينة ً ، لعلَّ اللهَ أن يُبعثَ بها الهِممَ من مرقدِها .
هو شيخُنا الفقيهُ المُفسّرُ الأصوليُّ : أبو عبدِ اللهِ مُحمدُ بنُ محمّد المختار ِ بنِ أحمدَ مزيد الجكنيُّ الشنقيطيُّ ، والدهُ رجلٌ من أهل ِ العلم ِ الكِبار ِ ، درّسَ – أعني والدهُ – في المدينةِ النبويّةِ – شرّفها اللهُ – وفي جُدّة َ – حرسها اللهُ - ، وكانَ عالماً فاضلاً من سراةِ الشناقيطِ ، سليل ِ أرومةٍ من ذوي الشرفِ والوجاهةِ ، ومن أهل ِ الفضل ِ فيهم ، وهو ينتسبُ – كما حدّثني قريبٌ للشيخ ِ – إلى الإمام ِ الكبير ِ : المختار ِ بن ِ بونة َ الجكنيِّ – جادَ اللهُ بالرّحمةِ مثواهُ - ، أحدِ كِبار ِ العلماءِ في بلادِ شنقيطَ ، توفّيَ قديماً ، ولهُ مصنّفاتٌ عدّة ٌ منها : طرّة ُ الألفيّةِ ، والاحمرارُ ، وهي من عجائبِ ما ألّفَ في علم ِ العربيّةِ ، أكملَ بهما ألفية َ بن ِ مالكٍ ووشّحها بحاشيةٍ كاشفةٍ لمعانيها، ولهُ قصّة ٌ عجيبة ٌ تدلُّ على كرامةٍ من اللهِ لهُ - بعدَ أن ِ افترى عليهِ بعضُ أهل ِ عصرهِ ونابذوهُ حسداً وبغياً - ، حدثتْ في ساعةِ وفاتِهِ ، حدّثني بها غيرُ واحدٍ من أهل ِ العلم ِ ومنهم شيخُنا مُحمّدٌ ، ولذكرِها موضعٌ آخرُ .
ومن شعرهِ – أي ابن ِ بونة َ - الذي يفخرُ بهِ – وهي قصيدة ٌ مشهورة ٌ - قولهُ :
نحنُ ركبٌ من الأشرافِ مُنتظمٌ ********* أجلُّ ذا العصر ِ قدراً دونَ أدنانا
قد اتخذنا ظهورَ العيس ِ مدرسة ً ********* بها نُبيّنُ دينَ اللهِ تِبيانا
ومن أرادَ الوقوفَ على ترجمتهِ ، فلْيُراجعْ كِتابَ " الوسيطِ في تراجم ِ أدباءِ شنقيطَ " ، وهو مطبوعٌ مُتداولٌ .
ومن عجائبِ ما يُذكرُ عن والدهِ ، ما حدّثني بهِ شيخي مُحمّدٌ نقلاً عن شيخِنا الإمام ِ : مُحمّدٍ العُثيمين ِ – برّدَ الله مضجعهُ – أنَّ والدهُ كانَ يحفظُ كتابَ " البدايةِ والنهايةِ " للإمام ِ ابن ِ كثير ٍ – رحمهُ اللهُ – كاملاً ، وقد كرّرَ شيخُنا نقلَ هذا الكلام ِ غيرَ مرّةً ، وأخبرني الشيخُ أنَّ والدهُ كانَ من كِبارِ الضابطينِ لعلمِ التأريخ ِ والنّسبِ ، وذكرَ شيئاً من ذلكَ أيضاً العلاّمةُ : بكرُ بنُ عبدِ اللهِ أبو زيدٍ – شفاهُ اللهُ ومتّعهُ بالعافيةِ - ، في كتابهِ " طبقاتُ النسّابينَ " وغيرهُ .
ومن فضائلهِ – أعني والدهُ - جلَدهُ وصبرهُ ، فقد أوتيَ صبراً عظيماً على ما ابتلاهُ اللهُ بهِ من الأمراض ِ وتقلّبِ الأحوال ِ ، وبقدر ِ ما كانَ يعظمُ بهِ البلاءُ ويشتدُّ عليهِ الكربُ ، كانَ يزدادُ في الثباتِ صبراً واحتساباً ، من ذلكَ أنّهُ كانَ لا يكرهُ البنج والمخدّرَ في الجراحةِ ، فحصلَ عليهِ حادثٌ اقتضى جراحة ً فامتنعَ من قبول ِ البنج ِ ، وأجريتْ لهُ العمليّة ُ وخيطتْ جلدة ُ رأسهُ وهو في كامل ِ وعيهِ ، ولم يزدْ على أنْ كانَ يذكرُ اللهَ تعالى ، ولهُ في هذا أخبارٌ عجيبة ٌ ، ذكرها شيخُنا في دروسِهِ ومحاضراتهِ ، وأتى على شيءٍ منها العلاّمةُ : مُحمّدٌ المجذوبُ – رحمهُ اللهُ – في كتابهِ " علماءُ ومفكّرونَ عرفتهم " ، في جزءهِ الثالثِ ، فلْيُراجعْهُ من أرادَ الوقوفَ على ذلكَ .
وُلدَ شيخُنا في المدينةِ النبويّةِ سنةَ 1381 هـ ، كما حدّثني بذلكَ ، ودرسَ فيها دراستهُ النظاميّةَ ، وأكملَ الدراسةَ المتوسّطةَ والثانويّةَ في معاهدِ الجامعةِ الإسلاميّةِ التابعةِ لها ، ثمَّ أكملَ دراستهُ الجامعيّة َ في الجامعةِ الإسلاميّةِ ، في كلّيةِ الشريعةِ ، وتخرّجَ منها ، ثُمَّ عُيّنَ بها معيداً ، وحضّرَ رسالتهُ الماجستيرَ فيها ، وكانَ عنوانُ رسالتهِ " القدحُ في البيّنةِ في القضاءِ " ، ولم تطبعْ بعدُ ، ثُمَّ حضّرَ رسالتهُ في الدكتوراه ، وكانَ ينوي ابتداءً أن تكونَ في تحقيق ِ جزءٍ من كتابِ الإمام ِ ابن ِ عبدِ البرِّ – رحمهُ اللهُ – " الاستذكارُ " ، ثمَّ عدلَ بعدَ مشورةٍ لبعض ِ مشايخهِ إلى أن تكونَ رسالتهُ في الجراحةِ وأحكامِها ، فاختارَ ذلكَ الموضوعَ ، وكانتْ أطروحتهُ بعنوان ِ " أحكامُ الجراحةِ الطبيّةِ والآثارُ المُترتبة ُ عليها " ، وقد أجيزتْ بمرتبةِ الشرفِ الأولى ، مع التوصيةِ بالطبع ِ ، وطبعتْ مراراً ، وأخذَ شيخُنا عليها جائزة َ المدينةِ المنوّرةِ للبحثِ العلميِّ .
هذهُ نبذة ٌ يسيرةٌ عن مولدِ الشيخ ِ ودراستهِ وشهاداتِهِ .
أمّا عن علمهِ وفضلهِ وديانتهِ ، فهذا أمرٌ علمهُ جميعُ من عرفَ الشيخَ أو بلغهُ خبرهُ ، واستقرَّ في نفوسهم ، لما سمعوهُ من علمهِ ووقفوا عليهِ من فضلهِ وآثار ِ صلاحهِ ، فالشيخُ لهُ منظرٌ يُنبئُ عن مخبرهِ ، فلا يراهُ أحدٌ إلا ويذكرُ اللهَ تعالى ، فوجههُ وضيءٌ ، طلقُ المُحيّا ، مبتسمُ الثغر ِ ، ناتئُ الجبهةِ وبها أثرٌ للسجودِ ، وأسنانهُ بها فلجة ٌ زيّنتْ طلعتهُ ، وسيما الصلاح ِ وآثارُ الهُدى تتقاطرُ من حال ِ الشيخ ِ وهديهِ وسمتهِ .
حينَ الحديثِ عن علمهِ ووفرتهِ ، فإنَّ الأمرَ لا يحتاجُ إلى كبير ِ برهان ٍ أو تأكيدٍ ، فمن سمِعَ دروسَ الشيخ ِ أو محاضراتِهِ ، علِمَ حقّاً غزارة َ محفوظهِ ، ودقّة َ فهمهِ ، وكثرة َ اطّلاعهِ ، وسعة َ مواردهِ ، فقد درسَ الشيخُ الفقهَ والحديثَ والتفسيرَ على والدهِ مِراراً ، ومن جملةِ ما قرأهُ : الكتبَ الستّة َ وتفسيرَ القرءان ِ مِراراً ، إضافة ً إلى عشراتِ المتون ِ في الفقهِ وأصولهِ وأصول ِ الحديثِ والعقيدةِ وغيرِها ، ولهُ دِراية ٌ عجيبة ٌ بمذاهبِ الفقهاءِ وأقوالِهم ، فهو يستحضرُ كِتابَ " بدايةِ المُجتهدِ ونهايةِ المُقتصدِ " لابن ِ رُشدٍ الحفيدِ ، ولا تكادُ تمرُّ مسألة ٌ إلا ويذكرُ فيها أقوالَ أهل ِ العلم ِ ومذاهبَهم وأدلّتهم ، ثُمَّ لا يكتفي بذلكَ فحسب ، وإنّما يُرصّعُ البحثَ بالترجيح ِ والموازنةِ بينَ الأقوال ِ ، بطريقةٍ تدلُّ على فقه النفس ِ ، وشيخُنا وإنْ كانَ على طريقةِ المالكيّةِ في التقرير ِ والتفريع ِ ، إلا أنّهُ لا يعتمدُ إلا ما صحَّ بهِ الدليلُ ، وترجّحَ لهُ بموجبِ المقارنةِ بينَ الأقوال ِ ، وهو في دروسهِ يُلقي بحسبِ ما يتهيأ لهُ ، فقليلاً ما يُعدُّ أو يُراجعُ للدرس ِ ، وإنّما يأتي إلى مجلسهِ ويُقرأ عليه ، فينطلقُ كالسيل ِ الهادر ِ ، ولا يُعرفُ انتهاءِ الدرس ِ إلا بسكوتهِ .
وطريقتهُ في التدريس ِ كطريقةِ أصحابِ المطوّلاتِ من كُتبِ الفقهِ ، إذ يذكرُ المسألة َ وفروعها ، ويُطيلُ النفسَ فيها ، فينتظمُ درسهُ أبوابَ الفقهِ أصولاً وفروعاً ، ويذكرُ في كلِّ مسألةٍ أقوالَ أهل ِ العلم ِ فيها ، ويوردُ أدلّتهم وافرة ً تامّة ً ، ثمَّ يذكرُ أجوبةٍ كلٍّ ، حتّى يصلَ إلى ما يختارهُ ويُرجّحهُ ، فيذكرُ وجهَ اختيارهِ ، ويُجيبُ على أدلّةِ الآخرينَ ، كلُّ ذلكَ صارَ طبعاً فيهِ وعادة ً ، فلا يتكلّفُ شيئاً في درسهِ البتّة َ .
وقد توفيَ والدُ شيخِنا في سنةِ 1406 هـ ، ولشيخِنا من العمر ِ 25 عاماً ، وحينَ وفاتهِ أجازهُ بالفُتيا والتدريس ِ ، وكان ابتداءُ شيخِنا بالقراءةِ على والدهِ وعمرُه عشرُ سنواتٍ ، كما أخبرَ بذلكَ في دروسهِ .
وشيخُنا كثيرُ القراءةِ والمطالعةِ ، ولهُ عناية ٌ خاصّة ٌ بالكتبِ ومعرفة ٌ بها ، ومكتبتهُ كبيرة ٌ ، ورثَ أكثرَها عن أبيهِ ، فيها نفائسُ الطبعاتِ وأندرُها ، وقد حدّثني صاحبٌ من طلبةِ العلم ِ ، أنّهُ تناقشَ مع شيخِنا في مسألةٍ ، فذكرَ صاحبُنا للشيخ ِ أنَّ ابنَ تيميّة َ يرى رأيهُ ، فقالَ شيخُنا : لقد قرأتُ الفتاوى ثلاث مرّاتٍ ، ولم يمرَّ عليَّ هذا الكلامُ ! ، فإذا كانتِ الفتاوى قرأها ثلاث مرّاتٍ ، فكيفَ يكونُ شأنُ غيرها من الكتبِ والرسائل ِ ؟ ، ومن عجيبِ ما وقعَ لي معهُ أنّي مرّة ً أتيتُهُ فرِحاً أريدُ إلزامهُ بأمر ٍ ما في مسألةٍ فقهيّةٍ ، فذكرتُ لهُ وجهها ، فقالَ وهو يبتسمُ ابتسامة َ القرير ِ : انظرِ الجوابَ عنها في كتابِ " شرح ِ مُختصر ِ الخرقيِّ " للإمام ِ الزركشيِّ ، وكانَ الكتابُ حديثَ الطباعةِ ، فعجبتُ من سرعةِ قراءةِ الشيخ ِ للكتابِ ، بلهَ وقوفهُ عليهِ ! .
يتبع =
تعليق