أشعب .. بين الحمّامي والحلاق
كان اشعب اشهر الطفيليين في عصره ، واكثرهم طمعا ، واظرفهم حديثا ، واقبحهم وجها ، واجملهم صوتا ، واحذقهم في فنون الغناء ، وله حكايات ونوادر مشهورة .عاد الى المدينة ذات يوم من سفر ، وراى ان شعره قد طال ، وبدنه قد اتسخ من طول السفر ، فقال لخادمه : (( اختر لنا حماما نظيف البقعة ، طيب الهواء ، معتدل الماء ، وحلاقا خفيف اليد ، حديد الموسى ، قليل الكلام )) .
فقاده الغلام الى حمام في السوق ، فدخلها اشعب ، فلم يرعه الا رجل قد دخل على اثره ، وعمد الى قطعة طين فلطخ بها جبينه ، ووضعها على راسه ، ثم خرج .
ودخل آخر ، فجعل يدلكه دلكا يكد العظام ، ويغمزه غمزا يهد الاوصال ، ثم عمد الى راسه يغسله ويرسل عليه الماء ، واذا الاول قد عاد ، فراى الثاني منهمكا في دلكه ، فلكمه لكمة كادت تذهب باسنانه ، وقال له : (( يا لكع ! مالك ولهذا الراس ، وهو لي ؟ )) ، فقام اليه المضروب ، وعطف عليه بلطمة كادت تضيع صوابه ، وقال له : (( بل هذا الراس حقي وملكي وفي يدي ! )) .
وتلاكما حتى تعبا ، وتجاذبا الاثواب ، وسارا يتحاكمان الى صاحب الحمام ، فقال له الاول : (( انا صاحب هذا الراس ، لاني لطخت جبينه ، ووضعت عليه الطين )) ، وقال الثاني : (( بل انا مالكه ، لاني غسلته ، ودلكت صاحبه )) .
فقال الحمامي : (( ائتوني بالزبون اساله لأيّكما هذا الراس ؟! )) ، فذهب الرجلان الى اشعب ، وقالا له : (( لنا عندك شهادة ، فقم معنا ! )) .
وكان اشعب ما زال في مكانه ، لم يفهم مما حدث امامه شيئا ، ولا ادرك لهذا الشجار معنى ، فنهض وسار معهما الى صاحب الحمام ، فابتدره الحمامي قائلا : (( يا رجل ! لاتقل غير الصدق ، ولا تشهد بغير الحق ، قل لي : هذا الراس ( واشار الحمامي الى راس اشعب ) لايّهما ؟ )) ، فوقف اشعب دهشا مشدوها لحظة ، ثم قال : (( يا عافاك الله ، هذا راسي انا ، قد صحبني طول الطريق من المدينة الى مكة ، ومن مكة الى عرفات ، وما شككت انه لي ! )) ، فقال له الحمامي منتهرا : (( اسكت يا فضولي ! )) .
ثم مال الى احد الخصمين ، وقال له : (( يا هذا ! الى متى هذه المنافسة بينكما على راس صغير الشان قليل الخطر ؟ )) .
ثم التفت الى الخصم الاخر ، وقال مهونا عليه : (( وانت يا هذا ! هب انك لم تر هذا الراس التافه ! ))
فقام اشعب من ذلك المكان خجلا ، وارتدى ثيابه على عجل ، وانسل من الحمام ، فوجد غلامه المنتظر بالباب يقول له : (( نعيما ان شاء الله ! )) ، فهوى في الحال بكفه على قفا الغلام ، وصاح : (( انعم الله عليك بهذا ! )) .
ثم اسرع بالذهاب الى منزله ، وما ان دخل ، حتى ارسل غلامه لياتيه بحلاق ، واوصاه ان يحذر هذه المرة ، فلا يحضره فضوليا ولا ثرثارا ، فحسبه ما لقي في الحمام ، وما لحقه فيه من سب وانتهار !
فانصرف الغلام ، ثم عاد برجل ، دخل وسلم وما هو الا ان رأى وجه اشعب ، حتى قال له : (( جعلت فداك ! هذا وجه لا اعرفه ، فمن انت ؟ )) ، فقال اشعب : (( اسمي اشعب )) .
فقال الحلاق : (( بابي انت وامي ، هذا اسم لا يجهله احد في المدينة ! ومن اين قدمت ؟ فاني ارى عليك اثر السفر ! )) ، فقال اشعب : (( من مكة )) .
فقال الحلاق : (( حياك الله ! من ارض النعمة والرفاهة ، وبلد رسول الله ( r ) ، ولقد حضرت في شهر رمضان جامعها ، وقد اشعلت فيه المصابيح ، واقيمت التراويح … )) .
وجعل يقص قصة طويلة لا آخر لها ولا معنى ، واشعب يصبر نفسه ، الى ان فرغ الحلاق من القصة ، فعاد يسال : (( واي شئ اقدمك ، اصلحك الله ؟ )) .
فاجاب اشعب : (( اقدمني الزمن وتقلباته ، وساخبرك ـ اذا فرغت ـ بالامور على وجهها )) .
فقال الحلاق : (( وتعرفني بالمنازل والطرق التي جئت عليها ؟ )) ، فقال اشعب : (( نعم )) .
ومالت الشمس الى الغروب ، ولم يفرغ الحلاق من الكلام ، ولم يفرغ مما جاء له ، واخيرا قال : (( فهل ترى ان نبتدئ ( يعني بالحلق ) ؟ )) .
فقال له اشعب : (( وماذا كنت تصنع فيما مضى من الوقت ؟ )) .
ونهض فوثب بعيدا ، وما ان استوثق انه افلت من يد الحلاق ومواسيه حتى صاح بالخادم : (( علق هذا الحلاق من العقبين )) ، فهجم عليه الخادم ، وعلقه كما امره سيده .
فدنا منه اشعب ، وقال له : (( جعلت فداك ! سالتني عن المنازل والطرق التي قدمت عليها ، وانا مشغول في ذلك الوقت ، وظننت انك مشغول بعملك ، فانا اقصها عليك الان ، فاستمع : خرجنا من مكة في المساء ، فنزلنا بئرا ذات نخيل في ظهيرة الغد ، يا غلام ( والتفت الى غلامه ) اوجع )) ، فضربه الخادم عشرة اسواط .
فقال اشعب : (( وركبنا عند المساء ، فنزلنا عين ماء حولها عشب عند طلوع النهار ، يا غلام ، اوجع ! )) ، فضربه الخادم عشرة اخرى .
وقال اشعب : (( ثم ركبنا ضحى اليوم ، وسرنا الى نجع ، وقد اشرفنا على الاصيل ، يا غلام اوجع )) ، فضربه الخادم عشرة ثالثة .
ثم قال اشعب : (( وبعدئذ ركبنا ، وسرنا حتى وجدنا .. )) .
فصاح الحلاق مقاطعا : (( يا سيدي ، سالتك بالله الى اين تريد ان تبلغ ؟ )) ، فقال اشعب : (( الى المدينة )) ، فصاح الحلاق : (( لست تبلغها حتى تقتلني ! )) .
فقال اشعب : (( اتركك على ان لا تعود الى الثرثرة والفضول ؟ )) .
فصاح الحلاق متوسلا : (( والله لن اعود ابدا ! )) .
فتركه .
تعليق