عجباً للموت، ذلكم الحوض المورود والكأس المشروب، كل الطرق تؤدي إليه سريعها وبطيئها، برها وبحرها وجوها:
سبيل الموت غاية كل حي
فداعيه لأهل الأرض داعي
وأعجب منه ابن آدم كأنّه يستبطئه، فيغذ السير جاهداً صوبه، وهو يحسب أن في هذا خلاصه، وما يدري المسكين أنه يسرع بخطاه إلى ورود حياض المنايا:
نسير إلى الآجال في كل لحظة
وأيامنا تطوى وهنّ مراحلُ
ولم أر مثل الموت حقاً كأنه
إذا ما تخطته الأماني باطلُ
وأيدينا ما برحت معفرة بالتراب تهيله كل يوم على أصحاب وأحباب لو استطعنا لفديناهم دون الموت بالنفس والنفيس وبالطارف والتليد، ولكنه الموت لا يقبل الفداء، ولا يسمح بالإرجاء، حتى ولو كان المفتدى أو المرتجى إرجاؤه أحب الأحباب أبا أو أما، لأنها آجال مقدرة وأنفاس معدودة: {وّلّوً يٍؤّاخٌذٍ اللَّهٍ النَّاسّ بٌظٍلًمٌهٌم مَّا تّرّكّ عّلّيًهّا مٌن دّابَّةُ وّلّكٌن يٍؤّخٌَرٍهٍمً إلّى" أّجّلُ مٍَسّمَْى فّإذّا جّاءّ أّّجّلٍهٍمً لا يّسًتّأًخٌرٍونّ سّاعّةْ وّلا يّسًتّقًدٌمٍونّ} [النحل: 61].
الطريق إلى الموت:
قبل أيام قدمتْ من كنتُ أتمنى قدومها كل حين، وأرى في لقياها عيدي الحقيقي، ومن كانت طلعة محياها تزيل همومي، وتغمر قلبي بالسعادة والحبور، أجل لقد قدمت أمي إلينا في الرياض، ولكنها هذه المرة أتت وهي تعاني من انسداد في أحد شرايين قلبها الذي أضناه حنان الأمومة، جاءت أملا في إزالة تعبها اليسير في صدرها، ولاسيما قد علمت أن عمليات (القسطرة) أصبحت من أيسر الأمور الطبية، فأدخلت المستشفى تحوطها الدعوات مرفوعة إلى رب الأرباب أن يمن عليها باكتمال العافية، وكان لها ما أرادت ونحن مثلها، فأجرى لها الأطباء العملية، ونجحت بتوفيق الله، وقدم طبيبها وصفة الدواء اللازم لما بعد العملية، وخرجت والدتي من المستشفى بعافية، ولكن ليجري المقدور أجّلت صيدلية المستشفى إعطاء بعض الأدوية اللازمة ثلاثة أيام، لأنها لم تكن متوفرة حينذاك لديها!! وبعد ثلاثة أيام شعرت أمي بالأعراض الخفيفة نفسها التي كانت تعانيها، وكانت المفاجأة أن الشريان نفسه قد عاد إليه الانسداد، ولكن الأشد فجاءة أن ذلك - كما قال الطبيب نفسه - كان بسبب تأجيل أخذ أحد الأدوية، وهو الذي لم يكن متوفرا في صيدلية المستشفى، عند ذاك قرر الطبيب إجراء عملية قسطرة أخرى لها، ولكن وليجري أيضا ما قضاه الله وقدره، عمدوا قبل ذلك إلى إعطائها حقنة تستعمل عادة في إزالة انسدادات الشرايين أملا في الاستغناء عن إجراء العملية مرة أخرى، وحين ودّعت حبيبة القلب عند الساعة التاسعة مساء كانت تقول لي: إنها لم تعد تشعر إلا بوخز يسير في الظهر، وتركتُ غرفتها بعد أن ودعتها، وهي تلهج بحمد ربها تسبيحا وتهليلا، ولم أكن أدري أنه سيكون لهذا الوداع ما بعده، حيث عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل إذا بالهاتف الجوال يرن ويلح في النداء، وتلك ساعة لا تطرق فيها الطير في أوكارها، فأراع قلبي وأفزعني، إذ رجحت أنه قد حدث مكروه، وتوقّع المصيبة أشد هولا من وقوعها، فنهضت من فراشي مذعورا، أسأل المولى جل جلاله اللطف في قضائه، وحين أبصرت على شاشة الجوال اسم (إبراهيم) أخي، وهو أبرّنا بأمه، وهو الذي أشهد له أنه ما مات من خلّف مثله، حينذاك أيقنت أنه قد حصل لأمي ما لا أتمنى سماعه، فغشيتني غشاوة، فاسترجعت، وقلت: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، واستمعتُ إليه بما بقي من حواسي، وإذا به يقول: إن المستشفى اتصلوا به، وأخبروه أن والدتنا حصل نزيف داخلي في رأسها، وأنها تحتاج إلى عملية عاجلة لسحب الدم من الرأس، هببتُ مسرعاً إلى المستشفى، وظللتُ وإياه ساعات خمساً ننتظر نتيجة العملية، وساعات أخرى خمسا ننتظر إفاقتها، ولكن دون جدوى، فبعد فحوصات جديدة جاءنا الخبر الطبي اليقين، أنها أصيبت في الجزء الآخر من الرأس بنزيف أيضا، وأن جلطة دماغية أصابتها، وأن الاحتمال الراجح أنها لن تفيق، وأنها ستظل على أجهزة التنفس والتغذية، وتحت الرقابة الدقيقة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، اللهم لا راد لقضائك، و{-انا لله وانا اليه راجعون}، وحشرجت الدموع في حلقي، وتمنيتُ لو أنها سالت على الخدّ كي تخفف مما آلم قلبي، فذلك أهون على المرء من جسر الدموع الداخلية:
صبرت وكان الصبر خير مغبة
وهل جزع يجدي عليّ فأجزعُ
صبرت على ما لو تحمّل بعضه
جبالُ شرورى أصبحت تتصدّعُ
ملكت دموع العين ثمَّ رددتها
إلى ناظري فالعين في القلب تدمعُ
وعشتُ كما عاش إخوتي وأخواتي ما بين اليأس وبصيص الأمل الذي لا ينتظره غيري وغيرهم، عشنا سبعة عشر يوما، كنت أجاهد خلالها نفسي على الظفر بحلاوة الإيمان بقضاء الله وقدره، وبمدافعة وساوس الشيطان الذي ما يفتأ يذكرني بقول الشاعر:
إذا ما مات بعضُكَ فابكِ بعضاً
فإن البعضَ من بعضِ قريب
ليجذبني إلى اليأس والقنوط، وكنت طوال أوقات الزيارات المسموح بها لا أملك لأمي إلا الدعاء وقراءة القرآن الذي ما كانت لتفتر عن سماعه من خلال إذاعة القرآن الكريم، ولا أملّ من تقبيل رأسها وجبينها وخديها ويديها، ومن ثمَّ أخرج والحزن يغمر قلبي.
ومن عجائب أفكاري طوال الأيام العصيبة أنني في مرات غير قليلة تمنيت أن تكون أمي مقعدة، لقد كنت ألتفت يمينا وشمالا حول سريرها، فأرى مريضا ملازما لسريره لا يستطيع النزول عنه، وآخر بلغ به الإعياء أنه لا يتكلم إلا همساً، فأتمنى أن تعود أمّي ولو على مثل حالة هذا أو ذاك، أرأيتم قبلي إنسانا تمنى لأمّه مثل ما تمنيتُ؟ على رسلكم لا تعجلوا في ملامي؛ إنه من فرط حبي لأمي، لقد كان الشيطان يوسوس لي، فيقول لي: ما عليه أمك هو ما عناه أبو تمام في قوله:
ليس من مات فاستراح بميت
إنّما الميت ميتُ الأحياءِ
سبيل الموت غاية كل حي
فداعيه لأهل الأرض داعي
وأعجب منه ابن آدم كأنّه يستبطئه، فيغذ السير جاهداً صوبه، وهو يحسب أن في هذا خلاصه، وما يدري المسكين أنه يسرع بخطاه إلى ورود حياض المنايا:
نسير إلى الآجال في كل لحظة
وأيامنا تطوى وهنّ مراحلُ
ولم أر مثل الموت حقاً كأنه
إذا ما تخطته الأماني باطلُ
وأيدينا ما برحت معفرة بالتراب تهيله كل يوم على أصحاب وأحباب لو استطعنا لفديناهم دون الموت بالنفس والنفيس وبالطارف والتليد، ولكنه الموت لا يقبل الفداء، ولا يسمح بالإرجاء، حتى ولو كان المفتدى أو المرتجى إرجاؤه أحب الأحباب أبا أو أما، لأنها آجال مقدرة وأنفاس معدودة: {وّلّوً يٍؤّاخٌذٍ اللَّهٍ النَّاسّ بٌظٍلًمٌهٌم مَّا تّرّكّ عّلّيًهّا مٌن دّابَّةُ وّلّكٌن يٍؤّخٌَرٍهٍمً إلّى" أّجّلُ مٍَسّمَْى فّإذّا جّاءّ أّّجّلٍهٍمً لا يّسًتّأًخٌرٍونّ سّاعّةْ وّلا يّسًتّقًدٌمٍونّ} [النحل: 61].
الطريق إلى الموت:
قبل أيام قدمتْ من كنتُ أتمنى قدومها كل حين، وأرى في لقياها عيدي الحقيقي، ومن كانت طلعة محياها تزيل همومي، وتغمر قلبي بالسعادة والحبور، أجل لقد قدمت أمي إلينا في الرياض، ولكنها هذه المرة أتت وهي تعاني من انسداد في أحد شرايين قلبها الذي أضناه حنان الأمومة، جاءت أملا في إزالة تعبها اليسير في صدرها، ولاسيما قد علمت أن عمليات (القسطرة) أصبحت من أيسر الأمور الطبية، فأدخلت المستشفى تحوطها الدعوات مرفوعة إلى رب الأرباب أن يمن عليها باكتمال العافية، وكان لها ما أرادت ونحن مثلها، فأجرى لها الأطباء العملية، ونجحت بتوفيق الله، وقدم طبيبها وصفة الدواء اللازم لما بعد العملية، وخرجت والدتي من المستشفى بعافية، ولكن ليجري المقدور أجّلت صيدلية المستشفى إعطاء بعض الأدوية اللازمة ثلاثة أيام، لأنها لم تكن متوفرة حينذاك لديها!! وبعد ثلاثة أيام شعرت أمي بالأعراض الخفيفة نفسها التي كانت تعانيها، وكانت المفاجأة أن الشريان نفسه قد عاد إليه الانسداد، ولكن الأشد فجاءة أن ذلك - كما قال الطبيب نفسه - كان بسبب تأجيل أخذ أحد الأدوية، وهو الذي لم يكن متوفرا في صيدلية المستشفى، عند ذاك قرر الطبيب إجراء عملية قسطرة أخرى لها، ولكن وليجري أيضا ما قضاه الله وقدره، عمدوا قبل ذلك إلى إعطائها حقنة تستعمل عادة في إزالة انسدادات الشرايين أملا في الاستغناء عن إجراء العملية مرة أخرى، وحين ودّعت حبيبة القلب عند الساعة التاسعة مساء كانت تقول لي: إنها لم تعد تشعر إلا بوخز يسير في الظهر، وتركتُ غرفتها بعد أن ودعتها، وهي تلهج بحمد ربها تسبيحا وتهليلا، ولم أكن أدري أنه سيكون لهذا الوداع ما بعده، حيث عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل إذا بالهاتف الجوال يرن ويلح في النداء، وتلك ساعة لا تطرق فيها الطير في أوكارها، فأراع قلبي وأفزعني، إذ رجحت أنه قد حدث مكروه، وتوقّع المصيبة أشد هولا من وقوعها، فنهضت من فراشي مذعورا، أسأل المولى جل جلاله اللطف في قضائه، وحين أبصرت على شاشة الجوال اسم (إبراهيم) أخي، وهو أبرّنا بأمه، وهو الذي أشهد له أنه ما مات من خلّف مثله، حينذاك أيقنت أنه قد حصل لأمي ما لا أتمنى سماعه، فغشيتني غشاوة، فاسترجعت، وقلت: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، واستمعتُ إليه بما بقي من حواسي، وإذا به يقول: إن المستشفى اتصلوا به، وأخبروه أن والدتنا حصل نزيف داخلي في رأسها، وأنها تحتاج إلى عملية عاجلة لسحب الدم من الرأس، هببتُ مسرعاً إلى المستشفى، وظللتُ وإياه ساعات خمساً ننتظر نتيجة العملية، وساعات أخرى خمسا ننتظر إفاقتها، ولكن دون جدوى، فبعد فحوصات جديدة جاءنا الخبر الطبي اليقين، أنها أصيبت في الجزء الآخر من الرأس بنزيف أيضا، وأن جلطة دماغية أصابتها، وأن الاحتمال الراجح أنها لن تفيق، وأنها ستظل على أجهزة التنفس والتغذية، وتحت الرقابة الدقيقة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، اللهم لا راد لقضائك، و{-انا لله وانا اليه راجعون}، وحشرجت الدموع في حلقي، وتمنيتُ لو أنها سالت على الخدّ كي تخفف مما آلم قلبي، فذلك أهون على المرء من جسر الدموع الداخلية:
صبرت وكان الصبر خير مغبة
وهل جزع يجدي عليّ فأجزعُ
صبرت على ما لو تحمّل بعضه
جبالُ شرورى أصبحت تتصدّعُ
ملكت دموع العين ثمَّ رددتها
إلى ناظري فالعين في القلب تدمعُ
وعشتُ كما عاش إخوتي وأخواتي ما بين اليأس وبصيص الأمل الذي لا ينتظره غيري وغيرهم، عشنا سبعة عشر يوما، كنت أجاهد خلالها نفسي على الظفر بحلاوة الإيمان بقضاء الله وقدره، وبمدافعة وساوس الشيطان الذي ما يفتأ يذكرني بقول الشاعر:
إذا ما مات بعضُكَ فابكِ بعضاً
فإن البعضَ من بعضِ قريب
ليجذبني إلى اليأس والقنوط، وكنت طوال أوقات الزيارات المسموح بها لا أملك لأمي إلا الدعاء وقراءة القرآن الذي ما كانت لتفتر عن سماعه من خلال إذاعة القرآن الكريم، ولا أملّ من تقبيل رأسها وجبينها وخديها ويديها، ومن ثمَّ أخرج والحزن يغمر قلبي.
ومن عجائب أفكاري طوال الأيام العصيبة أنني في مرات غير قليلة تمنيت أن تكون أمي مقعدة، لقد كنت ألتفت يمينا وشمالا حول سريرها، فأرى مريضا ملازما لسريره لا يستطيع النزول عنه، وآخر بلغ به الإعياء أنه لا يتكلم إلا همساً، فأتمنى أن تعود أمّي ولو على مثل حالة هذا أو ذاك، أرأيتم قبلي إنسانا تمنى لأمّه مثل ما تمنيتُ؟ على رسلكم لا تعجلوا في ملامي؛ إنه من فرط حبي لأمي، لقد كان الشيطان يوسوس لي، فيقول لي: ما عليه أمك هو ما عناه أبو تمام في قوله:
ليس من مات فاستراح بميت
إنّما الميت ميتُ الأحياءِ
تعليق