د. أسعد عبد الرحمن
"عندما يعجز الإنسان عن أن يكون يهودياً يصبح صهيونياً... ولست أبالغ بذلك، فالصهيونية تبدأ من موقع تدمير اليهودية من المكان الذي أنهكت فيه قوى الشعب. هذه حقيقة"! هذا، ما ورد على لسان الأديب والروائي اليهودي "حاييم هزار". وعلى صعيد مُتمم، وأثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان، نشرت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية بتاريخ 17/8/2006 مقالاً للصحفي "يونتان شيم" بعنوان: "تأسست تل أبيب في عام 1909 وفي عام 2009 ستصبح أنقاضاً"، حيث جاء فيه: "أنه قبل مئة عام أقاموا أولى المدن العبرية، وبعد مئة عام من العزلة قضي أمرها".
لكن ما الذي يدعو أديباً وصحفياً للحديث عن "نهاية" إسرائيل في وقت يقف فيه العالم الغربي مع هذه الدولة، ناهيك عن حصولها على دعم يفوق الوصف من الولايات المتحدة الأميركية على كافة الأصعدة؛ سياسياً ومالياً وعسكرياً؟! ابتداء، ثمة حقيقة ربما لا يدركها سوى المتخصص في الشؤون الإسرائيلية في عالمنا العربي، وهي أن موضوع نهاية إسرائيل متجذر في الوجدان الصهيوني. فحتى قبل إنشاء الدولة، أدرك عدد من الصهاينة الأوائل أن مشروعهم مستحيل، وأن الحلم الصهيوني سيتحول إلى كابوس. لذلك تجد الشاعر الإسرائيلي "حاييم جوري" وهو يعتقد أن كل إسرائيلي يولد "وفي داخله السكين الذي سيذبحه"، فهذا التراب ("الإسرائيلي") لا يرتوي"، حيث إنه يطالب دائماً "بمزيد من المدافن وصناديق دفن الموتى". ورغم أن موضوع "النهاية" لا يحب أحد في إسرائيل مناقشته، فإنه يطل برأسه في الأزمات. وعلى سبيل المثال، حين قررت محكمة العدل الدولية عدم شرعية جدار الفصل العنصري، ازداد الحديث عن أن هذه هي بداية "النهاية".
أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وحين بدأ الإجماع اليهودي بخصوص الاستعمار/ "الاستيطان" يتساقط، حذر "إسرائيل هاريل"، وهو المتحدث باسم المستعمرين، من أن أي شكل من أشكال الانسحاب والتنازل (من طرف واحد)، لن يتوقف عند الخط الأخضر (فلسطين 1948)، بل سيكون هناك "انسحاب روحي" يمكن أن يهدد وجود الدولة ذاتها (جيروزاليم بوست 30/1/1988). ومع انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000، تحدثت الصحف العبرية كثيراً عن موضوع نهاية إسرائيل. ففي هذا السياق، نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" (27/1/2002) مقالاً بعنوان "يشترون شققاً في الخارج تحسباً لليوم الأسود"، والمقصود هنا هم الإسرائيليون الذين غادروا حينئذ بالآلاف، أما "اليوم الأسود" فهو اليوم الذي لا يحب الإسرائيليون أن يفكروا فيه، أي يوم نهاية إسرائيل! والموضوع نفسه يظهر في مقال "ياعيل باز ميلماد" (نشر في صحيفة معاريف 27/12/2001)، والذي قال: "أحاول دائماً أن أبعد عني هذه الفكرة المزعجة، ولكنها تطل في كل مرة وتظهر من جديد؛ هل يمكن أن تكون نهاية الدولة كنهاية الحركة الكيبوتسية؟ ثمة أوجه شبه كثيرة بين المجريات التي مرت على الكيبوتسات قبل أن تحتضر أو تموت، وبين ما يجرى في الآونة الأخيرة مع الدولة". أما "أبراهام بورج"، رئيس "الكنيست" الإسرائيلي الأسبق، فيقول في مقال له نشر على صفحات "يديعوت أحرونوت" (29 أغسطس 2003)، إن "نهاية المشروع الصهيوني على عتبات أبوابنا. وهناك فرصة حقيقية لأن يكون جيلنا آخر جيل صهيوني". أما "ليرون لندن" فيذكر في مقال نشرته "يديعوت أحرونوت" يوم 27/11/ 2003، وعنوانه "عقارب الساعة تقترب من الصفر لدولة إسرائيل"، أنه "علم في مؤتمر المناعة الاجتماعية الذي عقد هذا الأسبوع، أن عدداً كبيراً جداً من الإسرائيليين يشكون فيما إذا كانت الدولة ستبقى بعد 30 عاماً، وهذه المعطيات المقلقة تدل على أن عقارب الساعة تقترب من الساعة 12 (أي لحظة النهاية). وهذا هو السبب في كثرة الخطط السياسية التي تولد خارج الرحم العاقر للسلطة".
إن المتابع لما تمر به الحياة السياسية في "إسرائيل"، وخصوصاً منذ عقدين، يلاحظ تصاعد نفوذ المتدينين المتعصبين دينياً وقومياً وازدياد تأثيرهم على الحياة، الأمر الذي مكنهم من فرض وجودهم في الشارع وفي "الكنيست"، مما جعلهم قادرين على إملاء تشريعات وتسهيلات خاصة بهم، تساهم في زيادة وزنهم أكثر فأكثر. وإسرائيل التي أريد لها أن تكون "دولة علمانية"، يلعب الدين فيها دوراً لم تستطع لا "حركة العمل" التي أقيمت دولة إسرائيل على يدها (وآخر تعبيراتها السياسية "حزب العمل")، ولا "الليكود"، ولا حتى حزب "كاديما" الجديد الذي انشق به أرييل شارون عن "الليكود"... تجاهله.
وأصبح من الواضح أن كل حكومة جديدة باتت تركض وراء نواب الأحزاب الدينية، حتى غدا الوضع ينبئ بأن إسرائيل تتجه نحو دولة يمينية يتحول فيها النظام العلماني إلى نظام سياسي ديني يحكمه الحاخامات وعموم رجال الدين، الأمر الذي سيحدث تغييرات مهمة في بنية الدولة وشكلها ومنظومة علاقتها على كافة الأصعدة. وخير مثال على ذلك، سعي ونجاح رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي إيهود أولمرت إلى ضم حزب "إسرائيل بيتنا" الأكثر يمينية بين الأحزاب السياسية، إلى ائتلافه مع حزب "العمل".
كذلك، لا يخفي الكتاب الإسرائيليون تخوفهم من تعاظم قوة ونفوذ الحضور الديني اليهودي ودوره في هجرة الكثير من العلمانيين، وهذا ما أثبتته مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين (2003) حيث أجرت ما أسمته "مفاوضات سرية" من أجل إقامة مستعمرة علمانية خارج إسرائيل. وحين سئلت الدكتورة "ميخال أورين"، المحاضرة في جامعة حيفا، عن سبب ذلك قالت: "لقد سئمنا من كل ما يحدث في الشارع: العنف، الجهل، وكذلك من سيطرة شاس التي أدت إلى إثارة مشاعرنا. لقد ذهبت أفكار وتصورات الهجرات الأولى التي أقامت الدولة في مهب الريح. لم يعد بوسعنا البكاء ولقد فقدنا الأغلبية.
لذلك، ليس لنا خيار سوى أن نترك لهم (البلاد)، والسعي لتحقيق الحلم، أي إقامة إسرائيل الجديدة، في مكان آخر". وبالفعل، ارتفع عدد المهاجرين الروس الذين غادروا "إسرائيل" عائدين إلى روسيا في السنوات الأربع الماضية بنسبة 600%. وفي هذا النطاق، أفادت صحيفة "يديعوت أحرونوت" مؤخراً بأن 50 ألف إسرائيلي يعيشون الآن في الاتحاد الروسي. ومن جهة أخرى، أشار مكتب الإحصاء المركزي في روسيا إلى أن 28500 إسرائيلي من أصول روسية عادوا لبلدهم الأصلي منذ بداية العقد الماضي، فيما تشير تقديرات السفارة الإسرائيلية بموسكو إلى أن آلافاً أخرى من الإسرائيليين يعيشون في روسيا بموجب تأشيرات دخول عادية ولم يتقدموا بطلبات هجرة، ولذلك فإن معطيات مكتب الإحصاء الروسي لم تشملهم. وإزاء هذا الحال، ما هو دور النظامين الرسميين، العربي والإسلامي، في تعجيل مثل تلك "النهاية"؟ أم أن ذينك النظامين قد وصلا -قبل إسرائيل- إلى "النهاية" الخاصة بكل منهما؟!
*نقلا عن جريدة "الاتحاد" الإماراتية
"عندما يعجز الإنسان عن أن يكون يهودياً يصبح صهيونياً... ولست أبالغ بذلك، فالصهيونية تبدأ من موقع تدمير اليهودية من المكان الذي أنهكت فيه قوى الشعب. هذه حقيقة"! هذا، ما ورد على لسان الأديب والروائي اليهودي "حاييم هزار". وعلى صعيد مُتمم، وأثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان، نشرت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية بتاريخ 17/8/2006 مقالاً للصحفي "يونتان شيم" بعنوان: "تأسست تل أبيب في عام 1909 وفي عام 2009 ستصبح أنقاضاً"، حيث جاء فيه: "أنه قبل مئة عام أقاموا أولى المدن العبرية، وبعد مئة عام من العزلة قضي أمرها".
لكن ما الذي يدعو أديباً وصحفياً للحديث عن "نهاية" إسرائيل في وقت يقف فيه العالم الغربي مع هذه الدولة، ناهيك عن حصولها على دعم يفوق الوصف من الولايات المتحدة الأميركية على كافة الأصعدة؛ سياسياً ومالياً وعسكرياً؟! ابتداء، ثمة حقيقة ربما لا يدركها سوى المتخصص في الشؤون الإسرائيلية في عالمنا العربي، وهي أن موضوع نهاية إسرائيل متجذر في الوجدان الصهيوني. فحتى قبل إنشاء الدولة، أدرك عدد من الصهاينة الأوائل أن مشروعهم مستحيل، وأن الحلم الصهيوني سيتحول إلى كابوس. لذلك تجد الشاعر الإسرائيلي "حاييم جوري" وهو يعتقد أن كل إسرائيلي يولد "وفي داخله السكين الذي سيذبحه"، فهذا التراب ("الإسرائيلي") لا يرتوي"، حيث إنه يطالب دائماً "بمزيد من المدافن وصناديق دفن الموتى". ورغم أن موضوع "النهاية" لا يحب أحد في إسرائيل مناقشته، فإنه يطل برأسه في الأزمات. وعلى سبيل المثال، حين قررت محكمة العدل الدولية عدم شرعية جدار الفصل العنصري، ازداد الحديث عن أن هذه هي بداية "النهاية".
أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وحين بدأ الإجماع اليهودي بخصوص الاستعمار/ "الاستيطان" يتساقط، حذر "إسرائيل هاريل"، وهو المتحدث باسم المستعمرين، من أن أي شكل من أشكال الانسحاب والتنازل (من طرف واحد)، لن يتوقف عند الخط الأخضر (فلسطين 1948)، بل سيكون هناك "انسحاب روحي" يمكن أن يهدد وجود الدولة ذاتها (جيروزاليم بوست 30/1/1988). ومع انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000، تحدثت الصحف العبرية كثيراً عن موضوع نهاية إسرائيل. ففي هذا السياق، نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" (27/1/2002) مقالاً بعنوان "يشترون شققاً في الخارج تحسباً لليوم الأسود"، والمقصود هنا هم الإسرائيليون الذين غادروا حينئذ بالآلاف، أما "اليوم الأسود" فهو اليوم الذي لا يحب الإسرائيليون أن يفكروا فيه، أي يوم نهاية إسرائيل! والموضوع نفسه يظهر في مقال "ياعيل باز ميلماد" (نشر في صحيفة معاريف 27/12/2001)، والذي قال: "أحاول دائماً أن أبعد عني هذه الفكرة المزعجة، ولكنها تطل في كل مرة وتظهر من جديد؛ هل يمكن أن تكون نهاية الدولة كنهاية الحركة الكيبوتسية؟ ثمة أوجه شبه كثيرة بين المجريات التي مرت على الكيبوتسات قبل أن تحتضر أو تموت، وبين ما يجرى في الآونة الأخيرة مع الدولة". أما "أبراهام بورج"، رئيس "الكنيست" الإسرائيلي الأسبق، فيقول في مقال له نشر على صفحات "يديعوت أحرونوت" (29 أغسطس 2003)، إن "نهاية المشروع الصهيوني على عتبات أبوابنا. وهناك فرصة حقيقية لأن يكون جيلنا آخر جيل صهيوني". أما "ليرون لندن" فيذكر في مقال نشرته "يديعوت أحرونوت" يوم 27/11/ 2003، وعنوانه "عقارب الساعة تقترب من الصفر لدولة إسرائيل"، أنه "علم في مؤتمر المناعة الاجتماعية الذي عقد هذا الأسبوع، أن عدداً كبيراً جداً من الإسرائيليين يشكون فيما إذا كانت الدولة ستبقى بعد 30 عاماً، وهذه المعطيات المقلقة تدل على أن عقارب الساعة تقترب من الساعة 12 (أي لحظة النهاية). وهذا هو السبب في كثرة الخطط السياسية التي تولد خارج الرحم العاقر للسلطة".
إن المتابع لما تمر به الحياة السياسية في "إسرائيل"، وخصوصاً منذ عقدين، يلاحظ تصاعد نفوذ المتدينين المتعصبين دينياً وقومياً وازدياد تأثيرهم على الحياة، الأمر الذي مكنهم من فرض وجودهم في الشارع وفي "الكنيست"، مما جعلهم قادرين على إملاء تشريعات وتسهيلات خاصة بهم، تساهم في زيادة وزنهم أكثر فأكثر. وإسرائيل التي أريد لها أن تكون "دولة علمانية"، يلعب الدين فيها دوراً لم تستطع لا "حركة العمل" التي أقيمت دولة إسرائيل على يدها (وآخر تعبيراتها السياسية "حزب العمل")، ولا "الليكود"، ولا حتى حزب "كاديما" الجديد الذي انشق به أرييل شارون عن "الليكود"... تجاهله.
وأصبح من الواضح أن كل حكومة جديدة باتت تركض وراء نواب الأحزاب الدينية، حتى غدا الوضع ينبئ بأن إسرائيل تتجه نحو دولة يمينية يتحول فيها النظام العلماني إلى نظام سياسي ديني يحكمه الحاخامات وعموم رجال الدين، الأمر الذي سيحدث تغييرات مهمة في بنية الدولة وشكلها ومنظومة علاقتها على كافة الأصعدة. وخير مثال على ذلك، سعي ونجاح رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي إيهود أولمرت إلى ضم حزب "إسرائيل بيتنا" الأكثر يمينية بين الأحزاب السياسية، إلى ائتلافه مع حزب "العمل".
كذلك، لا يخفي الكتاب الإسرائيليون تخوفهم من تعاظم قوة ونفوذ الحضور الديني اليهودي ودوره في هجرة الكثير من العلمانيين، وهذا ما أثبتته مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين (2003) حيث أجرت ما أسمته "مفاوضات سرية" من أجل إقامة مستعمرة علمانية خارج إسرائيل. وحين سئلت الدكتورة "ميخال أورين"، المحاضرة في جامعة حيفا، عن سبب ذلك قالت: "لقد سئمنا من كل ما يحدث في الشارع: العنف، الجهل، وكذلك من سيطرة شاس التي أدت إلى إثارة مشاعرنا. لقد ذهبت أفكار وتصورات الهجرات الأولى التي أقامت الدولة في مهب الريح. لم يعد بوسعنا البكاء ولقد فقدنا الأغلبية.
لذلك، ليس لنا خيار سوى أن نترك لهم (البلاد)، والسعي لتحقيق الحلم، أي إقامة إسرائيل الجديدة، في مكان آخر". وبالفعل، ارتفع عدد المهاجرين الروس الذين غادروا "إسرائيل" عائدين إلى روسيا في السنوات الأربع الماضية بنسبة 600%. وفي هذا النطاق، أفادت صحيفة "يديعوت أحرونوت" مؤخراً بأن 50 ألف إسرائيلي يعيشون الآن في الاتحاد الروسي. ومن جهة أخرى، أشار مكتب الإحصاء المركزي في روسيا إلى أن 28500 إسرائيلي من أصول روسية عادوا لبلدهم الأصلي منذ بداية العقد الماضي، فيما تشير تقديرات السفارة الإسرائيلية بموسكو إلى أن آلافاً أخرى من الإسرائيليين يعيشون في روسيا بموجب تأشيرات دخول عادية ولم يتقدموا بطلبات هجرة، ولذلك فإن معطيات مكتب الإحصاء الروسي لم تشملهم. وإزاء هذا الحال، ما هو دور النظامين الرسميين، العربي والإسلامي، في تعجيل مثل تلك "النهاية"؟ أم أن ذينك النظامين قد وصلا -قبل إسرائيل- إلى "النهاية" الخاصة بكل منهما؟!
*نقلا عن جريدة "الاتحاد" الإماراتية
تعليق