في رحاب آيـة
{وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
فاطر: 11
مع أن التراب عنصر لا حياة فيه، والنطفة عنصر فيه الحياة فقد حدثت المعجزة الأولى التي هي معجزة هذه الحياة التي لا يعلم أحد كيف جاءت، ولا كيف تلبست بالعنصر الأول. هذا والنقلة من غير الحي إلى الحي نقلة بعيدة بعيدة، أكبر وأضخم من كل أبعاد الزمان والمكان. والنقلة بعد ذلك من النطفة التي تمثل مرحلة الخلية الواحدة إلى الخلقة الكاملة السوية للجنين، حين يتميز الذكر من الأنثى، وتتحقق الصورة التي يشير إليها القرآن في هذه الآية: {ثم جعلكم أزواجاً} هذه النقلة من النطفة إلى هذين النوعين المتميزين نقلة بعيدة كذلك. {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه}. إن النص يتجاوز إناث الإنسان إلى إناث الحيوان والطير والأسماك والزواحف والحشرات. وسواها مما نعلمه ومما لا نعلمه وكلها تحمل وتضع حتى ما يبيض منها، فالبيضة حمل من نوع خاص. وعلم الله شامل لكل حمل ولكل وضع في هذا الكون المترامي الأطراف!!! وتصوير علم الله المطلق على هذا النحو العجيب ليس من طبيعة الذهن البشري أن يتجه إليه لا في التصور ولا في التعبير. فهو بذاته دليل على أن الله هو منزل هذا القرآن. وهذه إحدى السمات الدالة على مصدره الإلهي المتفرد. {وما يعمر من معمر ولا ينقص عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير} فإن الخيال إذا مضى يتدبر ويتتبع جميع الأحياء في هذا الكون، ثم يتصور أن كل فرد من أفراد هذا الحشد الذي لا يمكن حصره، ولا يعلم إلا خالقه عدده_ يعمر فيطول عمره، أو ينقص من عمره فيقصر وفق قدر مقدور، ووفق علم متعلق بهذا الفرد، متابع له، عمر أم لم يعمر..كل ذلك {في كتاب} من علم الله الشامل الدقيق، وأن ذلك لا يكلف جهداً ولا عسراً: {إن ذلك على الله يسير}.
حـديث اليــوم
[عن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل]
رواه البخاري.
معنى هذا الحديث الحض على قلة المخالطة وقلة الاقتناء، والزهد في الدنيا، قال أبو الحسن: بيان ذلك أن الغريب قليل الانبساط إلى الناس، مستوحش منهم، إذ لا يكاد يمر بمن يعرفه ويأنس به، ويستكثر من مخالطته، فهو ذليل خائف، وكذلك عابر السبيل لا ينفذ في سفره إلا بقوته عليه، وخفته من الأثقال غير متشبث بما يمنعه من قطع سفره، ليس معه إلا زاد وراحلة يبلغانه إلى بغيته من قصده، وهذا يدل على إيثار الزهد في الدنيا ليأخذ البلغة منها والكفاف، كما لا يحتاج المسافر إلى أكثر مما يبلغه إلى غاية سفره، كذلك لا يحتاج المؤمن في الدنيا إلى أكثر مما يبلغه، وفي هذا الحديث ما يدل على أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حض على التشبه بالغريب، لأن الغريب إذا دخل بلدة لم ينافس أهلها في مجالسهم، ولا يجزع أن يراه أحد على خلاف عادته في الملبوس، ولا يكون متدابراً معهم، وكذلك عابر السبيل لا يتخذ داراً ولا يلج في الخصومات مع الناس يشاحنهم، ناظراً إلى أن لبثه معهم أيام يسيرة، فكل أحوال الغريب وعابر السبيل مستحبة أن تكون للمؤمن في الدنيا، لأن الدنيا ليست وطنا له، لأنها تحبسه عن داره، وهي الحائلة بينه وبين قراره، وأما قول ابن عمر: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، فهو حض منه على أن المؤمن يستعد أبداً للموت، والموت يُستعد له بالعمل الصالح، وحض على تقصير الأمل: أي لا تنتظر بأعمال الليل الصباح، بل بادر بالعمل، وكذلك إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وتؤخر أعمال الصباح إلى الليل، قوله [وخذ من صحتك لمرضك] حض على اغتنام صحته، فيجتهد فيها خوفاً من حلول مرض يمنعه من العمل، وكذلك قوله [ومن حياتك لموتك] تنبيه على اغتنام أيام حياته، لأن من مات انقطع عمله وفات أمله وعظمت حسرته على تفريطه وندمه، وليعلم أنه سيأتي عليه زمان طويل وهو تحت التراب لا يستطيع عملاً، ولا يمكنه أن يذكر الله عز وجل، فيبادر في زمن سلامته، فما أجمع هذا الحديث لمعاني الخير وأشرفه، وقال بعضهم: قد ذم الله تعالى الأمل وطوله وقال: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون} وقال علي (رضي الله عنه): ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب , وغداً حساب ولا عمل، وقال أنس (رضي الله عنه): خط النبي (صلى الله عليه وسلم) خطوطاً فقال: [هذا الإنسان، وهذا الأمل، وهذا الأجل، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب] وهو أجله المحيط به، وهذا تنبيه على تقصير الأمل واستقصار الأجل خوف بغتته، ومن غيب عنه أجله فهو جدير بتوقعه وانتظاره خشية هجومه عليه في حال غرة وغفلة، فليرض المؤمن نفسه على استعمال ما نبه عليه ويجاهد أمله وهواه، فإن الإنسان مجبول على الأمل، [قال عبدالله بن عمر (رضي الله عنهما): رآني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنا أطين حائطاً لي أنا وأمي فقال: ما هذا يا عبد الله؟ فقلت: يا رسول الله قد وهى فنحن نصلحه فقال: الأمر أسرع من ذلك] نسأل الله العظيم أن يلطف بنا، وأن يزهدنا في الدنيا، وأن يجعل رغبتنا فيما لديه وراحتنا يوم القيامة، إنه جواد كريم غفور رحيم.
من روائع الشعر
عليكَ بتَقوى اللّه في كل أمرِه **** تجد غبها يوم الحسابِ المطَّـولِ
ألا إِن تقوى اللّه خيرُ مغبـةٍ **** وأفضـلُ زادِ الظاعـنِ المتحمـلِ
ولا خيرَ في طولَ الحياةِ وعيشِها **** إِذا أنتَ منها بالتقى لم ترحلِ
الشاعر: أبو محمد الواسطي
حكمة اليوم
-?قال لقمان لابنه: يا بني اعلم أن المقام في الدنيا قليل، والركون إليها غرور، والغبطة فيها حلم فكن سمحا سهلا قريبا أمينا، وكلمة جامعة: اتق الله في جميع أحوالك، ولا تعصه في شيء من أمورك.
من قصص الصالحين
علامات فارقة
سئل أبو بكر الشبلي: ما علامات العارف؟ قال: صدره مشروح، وقلبه مجروح، وجسمه مطروح. قيل: من العالم؟ قال: من عرف الله، وعمل بما علمه الله، وأعرض عما نهاه الله. قيل: فمن الصوفي؟ قال: من صفا قلبه، ورمى الدنيا، وجفا الهوى، واتبع المصطفى. قيل: فما التصوف؟ قال: التآلف والإعراض عن التكلف، وأحسن منه تصفية القلوب لعلام الغيوب. وأحسن منه، التعظيم لأمر الله، والشفقة على عباد الله. وأحسن منه، من صفا من الكدر، وخلص من العكر. وامتلأ من الفكر، وتساوى عنده الذهب والحجر.
ابتسامة اليوم
بئس المصلح
وقع بين الأعمش وامرأته وحشة فسأل بعض أصحابه أَن يُصلح بينهما فقال الرجل لامراة الأعمش: هذا سيدُنا وشيخُنا أَبو محمد فلا يزهدنَّكِ فيه عَمشُ عَينَيه وحُموشة ساقَيه وضعف ركبتَيه وقَزَل رجليه وجعل يصف فقال الأعمش: قم عنا قّبحك الله فقد ذكرت لها من عيوبي ما لم تكن تعرفه.
دعاء اليوم
اللَّهُمَّ إني أسألُكَ مِنْ خَيْرٍ ما سألَكَ منْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صلى اللّه عليه وسلم، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما اسْتَعاذَكَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صلى اللّه عليه وسلم، وأنْتَ المُسْتَعانُ وَعَلَيْكَ البَلاغُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ.
المصدر : رسالة من أخ كريم
تعليق