(16)
بدأ الطبيب الشاب عبده حياته الوظيفية عام 1905 ..
طبيباً لبعض السجون بمديرية الجيزة ..
فتهيأ له بذلك البعد عن المجتمعات من جهة ..
وقربه من القاهرة من جهة أخرى ..
كان يقضي ساعات العمل في مكتبة من مكتبات السجن ..
وكانت له دار ملحقة بالمبنى ذاته ..
وحول هذه الدار حديقة صغيرة ..
وعاش حياته بين السجناء متعايشاً معهم ..
لكنه كان في وحشة شديدة في دخيلة نفسه ..
وأشار إلى زميله صدقي أنه يريد أن يستقر في دار وأسرة ..
فإن رزقه الله بزوجة صالحة ..
فإن حديقة السجن ستكون في تقديره جنة نعيم ..
وقد ذكر لصاحبه مواصفات معينة يريدها في زوجته ..
أخلف صاحباه شروطه ظناً منهم أن موضوع الزواج سيستمر ..
عند اختيارهم لزوجة له ليست على ما اشترط ..
فلما رآها نفر منها جداً ..
وكان قد أعلن حفل الزواج بعد أيام قليلة ..
هذا الحدث أحدث ردة فعل شديدة جداً على أهل خطيبته ..
وبدأوا ينشرون إشاعات كثيرة جداً حوله انتقاماً منه ..
وأشاعت أسرة الخطيبة أنها قد اكتشفت أن عبده كافر متلاعب ..
وأن له زوجة وأولاد من دينه الأصلي ..
وقد اكتشفوا ذلك وغيره مما لا يجب التكلم عنه، وهم لذلك رفضوه وطردوه ..
تناقلت الأسر فيما بينهم هذه القصص والشائعات ..
وكل من يسمعها كان ينقلها بعد أن يضيف عليها كل جديد وغريب ..
وأنه كان أول من رأى وعاين وتأكد واكتشف بذكائه على غير ذلك مما يظن الرواة أنه يزيد الرواية غرابة وحبكة ..
استفحلت الأقوال وحصل لصدقي وعبده إساءة شديدة في الحي والمنطقة ..
وتناهت الأخبار مشبوهة إلى شيوخ الحي وأفاضل سكانه ..
كان من هؤلاء الشيوخ البارزين والعلماء المعروفين ..
الشيخ عبد الحميد مصطفى ..
وكان قد درس العلم في الأزهر الشريف ..
حتى خيف على بصره من شدة طلب العلم ..
فتوقف عن الدراسة بأمر الأطباء واشتغل في المقاولات ..
فلقي في عمله توفيقاً ..
وقد اشتهر في حياته الخاصة بين أهل الحي بكرمه وكرامته وصدقه في معاملته وحسن عشرته للناس وصلاته ..
وطبعاً وصلته الأخبار المشوهة والشائعات السيئة ..
فاعتبرها عبثاً صغيراً من شباب غير مسؤول ..
وعدها استهانة من صدقي بكرامة أسرة محافظة ..
تعرضت بها سمعتهم للقيل والقال ..
وأنه لا بد أن يعاقب هذا المستهتر هو وصاحبه على ما اقترفاه في حق الفتاة وفي حق أسرتها،
باختصار شديد ..
دبر موعد للشيخ عبد الحميد حتى يحل هذه المشكلة وينقذ سمعة البنت وأسرتها ..
التي أساء إليها برفض الخطبة وإلغاء الزواج ..
وكان كلما حاول الشيخ مقابلتهما كانا يمعنان في الهرب منه ..
إلى أن أحكم الحصار وتمكن الشيخ من مقابلة صدقي ..
فلم يبق مفر من المقابلة والحساب ..
وأمسك الشيخ بيد الطبيب صدقي واقتاده إلى مكان معروف جلسا فيه لتصفية الحساب ..
وقال له:
كيف سمحت لنفسك ولزوجك أن تفعلا ما فعلتما؟
وأنت الآن طبيب مسؤول تؤتمن على خصائص الناس؟
بل إنك ربما عرفت بحكم تخصصك من أسرار الناس ما لا يعرفه غيرك؟
أية جناية هذه يا بني؟
وأي خطأ ارتكبته في حق أهلك وجيرانك من أجل صداقتك لهذا الكافر المارق؟
صبر الطبيب الناشيء صدقي لهذا ..
وكان يحترم الشيخ لسنه ومكانته وصداقته لأسرته ..
فقال له:
عفواً سيدي الشيخ فهلا سمعت القصة كما وقعت؟
فشهدت لي بالبراءة مما أثاروه حولي وحول زوجتي وصاحبي ..
وحسبي عقاباً لي في وساطتي ما وقع علي من ظلم في شائعاتهم..
قال الشيخ عبد الحميد: أجل أسمع منك ..
على ألا تقول غير الحق ولا تنطق بغير الصدق ..
وأنا أحذرك يا صدقي من محاولة خداعي فلست بالخب ولكن الخب لا يخدعني ..
قال : بل أصدقك القول يا عم وكل ما أرجوه منك أن توسع لي في صدرك حتى أتم حديثي ..
فنحن لم نجرب منك إلا العدل ..
تعليق