Unconfigured Ad Widget

تقليص

إعـــــــلان

تقليص

رثاء

‏خالص العزاء والمواساه في وفاة العضو القدير الأخ ياسر ياسين رحمه الله

https://www.maxforums.net/node/3676654
شاهد أكثر
شاهد أقل

رواية دموع على سفوح المجد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    الفصل الخامس عشر

    الربيع يزداد قرب الحبيب ربيعاً..والليل الساكن الجميل يزداد روعة وسحراً، والنسيم العليل المفعم بأريج الياسمين يتسلل إلى النفس فينعشها ويزيدها بهجة وسعادة، والسماء الصافية البديعة ترمق العاشقين بعيون تتلألأ بالنور، والهلال الفضي يتألق في القبة الزرقاء كثغر ضاحك يشع بابتسامة السماء، وكأنها تشارك الأحبة فرحة القرب وأنس اللقاء ...

    وضاقت الشرفة بعصام فلم تعد تسعه من فرط السعادة وفيض الحبور ، فالقلب اليوم هانئ مسرور، والنفس مترعة بأعذب الأحاسيس وأحلاها، والروح ترفرف حول الحبيب في فرح .. تناجي روحه اللطيف، وتبثه لوا عج الشوق والهيام، والعين ترنو إليه في حنان، فيبهرها هذا الجمال الباسم الماثل أمامها، فترسل نظراتها الوالهة المتولعة، لتتأمل القسمات الوسيمة، وتجوب الملامح الحسناء، وتسافر عبر القد الأهيف الممشوق، ثم تعود بعد طول تجوال لترتاح في عينيه الذابلتين، فيأسرها اللحظ الوداع في حياء، وتتيه في بحر من البراءة والصفاء...

    وتتأجج مشاعر عصام وتتوهج أحاسيسه وتتألق عواطفه فيسطع ألقها من نظراته الأسيرة، وينطلق بها لسانه فيهمس في وجد وهيام: سامية ..على عتبة قربك الحبيب أخلع كل همومي وأحزاني ليسربلني حبك الكبير، وفي واحة حنانك الوارف يحيط قلبي المكدود رحاله، فينفض عنه أتراحه وأشجانه ويروي أشواقه ولهفاته، فتخضوضرُ فيها الآمال، وتزهر الأماني، وتبسم الأحلام، ويحل في أعماقي المقفرة ربيع ساحر عامر بالأفراح.
    همست سامية في دلال: عصام...
    تابع عصام في توسل : دعيني أتكلم ..دعيني أبوح بكل ما في صدري ..لقد آن للعواطف الحبيسة أن تنبثق، وآن للقلوب الظامئة أن ترتوي، وآن للحب الصامت العفيف أن يصدح ويشدوا.. .. إنك الآن زوجتي وشريكة عمري ..أنت الإنسانة التي خلقت لي وخلقت لها.. أنت النصف الأخر الأجمل والأحلى من نفسي والذي يمدني دوماً بالآمال والثقة والتفاؤل، فدعي الأرواح في أفراحها سعيدة بهذا اللقاء بعد أن أضناها الشوق وأوجعها الحنين.

    هيجت كلمات عصام مشاعر سامية، وألهبت عواطفها، عصام.. قد لا أتقن مثلك حلو الكلام، لكني أبادلك كل المشاعر والأحاسيس التي تحملها نحوي، ولو أصغيت إلى حديث نفسي لسمعتها تتحدث بلسانك وتحس بعواطفك، وكأن خواطرها رجع الصدى لما يأتلق في نفسك من خواطر...وصمتت للحظة، ريثما استوعبت أمواج الانفعال التي فاضت بها نفسها، ثم تنهدت وهمست بنبرات مرتعشة ندتها دمعتان تألقتا في صفاء عينيها الفاتنتين :
    - عصام.. أنا أحبك يا عصام.. أحبك كما لم تحب فتاة من قبل ..أني أحسّ نحوك بميل جارف عميق.. ميل عارم عجيب.. ميل أكبر من ميل فتاة لشاب.. لكأن روحينا كانتا على موعد قد ضرب منذ الأزل...

    نفذت كلمات سامية إلى أعماق عصام بكل صدقها وحرارتها فطرب لسماعها، وخفق قلبه وهو يستقبل ذلك البريق العجيب الذي سطع من عينيها الساجيتين، وقال وهو يرنو إليها في حبّ ووله: لو تعلمين كم أنا سعيد بك اليوم .. أنت ملاك طاهر حطّ في دربي فآنس وحشته وبدد غربته.. أنت الماء الروحي لعطشى.. أنت البلسم الشافي لكل جروحي وأدوائي.. أنت الأمل الذي يشحذ همتي ويلهم خطواتي .
    ثم تناول يدها بين راحتيه وطبع قبلة طويلة سرت حرارتها في دماء سامية، فأطرقت في حياء وقد تضرجت وجنتاها وسكنت مقلتاها واسترخت الأهداب الطويلة المنسابة كالأشعة حول منبع النور، فنامت فوق العينين الوادعتين في حنان ولاح وجهها المورد الفاتن من تحت غرتها المتدلية الشقراء كمملكة من الجمال الباهر تلوح من خلال أفق حالم يتوهج بالإشراق، وهمست وهي تسحب يدها في رفق :
    - عصام ... قد يدخل أحدهم في أي لحظة !...
    قال عصام وهو يرمي بنظراته الحالمة إلى نجمة بعيدة: عمّا قريب سيكون لنا عش دافئ جميل ..تتفجر فيه ينابيع السعادة والهناء ، وتجري خلاله أنهار النعيم، وفي فردوسنا الصغير سيخرج إلى النور وليدنا المنشود الذي سيضفي عليه حياة رائعة جميلة، تبعثها الطفولة الوادعة البريئة.
    هتفت سامية في لهفة وفرح : أريد طفلاً.. طفلاً جميلاً تلوح في وجهه ملامحك الوسيمة وتنطق نظراته بذكائك المتقد وكلما ارتقى في سلم الزمان درجة، ظهرت في سلوكه طباع أبيه وأخلاقه، سأسميه عصام ((عصام الصغير)) فاسم ((عصام)) من أحب الأسماء إلى قلبي وأحلاها.
    هتف عصام وهو يرنو إليها بنظرة ودودة حالمة:- بل أريدها طفلة.. طفلة وديعة جميلة.. طفلة هادئة رزينة، فيها من روحك اللطيفة قبس يشرق به شكلها وطبعها وسلوكها، فألمحك من خلالها في طفولتك وصباك وأراك في نضحك وشبابك، وسوف أستمد اسمها من صفاتك العظيمة.. سأسميها ((صفاء)).. بل ((براءة)).. فأنت البراءة مجسدة في فتاة.
    - حسناً.. سأنجب لك طفلاً وطفلة...
    - بل أطفال.. سنربيهم أحسن تربية، ونعدّهم أروع إعداد، وسوف تنمو براعمنا الجميلة وتتفتح، فتزداد حياتنا نضارة وسعادة، ويزداد حبنا توطداً وثباتاً، وتتألق في أعماقنا أزهار المحبة والوئام..
    - تبدو مغرماً جداً بالأطفال!..
    - في أعماقي أبوة جائعة عطشى تهفو للري والإشباع.
    - ترى أيهما أقوى؟.. عاطفة الأبوة أم عاطفة الأمومة؟
    - اسألي نفسك؟
    - يتملكني شعور طاغ بأنه لا يوجد في الكون كله فتاة تحب الأطفال مثلي.
    - لعلنا جميعاً يراودنا نفس الشعور.
    ثم قالت سامية وهي تسرح بخيالها في وجدانها الخصيب: عندما أرى طفلاً يبتسم أرى الوجود من حولي باسماً سعيداً وأحس به مفعما بالبهجة والفرح وتلح عليّ رغبة جارفة لأن أضم ذلك الطفل إلى صدري، وأودعه في قلبي إلى الأبد..
    قال عصام وهو يشملها بنظراته المتولعة: عندما أنظر إلى وجهك الجميل أراه بريئاً صافياً، وعندما تتحدثين أجد الداخل أصفى وأحلى.. إن نفسي الآن تنعم بالسعادة والارتياح، فبالأمس اطمأنت بمبادئ الإسلام الأصيلة الصافية واليوم تسكن إلى الإنسانة الحبيبة التي شُغفت بها.. ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا!..
    قالت سامية في حماس: نسيت أن أخبرك.. لقد بدأت أصلي.
    - هذا خبر رائع.. كنت على يقين من أن إيمانك الكبير ومعدنك الطيب سيقودك إلى الصلاة.
    - عندما أديت صلاة الصبح اليوم، انتابني شعور عذب مريح، وشعرت بنفسي وقد اطمأنت وسمت. وألقي في روعي أني إنسانة جديدة، قد طهرتها الصلاة من كل أدران الدنيا وهمومها ومشاكلها .
    صمت عصام ملياً ثم سألها ( بعد تفكر) وهو يرمقها بإعجاب: لو كان بحوزتك جوهرة نادرة.. جوهرة ثمينة عزيزة على نفسك، فماذا تفعلين بها؟
    - أحفظها وأصونها من العيون والأيدي وأتعهدها بالحماية والرعاية والحرص والاهتمام.
    - وأنت يا سامية جوهرتي الغالية، ودرتي النفيسة التي أحبها وأغار عليها.. لكم أتمنى أن أصونك في قلبي فأحميك من كل عين جائعة وكل نظرة مريضة.. عندما كنت ألمح شاباً في الجامعة أو في الشارع ينظر إليك أو يتأملك، كان يغلي في صدري مرجل من الغيظ، وتنطلق في دمائي أمواج عاتية من الغضب، وتلهب أعصابي شحنات ثائرة مجنونة.. إني أخاف عليك من النسمة إذا هبت، فكيف أصبر على عين جائعة تلتهمك بنظراتها الخائنة الخبيثة.
    هزت مشاعر الغيرة التي أبداها عصام نفس سامية، فطربت لها، وشعرت بحرارة الحب الذي يكنه نحوها وهي تمس قلبها وتسري في دمها، فسألته تستزيد من عواطفه الثرة الغنية:
    - هل أفهم أن الحب عندك يعني التملك؟
    ابتسم عصام وأجاب: الميل المتبادل إلى التملك بين الزوجين من مقتضيات الحب الصادق العميق.. ينبغي أن يشعر كل منا بأنه ملك للآخر، بل جزء من الآخر.. إنَّه نتيجة منطقية لاتصال المشاعر ووحدتها وانصهارها في شعور واحد، فكما أغار عليك وأحب أن تكوني لي وحدي، أنت أيضا تغارين علي وتحبين أن أكون لك وحدك، أم أنك لا تغارين علي؟...
    ضحكت وتساءلت في عتاب: أنا؟.. إنِّي لأتمنى لو أكبلك بقيود من حديد، فلا تخرج من مملكتي إلى الأبد.
    - حبك الطاهر الذي يكبلني أقوى من كل قيود الدنيا وأغلالها.
    - يقولون بأن التملك في الحب أنانية!.
    - هذا إذا كان التملك شيئا مفروضاً من طرف واحد.. إنه منتهى الأنانية، فترين الرجل مثلاً يغار على زوجته أشد الغيرة، ويحاصرها بأوامره ونواهيه، ويفرض عليها قيوداً مبالغاً فيها في اللباس والحركة، ويعتقل البسمة إذا رفًّت على شفتيها، ثم يبيح لنفسه كل ما يحرمه عليها، وينجرف وراء شهواته وملذاته وغرائزه دون احترام لمشاعر زوجته المسكينة وحقها في أن يكون لها وحدها. هذا النوع من الرجال ينظر إلى المرأة على أنها مجرد متاع شخصي دون اعتبار لشخصيتها وحقوقها وعواطفها وفي هذا احتقار لها وإيذاء.
    سألت سامية في حيرة: وكيف لي أن أملك نظرات العابثين والفضوليين، لقد اعتدت هذا الإزعاج المتكرر كل يوم.
    - لا تقولي اعتدت.. أرجوك.
    - لا أقصد بالاعتياد أني مرتاحة لهذا، فالفتاة التي يسرها أن تلتهمها العيون الجائعة الخبيثة فتاة في سلوكها مرض.. ما أقصده هو أني لا أملك حيال نظرات هؤلاء شيئاً.
    - بل تملكين.
    - كيف ؟
    - بأن تغلقي نوافذ الفتنة والإغراء.
    - لعلك تقصد...
    - الحجاب.. هذا ما أردته فعلاً.. حجاب الرأس والجسد فلا يبدو منك إلا الوجه والكفّان.
    - قالت وهي تتفكر: فكرت بارتدائه كثيراً، لكن التردد كان يوهن عزمي، ويثنيني.
    - ولماذا التردد؟.. إنه أمر من الله يجب تنفيذه، والله يا عزيزتي هو الأعلم بتركيبنا الجسدي والفكري والنفسي وهو الخبير بطبائعنا وغرائزنا وميولنا، لذا فإن منهجه هو الأولى بالإتباع.
    - إني أدرك هذا، لكني - في الحقيقة – لم أتعود عليه، ثم إن زميلاتي سوف يحرجنني بكلماتهن اللاذعة، ويحاصرنني بسخرياتهن السخيفة، ويكبلنني بنظراتهن المتطفلة.
    - قال عصام معترضاً: لست أنت بالتي تقول هذا!.. يجب أن تكون شخصيتك أقوى من ذلك.. ينبغي أن نتحرر من ضغط المجتمع الفاسد.. أن نتصرف بوحي من مبادئنا وقناعاتنا.. أن نكون فاعلين في المجتمع لا منفعلين به.
    - كلامك حق، لكن ما يزيدني تردداً وجود بعض الفتيات اللواتي يسئن للحجاب.. يرتدين الحجاب ويسلكن سلوكاً شنيعاً لا ينسجم مع ما يرمز إليه هذا اللباس من طهر وتعفف!
    - لا أنكر وجود هؤلاء، لكن هذا ليس مبرراً لأن ننفر من الحجاب ونتخلى عنه، أليس هناك أطباء يحملون الطب دون أن يتقنوه؟
    - بلى..
    - لكن ذلك لم يدفع أحداً لأن يتخلَّى عن دراسة الطب وممارسته، واستطاع الأطباء الناجحون أن يحطموا بإخلاصهم وإتقانهم ومهاراتهم أولئك الذين ليس لهم من الطب إلا اللقب الأجوف.
    - هذا صحيح.
    - إذن لماذا لا تكون الفتيات اللواتي ينسجم حجابهن مع سلوكهن هن الأوضح والأبرز في المجتمع، حتى يسطّرن بأخلاقهن الرائدة ومعاملتهن النظيفة الناصعة مثلاً رائعاً للفتاة المسلمة الأصيلة.
    قالت سامية وهي مشدودة إلى الحوار: لماذا أمرنا الله بالحجاب؟.. ما الحكمة من تشريعه؟
    - لأنه يريد أن يحاصر عوامل الفتنة في المجتمعات، فالنظرة المقصودة للمرأة، ورؤية مواطن الفتنة والإغراء فيها، والاختلاط الفوضوي بها يثير غرائز الرجال، ويفقدهم على أعصابهم، ويدفعهم للتهافت على اللذات والرغبات، فتطغى مشاعر الجنس عندهم على آلاف المشاعر المهمة للحياة، مما يدفعهم لتجاوز حدود الأخلاق والآداب، فينحدر المجتمع نحو الفساد، وتصاب الأمة بالضعف والانهيار. وهذا ما يعاني منه مجتمعنا فعلاً.
    - لقد رفض الإسلام أن ينظر الرجل إلى المرأة كجسد فحسب، لأن في ذلك غضاّ من مكانتها الرفيعة السامية وإهانة لكرامتها الإنسانية، فالمرأة نصف المجتمع، وشقه المكمل للرجل، وبها تناط مهمات إنسانية نبيلة يعجز الرجل عن أدائها، ولا تقوم الحياة بدونها.. لقد أراد الإسلام أن يثير منظر المرأة أثناء حركتها في المجتمع المشاعر الطاهرة النظيفة المفعمة بالاحترام والتقدير.. المشاعر النبيلة التي تليق بمكانتها العظيمة في الحياة، أمّا المشاعر الجنسية والجسدية فقد دعا الإسلام إلى إطلاقها ضمن إطار الحياة الزوجية حيث يتحول التبرج والإغراء إلى واجب مقدس تبذله المرأة لزوجها ويتحول الإرضاء الجنسي إلى واجب مقدس يبذله الرجل لزوجته، وعندما يقوم الزوجان بواجبهما في حبّ واحترام وإيثار يتحقق لهما السكن النفسي والاستقرار الروحي، وتمضي سفينة الأسرة في أمان دون أن تعصف بها رياح الرغبة أو الخلاف..
    قالت سامية وهي تتفكر: كلامك هذا يذكرني بـ ((منى((..
    - -منى؟.. ما شأنها؟
    - لقد عادت تتقرب مني من جديد، وقد لمَّحت لي أمس بأني كنت على حقّ حينما حذرتها من صفوان، وعندما حاولت أن أعرف منها سبب هذه الصحوة المتأخرة دمعت عيناها وقالت لي بأنه سيأتي يوم تحدثني فيه بكل ما حدث.
    قال عصام في شرود: يبدو أنَّ أحداثاً خطيرة قد وقعت!! أخشى أن...

    ودخلت أم عصام الشرفة لتقدم الفواكه لابنها وخطيبته، وما إن رأتهما حتى خفق قلبها لهذا المنظر الرائع، والتمعت الفرحة في عينيها.. فها هو ابنها الغالي يسكن إلى زوجته الجميلة الفاتنة، وها هو الأمل الرائع العذب يتحقق، وشعرت بالسعادة العارمة تكتسح أغوارها وتطهرها من كل رواسب الماضي وذكرياته الأليمة، وأحست بسحب الحزن القاتمة السوداء وهي تنقشع رويداً...رويداً من نفسها الملبدة بالكآبة لتسطع من خلالها شمس التفاؤل والسرور فتذيب فتذيب بأشعهتا الدافئة صقيع الأيام الباردة التي شغلت سنوات شبابها المهدور، وتفجرت في أعماقها ينابيع الأحلام السعيدة،فرات نفسها في لوحة الخيال جدّة طيبة يحف بها أحفادها الأحبة الذين يملؤون لها حياتها بهجة وأنساً ومتعة،فذاك يشدّها من يدها لتقوده الى مكان الحلوى،وتلك تهرع إليها فتعطيها المشط لتسرح لها شعرها الأشقر الطويل، وذلك يدس يده في جيبها باحثاً عن القروش، وهذه تبكي في دلال وترمقها في توسل فتدعوها بنظراتها البريئة وأنينها المفتعل لأن تحملها وتعطيها حظها من الرعاية والعطف والاهتمام أسوة بأخوتها، وقد أوهمها تفكيرها الطفولي الغض بأن أخوتها الكبار قد استولوا على جدتها الحبيبة، واستحوذوا عليها، وهي المدللة الأثيرة لديها، فنشبت الغيرة في قلبها الصغير. وغلبتها ابتسامة فرحة مشرقة أضاءت ملامحها، فتهللت بالبشر وفاضت بالحبور وقالت وهي تبش في وجه كنتها العزيزة:
    - -الله يكتب لكما السعادة العمر كله.. تفضلي يا ابنتي..
    - لقد أتعبت نفسك يا أمّاه.. كان ينبغي أن أقوم بهذا بنفسي.
    - تعبك راحة يا حبيبتي.. تفضلي.. لقد انتخبت لك هذه الفواكه بنفسي فلا تتركي منها شيئاً.
    - سلمت يداك.. ستكون ألذ فواكه آكلها لأنها من اختيارك أنت..
    هتف عصام في دعابة:يا عيني.. أراكما قد نسيتماني.. لقد بدأت أغار.
    ضحكت الأم وكنتها، بينما قال عصام في توسل: اجلسي معنا يا أماه.

    قالت وهي ترميه بنظرة ذات معنى:اعذروني يا ابني، لا يصح أن أترك حماتك وحدها. ثم مضت ونفسها مترعة بالمشاعر اللذيذة، وقالت سامية: لكم أنا محظوظة، زوج حبيب وحماة رؤوم.
    قال يمازحها: هذا كلام تقولينه الآن، فقط.
    - الآن وغداً، وسوف ترى..
    - لا تقنعيني يا عزيزتي.. لن تنقضي الأيام الأولى للزواج حتى تنضمي إلى حلبة الصراع الأبدي بين الكنة والحماة!.
    - ومن قال لك أنه صراع أبدي معلوماتك خاطئة يا أستاذ .
    - (( دكتور)). إذا سمحتِ
    - الخلافات بين الكنة والحماة يا ((دكتور)).. لا تحدث إلا بين النفوس الأنانية المتسرعة الضيقة المهيأة للخلاف والشجار والخصام، أما حماتي فهي شيء آخر!.
    - أريد أن أعرف سر هذه المحبة التي بينكما.
    - الحب شعور روحي طليق لا يخضع لتفسيرات العقل وقوانينه.
    - لعلك تحبينها من أجلي!.
    - قد أجاملها من أجلك، أما المحبة فهي شيء صادق يولد في الأعماق، إما أن يكون أو لا يكون وأنا أحبها يا عصام لأني أحبها.. أمك امرأة عظيمة حقاً.. لقد بدأت أدرك مصدر شمائلك الرفيعة.
    ابتسم وقال بنبرات حالمة رقيقة: المرأة كائن عظيم ينطوي على أسرار روحية عجيبة..كائن لطيف يملك كنوزاً من الحب والرحمة والحنان يفتقر إليها تلك المحاولات المستمرة لإثبات أنًّ المرأة تستطيع أن تكون مهندسة أو عاملة أو محامية أو.. من قال أنها لا تستطيع؟... إن المرأة لديها القدرة والاستطاعة لأن تحل مكان الرجل في الكثير من أعماله، بل وأن تتفوق عليه فيها، لكن جوهر القضية ليس هنا.. الأسرة الناجحة السعيدة يا عزيزتي تقوم على التخصص وتقاسم الأعباء.. ثمة حقيقة أخرى.. إن المراة تستطيع أن تحل مكان الرجل من المستحيل أن يحل مكان المرأة..
    قالت سامية في دعابة: أنت تعترف إذن بتفوق الجنس اللطيف على الجنس الخشن!.
    ابتسم عصام وقال: القضية ليست تنافساً وصراعاً.. إن العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تكامل .. فما ينقص الرجل تكمله المرأة وما ينقص المرأة يكمله الرجل وباجتماعهما تتشكل الوحدة الإنسانية المستقرة الفاعلة في الحياة.. المرأة والرجل في الإسلام متساويان من حيث الإنسانية متكاملان من حيث الخصائص والوظائف.. من الإجحاف والغباء أن نضع المرأة مكان الرجل والرجل مكان المرأة.
    - ما خصائص المرأة برأيك؟...
    - المرأة روح شفاف رقيق مزودة بجهاز عاطفي فريد، هيأه الله ليقوم بأخطر مهمة في الوجود.
    - تريد التربية طبعاً.
    - أجل.. فتربية الطفل وإعداده لرحلة الحياة من أهم وأخطر المهمات التي تواجه الإنسان على هذه الأرض.. لأنها عملية إنضاج لأجيال، يتم بواسطتها غرس الصفات النفسية الفكرية والروحية التي تبلور شخصية الفرد وتؤهله ليحتل موقعه الفاعل في المجتمع والأم هي القادرة على القيام بهذه المهمة بما أوتيت من عطف وحنان وصبر على مشاكل الطفل وتفهم لها، مما يجعل الطفل أكثر تقبلاً واستجابة لعملية التربية.. طبعاً أنا لا ألغي دور الأب في التربية، لكن الدور الحاسم يبقى للأم بلا جدال.
    وافقته سامية بإيماءة وقالت وهي تقدم له قطعة من تفاحتها: إنني أعزو الكثير من أمراضنا ومشاكلنا الاجتماعية لفشل التربية في البيت.. هذه ملاحظة واضحة جداً في حياتنا..
    - فعلاً قد يخطئ الرجل فلا يتعدى خطؤه إتلاف آلة أو خسارة صفقة، أما إذا أخلت المرأة بوظيفتها فإنها بذالك تحطم جيلاً وتدمر أمة. أن أكبر مأساة تعيشها البشرية اليوم هي غياب المرأة عن مسرح التربية، وتخليها عن وضيفتها الحساسة للخادمة أو دور الحضانة ووسائل الإعلام، مما أدى إلى فساد الأجيال الجديدة واضطراب شخصيتها، لأنها لم تتلق القدر الكافي من العطف والرعاية والاهتمام، ولم تتناول الجرعات الكافية من الحنان الذي لا بد منه لكل شخصية سوية، وقد بدأ المصلحون والمفكرون في الشرق والغرب يدركون خطورة هذه الظاهرة الاجتماعية المدمرة وأخذوا يهيبون بالمرأة أن تعود إلى عشّها لتمارس وظيفتها الإنسانية الطبيعية.
    - ليت المرأة في مجتمعنا تدرك هذا..
    - إن المرأة في مجتمعنا ما زالت مبهورة بتجربة المرأة الغربية وعليها أن تتحرر من البريق الخادع قبل أن نجني الحصاد المرّ الذي جنته حضارة الغرب...
    قالت سامية: لكن الرجل في مجتمعنا ينظر إلى المرأة على أنها مخلوق قاصر أقل منه قيمة وشأناً. مما يضطرها لإثبات شخصيتها وكفاءتها من خلال منافسته والقيام بأعماله ووجباته!...
    أجابها عصام: أنا لا أنكر أن الرجل يرتكب الكثير من الممارسات الخاطئة بحق المرأة، لكنّ ذلك لا يبرِّر لها أن تعالج الخطأ بالخطأ، فتدفعها رد الفعل على تصرفات الرجل لأن تتخلى عن وظيفتها وتخرج إلى الشارع والمعمل لتثبت له أنها قادرة على احتلال موقعه بجدارة.. على المرأة أن تكون أكثر ثقة بنفسها وأشدّ اعتزازاً بدورها في الوجود، فإذا كان الرجل يوفر متطلبات الأسرة ويحمي كيانها ويرسم لها مسيرتها، فأن المرأة تحمي روح الأسرة وجوهرها وتهندس عناصرها الإنسانية الصالحة المهيأة لحمل رسالة الحياة كما تنبغي الحياة.
    - على هذا فعمل المرأة خارج البيت مرفوض؟
    - الإسلام لم يرفض عمل المرأة يا عزيزتي، لكنه رفض أن تمارس المرأة أي نشاط مهني أو اجتماعي أو علمي أو ثقافي إذا كان سيتم على حساب تربية أبنائها التربية السليمة الكافية، فإذا ما قامت بواجبها نحو أطفالها كاملاً واطمأنت على سلامة أوضاعهم واستقرارها فلها أن تقوم بأي نشاط تهواه ما دام نشاط مفيداً بانياً شريفاً يراعي القيم الصحيحة ويحترمها.
    سألته في شرود: هل هناك زيّ محدد يجب على الفتاة أن تتقيد به في حجابها.
    - الحجاب ليس زيّاً من الأزياء أو نمط من أنماط اللباس، بل هو مبدأ وقناعة. اختاري في لباسك اللون الذي تريدينه أو الزيّ الذي ترتاحين إليه على أن يكون منافياً للحشمة أو مظهراًً للفتنة.. الحجاب الأكمل والأفضل هو الذي يجمع بين الحشمة والأناقة والجمال.
    - وهل تتوقع أن أبدو في حجابي أجمل من الآن؟
    - ستكونين أجمل بلا شك ، لأن جمال جوهرك سيسطع ويتألق من خلال سلوكك الجديد. بيد أني أريدك أن تتحجبي لله وحده، لا من أجل الجمال...
    - سامحك الله، إنما أمزح.. إني مقتنعة بكل ما قلت، وقد فكرت فيه كثيراً قبل الآن، لكني لم أجد من يشجعني على ذلك.
    صمت عصام ملياً ثم قال وهو يمسك بيدها في ود: سامية أنا لن أكرهك على شيء... أريدك أن تتخذي قراراتك بنفسك عن رضا وقناعة، لكن مالا أرضاه لزوجتي وحبيبتي هو أن تضطر لمخالفة قناعتها ومبادئها من أجل الناس فالحق أحق أن يتبع.
    قالت وهي تشد على يده في حنان: عصام ...كلماتك دائماً تملؤني ثقة وارتياحاً، وقد اتخذت قراري منذ الآن ولن أتراجع عنه مهما كان تقبل المجتمع له، ولن يريحني أن أرضي الناس وأغضب الله، ولن أسمح لنفسي أن أتركك تتلوى تحت سياط الغيرة ولهيبها. إذا لم أرع مشاعرك وأحاسيسك فلن أكون جديرة بحبك.. إني أعاهدك أن ألتزم بالحجاب، وستكون أول من يراه..

    أثلج قرار سامية صدر عصام فرنا إليها في حب وإكبار وهو غارق في طمأنينة غامرة وأحس بروحة تحلق فرحة سعيدة في سماء من الود والتفاهم والانسجام، وبدت له سامية فيها ملاك طاهر جميل يحمله على أجنحة الأمل إلى دنيا الأحلام.
    سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم
    -----------
    أعمالي في التصوير
    Longines

    Teppo & Tappo
    -----------

    إعملي فولو على
    instagram هنا
    -----------

    ألا أدلك على كلمة تقولها بدقيقة واحدة فقط تحصل بها على اكثر من حسنة مائة مليار حسنة بل أكثر والله يضاعف لمن يشاء فقد قال ارسول صلى الله عليه وسلم في حديثه ( من قال أستغفر الله العظيم التواب الرحيم لذنبي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إلى يوم الدين كتب له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة )

    تعليق


    • #17
      الفصل السادس عشر

      اليوم.. تثمر سنوات الدراسة والسهر والتعب والكفاح، ويحين موعد الحصاد الكبير، وترسو سفينة الأماني على شاطئ جديد وهي تمضي في رحلتها الطويلة إلى جزر الآمال الخضراء...

      واستيقظ طلبة الصف السادس من كلية الطب مبكرين على طرقات الشوق والترقب، وبدؤوا يستعدون لهذه المناسبة الفاصلة في خفة ومرح ونشاط، باليوم.. يتحول الحلم إلى حقيقة،وتدب الحياة في أمل كبير من الآمال العظيمة التي طالما داعبت خيالهم الشاب، ويرتقون درجة في سلم النجاح، ويقطعون خطوة جديدة إلى قمة المجد الذي يتطلعون إليه.

      ووقفت سامية أمام المرآة تتأمل حجابها الأنيق، وتحكم ترتيبه وهندامه، بانتظار قدوم عصام الذي سيصحبها إلى الكلية لمعرفة نتائج التخرج، وقد أرسلت ابتسامة عريضة شفّت عن بهجتها وسعادتها العميقة، فهي تقف الآن مع حبيبها على بوابة الأفراح، فاليوم التخرج وغداً الزفاف وبعده السفر والاختصاص ثم تمضي قافلة العمر الجميل من فوز إلى فوز ومن نجاح إلى نجاح على حداء الحب الخالص العميق ويزدهر المستقبل ثرياً بالمنجزات.

      وشعرت سامية بعقارب الانتظار وهي تلسعها، فلماذا تأخر عصام؟، لم تعد تطيق بعده عنها..لقد أمسى روحها وقلبها وحياتها فمتى تسكن الروح إلى الروح؟ ومتى ينصهر القلب في القلب وتبعث الحياة في عش الزوجية الدافئ السعيد فيرتاحا من أنين البعد وأوجاع الحنين وتنهدات الحرمان، وراحت ترقب الساعة في ضيق وملل...لقد أخبرها أنه سيمر لاصطحابها في الثامنة وها هو عقرب الساعة يتخطى الثامنة في رتابة مزعجة لم ترحم آلام الشوق والانتظار التي تمس أعصابها المرهفة. وهرعت إلى الباب تسترق السمع لوقع أقدامه على درجات السلم، وما هي إلا هنيهة حتى ملأ الهدوء والسلام أغوارها، وفاضت من نظراتها وملامحها، وتحفزت للقائه،وما إن قرع الجرس حتى فتحت الباب في لهفة، فأطل منه فتاها بسمته الهادئ، وابتسامته الوداعة العذبة، فخفق قلبها لمرآه، وشعرت بنظراته التي تلمع بالحب والإٍعجاب وهي تحاصرها، فلم تصمد لذالك البريق الساطع الذي أخترق قلبها وعطر دماءها بمعانيه الرائعة اللذيذة، فخفضت طرفها في حياء وقالت بصوت هامس رقيق: تفضل...
      همس وهو ثابت مبهور: لكم تبدين اليوم رائعة جميلة!...
      - هل ستبقى واقفاً هكذا على الباب؟
      - دعيني أتملى هذه اللوحة الفاتنة الماثلة أمامي!
      وشدته من يده في دعابة، فقال في مرح وهو يتقدم إلى الداخل خطوات: أين حماتي؟..
      - إنها في المطبخ تستعد لمناسبة تخرجنا بصناعة الحلوى والمأكولات اللذيذة؟..
      - وعمي؟..هل خرج؟..
      - منذ الصباح الباكر.
      - الحجاب يزيدك بهاءً وجمالاً.. لكأنكِ فيه ملاك تحفّه هالة من النور!
      - أنت تبالغ...
      - أبداً هذه صورتك في أعماقي.
      - لعل هالة النور قد سطعت من أعماقك تلك، فتوهمتها حولي!..
      همس في أذنها قائلاً: بتُّ الآن متلهفاً أكثر للزفاف.
      ابتسمت وقالت في دلال : إنْ هما إلا أسبوعان...
      - سيمران عليّ كسنة.
      - فليمرا كسنة.. ستنقضي بسرعة كما انقضت سنوات الكلية الست.
      - حقاً لقد مرت كالحلم.. من يصدق؟.. بالأمس دخلناها واليوم نتخرج منها..ما أعجب عجلة الزمان!، إنِّها تمضي بسرعة هائلة، فتطوي بدورانها الأيام والشهور والسنين، فيتلاشى الزمان،ويمحى ويتحول مهما طال إلى مجرد ذكرى، قلما تنجو من قبضة النسيان!!....
      - هي الحياة هكذا.. افتح عيناً وأغمض الأخرى، ترَ نفسك عجوزاً هرماً يتربع فوق التسعين.
      - تساءل عصام مازحاً:- وأنت؟ هل تظنين بأنك ستبقين صبية؟
      - أنا؟.. وما أدراك؟.. لعلي أكون يومها في عداد الراحلين!.
      هتف كالملدوغ: سامية.. ما هذا الكلام؟.. بالله لا تعيدي هذا على مسامعي .
      - لكن الموت حق ..أنت تردد هذا كثيراً!!.
      - صحيح، ولكن... بالله عليك لا تذكري هذه السيرة الآن.
      ثم أردف في وله دامع: لا أجرؤ أن أتخيَّل فراقنا على أية صورة!.. إني لأتمنّى أن نحيا معاً ونموت معاً حتى لا يلدغنا الفراق المرّ ويكوينا.

      نظرت إليه في حب ووجد، وقالت وهي تمسح دموعه بأناملها الحانية الجميلة: كلما تخيَّلت مقدار حبك وإخلاصك فاجأتني بالمزيد..لكأنَّ نفسك الكبيرة بحر ممتد من الحنان بلا نهاية، وأنا تائهة في خضم أمواجه، عاجزة عن بلوغ آفاقه الرحيبة.
      - لن تبلغيها، ذلك أن هذا البحر الذي تتيهين فيه إنما ينبع من قلبك العامر الفياض الذي يرفده دائماً بالمزيد، وسيَّتسع البحر ويَّتسع حتى يغمرنا كله بالسعادة والتفاهم والوئام.
      - ورانت لحضات صامتة جميلة قد أفعمت بالانفعالات الصادقة اللذيذة، لكنها سرعان ما تلاشت على أعتاب الفرحة الوشيكة، وقال عصام في مرح: لقد اقترب موعد النتائج، فهل أنت مستعدة .
      - سيكون زوجي الأول...
      - وما أدراكِ أن تكون زوجتي هي الأولى؟
      - أنا؟.. أنا أتفوق عليك يا عصام؟..
      - ولماذا لا؟.. تعالي بنا الآن نودّعَ أمك قبل أن نمضي .

      .* * *

      - ترى.. من سيكون الأول على الكلية هذا اليوم؟
      أجاب سعد: وهل هذا يحتاج إلى سؤال.. إنه عصام ولا أحد غيره.
      قال عرفان وقد دبت فيه روح الدعابة: بل الأصح أن تقول عصام وقرينته.

      أثارت كلمات عرفان عاصفة من الضحك استرعت انتباه الطلبة الذين تحلقوا في مجموعات ينتظرون إعلان النتائج المرتقبة في لهفة وشوق، وقال مجدي: سمعت أن زفافهما قد أصبح وشيكاً.
      أجاب سعد: هذا صحيح، لكني لا أعرف موعده بالضبط.
      تدخل عرفان قائلاً: اسألني أنا، فأنا يا صديقي مغرم بالأخبار السعيدة.. زفاف صاحبنا قد تقرَّر في الأول من الشهر القادم، أي بعد أسبوعين من الآن تقريباً.. ((عقبال عندي)) .
      علق بهاء من بين الضحكات لقد سبقك عصام يا عرفان.
      فأجابه قائلا: تصور يا بهاء.. لقد خطب وكتب كتابه وسيتزوج في أقل من ثلاثة أشهر.
      حدجه سعد بنظرة متسائلة، وقال يداعبه: أتحسده على ما أنعم الله عليه؟
      أجاب عرفان: بل أغبطه يا سعد.. أغبطه على هذا العم الواقعي المتساهل.
      قال له عثمان: يبدو أنك وعمك على غير اتفاق.
      أجاب عرفان في غيظ: إنه يكبلني بشروطه الكثيرة، ولكل شرط عنده فلسفة يستوحيها من تجاربه الخاصة، وكلما طالبته بالتعجيل بالزفاف شمخ بأنفه وقال بلهجة واعظة تثيرني: لماذا الاستعجال يا بني؟ في التأني السلامة.. انتظر حتى تتخرج وتؤمن مستقبلك وتهيئ الضروف المناسبة التي توفر لك عيشة هانئة ولائقة.. لا داعي للاستعجال يا بني، فهذه زوجتك بانتظارك، فأرِنا همتك يا دكتور.
      ثم تابع عرفان وهو محتد حانق: تصوروا يا جماعة.. كأني تزوجتها لأخزنها في بيته.
      ابتسم الأصدقاء مشفقين بينما قال سعد: لا عليك يا عريس، إنه يشجعك ويشد من عزيمتك وما إن يرى نتائج تخرجك حتى يسهل لك كل الأمور.
      هتف عرفان وهو يرفع يديه إلى السماء في ضراعة: الله يسمع منك يا ((أبو السعود((
      وران على الأصدقاء صمت قصير ما لبث أن قطعه مجدي: لقد تأخرت النتائج! يقولون بعد دقائق..
      - تباً لها من دقائق ثقيلة!
      ومضت برهة من الزمن ما لبثت القلوب بعدها أن خفقت، وأطل الترقب من العيون وهي ترى الدكتور ماهر رئيس اللجنة الامتحانية يخرج من غرفته وفي يده رزمة من الأوراق، فهرع إليه الطلبة في لهفة وحماس، وتجمهروا حوله يسألون: طمئنونا يا دكتور؟
      - دكتور لم نعد نطيق الانتظار!
      - ما هي نسبة النجاح لهذا العام؟...
      كان الدكتور ((ماهر)) يشق طريقه بين جموع الطلبة الصاخبة بصعوبة بالغة، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة مشفقة، ولم يصمد للأسئلة الملحة التي انهالت عليه، فأجاب ليطمئن القلوب المضطربة التي قلقل كيانها الانتظار: سنوزع النتائج بعد قليل.. لم يبقَ سوى توقيع العميد.. كلكم ناجحون – إن شاء الله – فلا داعي للقلق والاستعجال.. انتظرتم هذا اليوم كل هذه السنين، أفلا تصبرون دقائق؟!
      ولم يكد ينتهِ من كلامه حتى عادت الحناجر تضح بالأسئلة والاستفسارات، فما كان منه إلاّ أن حثّ الخطا حتى وصل إلى غرفة العميد، فدخلها بسرعة وغلق الباب وراءه، فخمدت الأسئلة وهدأت الضجة وعاد الطلبة إلى انتظارهم المحفوف بالملل والترقُّب، والتأم شمل الأصدقاء من جديد في حلقة واحدة، وقال سعد: سمعت أن نسبة الرسوب لهذا العام لا تتجاوز الثلاثة بالمائة.
      - علَّق بهاء: يبدو أن دفعتنا من الدفعات الممتازة التي تخرجت من الكلية.
      - قال عرفان وهو يشير إلى نفسه في فخر: طبعاً ... لأنها تحوي كوكبة من العباقرة الأفذاذ.
      - قال له مجدي مداعبا: لا تستعجل يا عزيزي.. (( في الامتحان يكرم المرء أو يهان)).. بعد قليل سوف نعرف النتائج ونتبين موقعك من هذه الكوكبة المزعومة..
      - قال عرفان في استسلام: أريد النجاح فحسب، ولا يهمني بعده كنت الأول أو الأخير.. المهم عندي أن أتخرج وأستقر حتى أثبت لعمي المتسلّط القاسي أني جدير بحمل المسؤولية.
      ضحك الجميع في مرح وسرور بينما قال عثمان وهو يرمي بنظراته إلى مداخل الكلية: ها هو عصام.. إنه قادم بصحبة سامية..
      همس عرفان: انظروا إليه كيف يتقدّم بثقة وهدوء، وكأن النتيجة في جيبه!
      قال بهاء ونظراته تنطق بالرضى والاستحسان: لكم أنا معجب بخطوة سامية الجريئة.. إن حجابها الذي ترتديه يخلع عليها هيبة ووقاراً يجبرك على احترامها.
      وأردف سعد: إن سامية فتاة ممتازة، تملك شخصية قوية وعقلاً راجحاً سرعان ما استجاب لنداء الله، فالتزمت بمنهجه.
      - قال مجدي: لا تنس يا صاحبي تأثير عصام.. لقد لعب دوراً كبيرا في إقناعها.
      - قاطعه بهاء قائلاً: لقد انضمت سامية إلى صديقاتها، وها هو عصام يبحث عنا...
      - هتف عرفان ينادي عصاماً وهو يشرئب بعنقه بين جمهور الطلبة. نحن هنا يا عصام.. هلمَّ إلينا..
      والتفت الأنظار في فضول ترقب الفتى الذي شغل كلية الطب بأخبار تفوقه ونبوغه، وسرت الهمهمات الخافتة تتحدث عنه وتروي أخباره، أما عصام، فقد تقدم من ثلة الأصدقاء في هدوء وقال وهو يأخذ مكانه في الحلقة التي انفرجت قليلا لتضمه: السلام عليكم.. ما هي الأخبار؟...
      تلقفته كلمات الترحيب النابضة بالحب والتقدير، واستلمه عرفان مداعباً: مبروك سلفا يا دكتور
      - ولماذا سلفاً؟
      - لأن النتيجة معروفة، فالمقدمات السليمة تعطي نتائج سليمة.. إني أراهن على أنك الأول..
      - أخشى أن تخسر الرهان.
      - تدخل سعد إلى جانب عرفان قائلاً: بل أراهن أنه سيربح، وسأدفع الرهان سلفاً.. أنتم جميعا مدعوون عندي مساء الخميس القادم على حفلة عشاء جميلة، سوف أقيمها لكم في الحديقة.. في أحضان الطبيعة الخلاّبة.
      - هتف عرفان في مرح وحماس: يا لك من شاب طيب يا سعد.. مواقفك النبيلة تعجبني.
      ضحك الأصدقاء لدعابة عرفان، ثم انخرطوا من جديد في دوامة الترقب والانتظار...

      * * *

      في هذا العالم نفوس مكلومة، لا تستطيع أعظم الأفراح وأسعدها أن تلأم جراحاتها أو تسكن آلامها، بل على العكس من ذلك، فإن مناسبات البهجة والفرح في الملح الذي يلهب جراحها ويوقظ آلامها فتزداد إحساساً بالتعاسة والشقاء، وهكذا كانت ((منى..((.
      لقد تطورت علاقتها مع صفوان من سيء إلى أسوأ، بعد أن شعرت بالخديعة الماكرة التي حبكها لها، وأيقنت أنها ما كانت إلاّ دمية.. دمية ساذجة جميلة، استمتع بها ثم رماها، وها هو يستبدلها بدمية جديدة اسمها ((رشا))... وتنظر ((منى)) إلى ((رشا)) نظرة امتزجت فيها الغيرة بالرثاء، فهي ترثي لها لأنها شريكة مأساتها التي ستنتهي حتماُ إلى نهايتها الأسيفة، لكنها في الوقت نفسه تغار منها وتحقد عليها.. ليس لأنها احتلت مكانها في قلب ((صفوان))، ((فصفوان)) في نظرها إنسان بلا قلب أو عاطفة أو إحساس ، ولن يعرف الحب إلى قلبه سبيلاً، بل لأن رشا هي الأداة التي يستخدمها صفوان لإغاضتها وتحطيمها وإهانتها انتقاما منها، لأنها تمرَّدت على سيطرته وأنانيته ورغباته، وانتقدت مسلكه الشائن الوضيع.

      أما صفوان، فقد أوحت له ثعابين الحقد والغرور التي تعربد في دمه أن يلقِّن ((منى)) درساُ قاسياً لا تنساه جزاء تمردها عليه، وتحديها السافر له الذي وشت به كل تصرفاتها الأخيرة نحوه، مما جعله أضحوكة بين أفراد الشلة الفاسدة التي جمعها حوله، وصرف عليها بسخاء، ليرضي بها أنانيته وغروره وحبه للظهور. ولم يجد صفوان وسيلة للانتقام أنجح من تجاهلها وإغاضتها بتقرُّبه المقصود من رشا. واليوم، هو آخر يوم لهم في الكلية، وقد قرر أن يفسد على منى فرحة التخرج؟.. وأن يحول هذه المناسبة إلى حفلة وداع منكرة تتذكرها أبد الدهر، وتتذكر معها من هو ((صفوان الناعم)) الذي تجرأت فتحدته برفضها الاستمرار في تحقيق مطالبه السافلة، وطموحها لأن تكون له زوجة لا عشيقة.
      زوجة؟!!. لا يستطيع صفوان أن يتصور نفسه زوجاً لمنى!.. كيف يتزوج من فتاة لا يصل دخل أبيها إلى دخل خادمة من خادمات أسرته الثرية؟!.. لقد شمخت بأنفها عالياُ جدا وغلي أن أمرغها لها في التراب...
      وبدأ صفوان يتسقط كلماتها وتصرفاتها باحثا عن هفوة أو كلمة يتخذها مبرراً لإهانتها أمام من استخفت به بينهم، ثم أخذ يستفز مشاعرها فأمعن في تدليل رشا ومغازلتها، وتجاهل منى بشكل جارح، فكلما تكلَّم وجَّه كلامه للآخرين، وخصَّ به رشا، فإذا تكلمت منى أشاح بوجهه عنها أو رماها بنظرة هازئة تفيض بالاحتقار.

      وعندما قدمت سامية برفقة عصام رمقتها ((منى)) باحترام وهي تشعر بالحسرة والندم لأنها لم تصغي فيما مضى لنصائحها الأمينة المخلصة .
      أما صفوان، فقد هتف عندما رآها ساخراً مستهزئاَ: انظروا لهذا الشبح القادم.. لقد استطاع عصام أن يلوث أفكار سامية، وأن يفرض عليها عقليته المتزمتة..
      أردف أحد أفراد الشلة قائلا: هذه أفكار سعد.. سعد هو المسؤول عن هذا الوباء.
      قالت رشا: كلهم متعصبون.. لقد سمعت سامية تدافع عن الحجاب بحماس منقطع النظير.
      علق صفوان على كلمات رشا قائلا: يا للسخرية.. أمريكا وصلت إلى القمر، ونحن ما زلنا نتخلَّف إلى عصر الحريم، ترى؟.. كيف يهضم هؤلاء المتزمتين هذه التصرفات؟.. أنا لا أفهمهم!!
      قالت له منى وقد نفذ صبرها على هذا التجاهل المقصود الذي يبديه نحوها: تحتاج إلى الكثير لتفهمهم.
      سألها في شك: ماذا تعنين؟!
      - أنت تدرك ما أعني!
      ضايقت كلمات منى صفوان، لكنه تظاهر بالهدوء، ورفع كتفيه مظهرا عدم الاكتراث، وقال يستفزها وهو يرمق سامية بنظرة خبيثة: لكنها جميلة.. جميلة جداً.. لكم تبدو في حجابها هذا فاتنة مثيرة!
      لكزته رشا في كتفه متظاهرة بالغيرة، بينما قالت له منى في نبرات هازئة تنطق بالتحدي: أرى أن عدوى ((الرجعية)) والجمود قد انتقلت إليك، أتعجبك فتاة متزمتة قادمة من العصور الوسطى!!
      علق أحدهم وهو ممن يحب الاصطياد في الماء العكر: هذه ليست ((رجعية)) يا ((منى)).. إن صفوان من أتباع المدرسة الكلاسيكية.. إنه مغرم (( بالأنتيكا)) .
      أطلق أفراد الشلة ضحكات مجلجلة مدوية وشت بالشماتة والسخرية بينما أردف آخر: والعطر الذي يستعمله ألا يوحي لك (( بالتقدمية)).. إنه يستحضره خصيصاً من ((باريس(( . .
      تعالت الضحكات من جديد طافحة بالشماتة والتشفي، فشعر صفوان بكبريائه الفارغة تهان وأحسَّ بأنه أصبح مثار سخرية من الجميع، وثار غروره المتحفز دائما للظهور، فخاطب ((منى)) قائلا في لهجة غاضبة وقحة:
      - إذا كانت سامية قادمة من العصور الوسطى، فأنت قادمة من عصور ما قبل التاريخ، حيث كانت المرأة مشاعا لكل رجل...

      صفعت كلمات صفوان البذيئة الفاضحة منى وصدمتها، وشعرت بالنظرات الخبيثة تحاصرها وتعريها، وأحست بالضحكات الماجنة الخليعة تمزق كرامتها وتهين كبرياءها، وزادت من غضبها تلك الابتسامة الهازئة الحاقدة الشامتة التي ارتسمت على شفتيه، فحملقت في وجهه ثائرة مجنونة.. أرادت أن ترد عليه، لكن لسانها خانها، فطفرت دموع القهر من عينيها وانفلتت هاربة لا تلوي على شئ، لكأن هذه المناسبة الكبيرة لا تعنيها... لكأنها لم تدرس الطب.. لكأنها لم تقضي في هذه الكلية ست سنوات من الدأب والتعب، فقد عصفت الفضيحة بكل آمالها وأحلامها وأحالت حياتها إلى جحيم لا يطاق ومضت في ذهول يشيعها صفوان بنظرة متشفية تشي بالانتصار.

      * * *

      قال سعد وقد رأى منى مندفعة بين جموع الطلبة والدموع الغزيرة تبلل وجهها: انظروا إلى هذه.. ما دهاها؟... أتبكي في مثل هذا اليوم؟!
      أجابه بهاء: لعلها علمت بنتيجتها فعلمت أنها راسبة!.
      قال عصام وهو ينظر إليها في دهشة: لا أعتقد هذا.. من أين لها أن تعرف؟!.
      أجابه عرفان في سخرية ذات معنى:مثل هذه الفتاة تملك الكثير من النفوذ، لا بد أنها توصلت إلى النتيجة من أحد معارفها في الديوان.
      هتف سعد في إنكار غاضب: عرفان.. لا تطلق لخيالك العنان.. لسمعة الناس حرمة لا يجوز انتهاكها.. تبين الأمر ثم أطلق الأحكام.
      قال عرفان معتذراً: أستغفر الله، لقد سبقني لساني!.
      قال مجدي وهو يرقب عقارب ساعته في ضجر: اتركونا من سيرتها الآن.. دعونا في الأهم.. لقد تأخرت النتائج كثيرا.
      وأردف عثمان: لقد سئمت الانتظار...
      قال سعد: يبدو أن أعصابنا قد تعبت فعلاً.. سأحضر بعض المرطبات...
      وما كاد سعد أن يمضي حتى اخترق فضاء الكلية صوت المذيع وهو يدعو طلاب الصف السادس عبر مكبر الصوت إلى الاجتماع في مدرج ((ابن سينا)) حيث سيتم إعلان النتائج، فانطلقوا إليه كالنسيم، وانهمروا عليه كالمطر وراحوا يتدافعون على أبوابه، ويتسابقون إلى مقاعده، وسادت المدرج جلبة وضوضاء، وأفقدت اللحضات الفاصلة الطلبة هدوءهم واتزانهم، وانبعثت في أعماقهم طفولتهم القديمة، فراحوا يهتفون ويصفقون ويصفرون، وما إن دخل العميد بصحبة اللجنة الامتحانية حتى ضج المدرج بعاصفة من التصفيق الحار، وانبرت مجموعة من الطلاب الذين عرفوا بالشغب تردد بإيقاع طفولي مألوف ((صباح الخير يا أستاذ)) فابتسم العميد لهذه الهفوة المغفورة ابتسامته الرزينة المألوفة، بينما تقدم الدكتور ماهر رئيس اللجة الامتحانية من المنصة وهو يضحك وتناول ((المايكرفون)) وقال وهو يدنيه من فمه:
      أعزائي الطلبة.. بل زملائي الأطباء _ كما يتوجب علينا أن نناديكم منذ الآن _ إننا نعذركم على تصرفاتكم هذه، لأنكم الآن على عتبة منعطف جديد في حياتكم، فاليوم تطوون مرحلة الدراسة الجامعية الأولى لتنالوا أولى الشهادات العلمية العليا ألا وهي شهادة ((البكالوريوس)) في الطب والجراحة التي ستؤهلكم لممارسة مهنتكم الإنسانية المقدسة لخدمة الإنسان وحمايته من الأمراض والآلام" ...
      زملائي وأخوتي وأخواتي.. بعد ست سنوات من الدراسة والتعب والعمل المضني الدؤوب: قضيناها معا كأسرة واحدة يطيب لي – بصفتي رئيسا للجنة الامتحانية لهذا العام – أن أعلن لكم نتائج الدورة الثالثة والأربعين لكلية الطب مرتبة حسب تسلسل الدرجات ابتداء من صاحب الترتيب الأول مع تمنياتي لكم جميعا بالنجاح والتوفيق.
      وران على المدرج صمت عميق وخفقت القلوب حتى كادت أن تبلغ الحناجر، وتوترت الأعصاب من رهبة الانتظار، وسطع الترقب من العيون التي تعلقت نظراتها المتلهفة بشفتي الدكتور ((ماهر)) تستحثه بالكلام، فسرعان ما بدأ مستجيبا لنداءها المتوسل الصامت :
      المتخرج الأول : الدكتور (( عصام السعيد )) ، وقد حقق معدلا فريدا قدره ((خمس وتسعون درجة وسبعة أعشار بالمائة )) وهو أعلى معدل تم تسجيله في تاريخ الكلية حتى الآن، ويسر عمادة الكلية أن تمنحه ((درجة الشرف)) على هذا التفوق الكبير.
      وضج المدير بالتصفيق الحار، واتجهت نظرات التقدير والإعجاب ترمق أبرز المتخرجين وأول المتفوقين وهو يمضي إلى المنصة لاستلام نتيجته بخطوات واثقة هادئة وقد انتشرت في أغواره السعيدة فرحة عظيمة لم يتسع لها صدره، فتكاثفت وتكاثفت حتى قطرت من عينيه دموع صامتة معبرة اهتز لها الجميع، وتأثروا بها، ووقف له العميد في إكبار واحترام، وقال له وهو يصافحه في ود وحرارة:
      - مبروك يا بني.. إنه لمما يشرفني أن تكون أحد طلابي وأن تصبح أحد زملائي، ومما يزيدني شرفا أن أقدم لك كل دعم ممكن لتتابع مسيرة نجاحك ونبوغك حتى تحقق كل ما تصبو إليه من آمال.

      وأراد عصام أن يشكر العميد لكن الموقف المؤثر أثقل لسانه فغرقت كلماته في خضم الانفعال، فشكره بإيماءة صامتة وعاد إلى مكانه في هدوء وتواضع، ووقع عيناه على سامية وقد ارتوت ملامحها الفخورة بدموع الفرح فحيته بابتسامة ودودة وادعة سرت معانيها إلى أعماق قلبه، فطرت لها وانتشى، وتلقفه عرفان، وكان يجلس على مقعد جانبي من المدرج فطبع على جبينه قبلة خاطفة، وعانقه في حب وحرارة غير عابئ بوجود العميد والأساتذة فضج المدرج بعاصفة مدوية من الضحك شملت العميد نفسه إذ صرحت ملامحه الجادة الوقورة ضحكة شديدة اهتز لها جسده، مما شجع الطلبة على التمادي في ضحكاتهم فانقلب المدرج إلى مهرجان صاخب أدخل السرور والمتعة إلى النفوس القلقة وخفف من اضطرابها، أما سعد فقد رنا إلى صديقه العظيم بنظرة باسمة معبرة أغنته عن أبلغ ما يمكن أن يقال في هذه المناسبة الكبيرة.

      وتتالت الأسماء...كان سعد هو الثاني على الكلية، وكانت سامية السابعة، وتبوأ بقية الأصدقاء أمكنتهم بين العشرين الأوائل وعندما علي اسم صفوان في ذيل القائمة المتخرجين أيقن الجميع أنه لم يكن ليتخرج لولا أنه اتبع كل وسائل الغش والخداع في الامتحان حتى انتزع هذا النجاح الذي لا يستحقه أما عندما تلي اسم منى فقد فوجئ الجميع بعدم وجودها في المدرج وهي التي كانت منذ قليل تنتظر معهم إعلان النتائج!!.
      وتبادل الأصدقاء نظرة متسائلة مستفسرة.. فمنى لم ترسب كما توقع أحدهم، فما هو سر بكائها الغامض وغيابها المفاجئ الغريب؟!!...
      سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم
      -----------
      أعمالي في التصوير
      Longines

      Teppo & Tappo
      -----------

      إعملي فولو على
      instagram هنا
      -----------

      ألا أدلك على كلمة تقولها بدقيقة واحدة فقط تحصل بها على اكثر من حسنة مائة مليار حسنة بل أكثر والله يضاعف لمن يشاء فقد قال ارسول صلى الله عليه وسلم في حديثه ( من قال أستغفر الله العظيم التواب الرحيم لذنبي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إلى يوم الدين كتب له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة )

      تعليق


      • #18
        الفصل السابع عشر


        أيها الليل.. أما لك من آخر؟.. وأنت أيتها النجوم؟.. ما لك ثابتة في كبد السماء لا تريمين؟.. ألا تمضين في دروبك الرتيبة فتحملين معك هذا الليل الجاثم الطويل؟.. وأنت أيها النوم؟... ما بالك قد خاصمت أجفاني؟.. إلامَ تتركني نهباً للهواجس، وفريسة للهم والأرق؟.. أين أنت حتى أنسى في أحضانك خيبتي ويأسي؟.. ألا تأتي فتنقذني من آلام الوعي ومرارة الحقيقة؟.. وأنت أيها القمر؟.. آه لو ينطق القمر!.. لكان شاهدا على الضحية والجلاد.. على الظالم والمظلوم.. على الجريمة والمجرم.. الخائن.. ظننته فتى أحلامي.. بذلت له الحب والإخلاص.. منحته الثقة العمياء فاستسلمت لأهوائه ورغباته..
        آه.. لكم أشمئز من تلك الأيام الماجنة اللعينة.. باسم الحب جردني من إرادتي.. باسم الحب ميع لي الأخلاق الفاضلة وقيم العفة والشرف.. باسم الحب استدرجني إلى حياته التافهة الحقيرة.. الحب!.. هذه العاطفة النبيلة باتت مشجباً نعلق عليه انحرافاتنا وأهوائنا.. أضحت قناعاً براقاً نخفي تحته بواعثنا الشريرة ودوافعنا المريضة .. الحب!.. عنوان خديعة كبرى عشتها سنوات طويلة وأنا أجري وراء فارس مزيف سرعان ما تعثر جواده الرديء على دروب التجربة المريرة.. باسم الحب أرقت أحلى أيام عمري لأروي بها زهرة سامة كنت أول ضحاياها.. وصدقته، فخلعت على أعتاب حبه كل الأخلاق التي تربيت عليها..
        تحايلت على أمي الطيبة، وهزئت بنصائحها وتوجيهاتها، واتهمت أفكارها بالتخلف والرجعية والجمود.. خدعت والدي المسكين الذي يحترق كشمعة لينير لنا بتضحياته درب الحياة الكريمة المستورة، وهو يمضي وراء عربته الخشبية العتيقة، يدفعها عبر الأزقة والحارات.. يبيع عليها الخضار والفواكه.. يخرج منذ الفجر، ويعود عند المساء بعد كدح وجهاد طويل، فيتناول عشاءه وينام ليتزود بقسط من الراحة يعينه على متابعة رحلة الحياة اللاحبة الطويلة، وينام ملء جفنيه وهو مطمئن إلى زوجته وأولاده.. واثق بأننا سنقدر كفاحه وتضحياته فننتظم في حياتنا وسلوكنا وفق ما يحبه ويرضاه.. كان أشد ثقة واطمئنانا إلى سلوكي فخذلته دون أن يدري وخنت الأمانة. ماذا لو عرف الحقيقة؟.. حتماً سينهار.. أي جريمة ارتكبتها بحقه وهو الذي يحبني أكثر من كل أخوتي؟.. دائما يقدم لي كل ما أطلب.. دائما يهتم بي ويشجعني ليراني طبيبة يتباهى بها أمام الناس، فيقولوا ها هو ((أبو الدكتورة)).. ها قد أتى ((أبو الدكتورة)).. اشتروا خضاركم من ((أبي الدكتورة)).. الدكتورة؟.. أي لعنة حلت بهذا القلب؟.. خدّر أمي فرضخت لسلوكي الجديد.. خدّر أبي فأطلق العنان لتصرفاتي ومنحني الحرية دون تحفظ.. خدّر أخي الذي يشعر أمامي دائماً بالنقص وهو الذي أخفق في تحقيق طموحه بدخول كلية الطب.. خدّرهم جميعا فلم يرتابوا للحظة بسلوكي في الجامعة.. أولست ((الدكتورة))؟!.. أولست أعلى منهم علماً وثقافة ومكانة في المجتمع؟.. إذن فكل ما أفعله صواب. هذا اللقب المقيت كم بت أكرهه!.. لقد أورثني التعاسة والشقاء.. ليتني لم أدخل كلية الطب.. على الأقل لما كنت تعرفت بصفوان.. يا للسخرية!!.. صرت ألعن الظروف التي جمعتني به.. يا لها من نهاية تعيسة لقصة حب مزيفة.. حب؟!.. أي حب هذا؟!.. إنه ضياع.. عاطفة متوثبة عطشى تبحث عمن يرويها، فصادفت صفوان ليترعها بسمومه، فماتت بعد تخبط طويل، الإنسانة الوحيدة التي وقفت في وجه تهافتي المجنون على صفوان هي سامية.. هي الوحيدة التي قرعت في أعماقي أجراس الإنذار.. هزتني بعنف.. صدمتني بالحقائق، لكني كنت مندفعة بلا وعي فهزئت بنصائحها وتحذيراتها ووثقت بصفوان.. صفون!.. سرّ مأساتي المدمرة وتعاستي وشقائي.. ضحك علي.. أوهمني بحبه.. خدّرني بكلماته المعسولة...
        لكم أنت جميلة يا منى.. درت باريس من أقصاها إلى أقصاها فلم أرَ فتاة بفتنتك وجمالك!.. شاهدت حسناوات لندن فلم يفعلن في لبي ما فعلته أنت.. ذرعت إيطاليا من الشمال إلى الجنوب فلم تشدني فيها أنثى كما شددتني أنت.. درت وسافرت ورأيت ثم عدت إليك لتلقي روحي مراسيها على شاطئ حبك الكبير... الخبيث!.. تصورت نفسي ملكة جمال العالم. شمخت بأنفي إلى السماء.. أغلقت سمعي أمام كل الأصوات إلا صوته.. كانت كلماته تدغدغ أعصابي وترضي عواطفي.. كانت تلين إرادتي لتسلس له القياد.. وانقدت إليه.. مفتونة بشبابه.. مبهورة بثرائه.. مسحورة بلسانه.

        - سوف نتزوج.. سأبني لك ((فيلا)) فخمة.. بل قصر.. قصر كبير يليق بك وبجمالك..
        - قلبك الكبير أعظم قصر أهفو إليه.. ما دمت أسكن قلبك فأنا أسعد فتاة في الوجود.
        - وسنسافر إلى أوربا لنقضي شهر العسل..
        - كم أتمنى أن أرى باريس.. لطالما سمعت عن باريس!.
        - سأريك باريس ولندن وروما وبرلين و...
        - رويدك.. رويدك.. كل ذلك في شهر؟!..
        - في شهر.. في سنة.. المهم أننا معاً.. في أفياء حبنا السعيد.
        - لماذا لا نتزوج الآن؟
        - نتزوج الآن؟!.. ليس الآن.. ووالدي لن يوافق على زواجي قبل أن أتخرج، ولماذا نستعجل بالزواج؟ ها نحن معاً...
        - معاً؟!.. أترضى من حبنا بهذا الفتات؟!.. لقاءات خاطفة، وجلسات قصيرة!!.. هل يرضيك هذا؟!!.
        - لا.. لا طبعاً.. لم أقصد.. اسمعي.. لماذا لا تأتين تذاكرين عندي.. عندي شقة فخمة.. تقوم في شارع هادئ، فيها كل أسباب الراحة والهدوء .

        فاجأني بعرضه.. تجربتي معه تتطور بسرعة، فمن نظرات الإعجاب الجريئة، إلى ابتسامات الود والرضى، إلى كلمات المجاملة والغزل المستور التي تمخضت عن صداقة عميقة، سرعان ما تحولت إلى حب جارف سيطرت مشاعره وأحاسيسه على أحاديثنا ولقاءاتنا وسهراتنا الممتعة الجميلة، والآن تطور جديد!.. إنه يدعوني للقاء في شقة خاصة دون رقيب!.. ليتني أصغيت يومها لمخاوفي وهواجسي، لكنه شعر بترددي فلم يترك لي فرصة للتفكير وأخذ يحاصرني بأسلوبه الماكر الخبيث:
        - منى.. يعني لم تجيبي على سؤالي.. أنت لا تثقين بي إذن.. الثقة أول دعائم الحب الصادق.. لقد رسبت في الامتحان يا ((منى)) وها هو حبنا يولد ميتاً فلنواريه النسيان.. لكن لا.. قد تنسينه أنت أما أنا فلن أنساه لأن قصته محفورة في قلبي، ضاربة في أعماقي وسوف أعيش على ذكرياته الحبيبة أبكي نهايته الأليمة... الماكر!.. أشعرني بالذنب.. أصبحت أسعى إلى رضاه.. طفرت الدموع من عيني.. هتفت في توسل:
        - صفوان.. أرجوك.. ما هذا الكلام؟.. لست بالتي تنسى.. أنت لا تدرك عمق حبي وإخلاصي.. أنا أنسى؟!.. كيف سولت لك نفسك أنت تفكر في هذا؟!.
        - ما معنى خوفك من زيارتي إذن؟
        - صفوان.. أنا لست خائفة منك.. أنا خائفة من المجتمع.. من التقاليد.. من كلام الناس..
        - أنت لا تثقين بنفسك إذن.. تضحين بحبنا وسعادتنا من أجل الناس والتقاليد.. التقاليد يا عزيزتي والقيم والأخلاق كذبة كبرى اخترعها الناس وصدقوها.. صنعوا منها سجناً شاهق الأسوار وحبسوا فيه أرواحهم.. أنت لم تري أوروبا يا حبيبتي.. الناس هناك بلا عقد.. بلا تعصب.. بلا قيود.. حرية وانطلاق وسعادة ما بعدها سعادة.. يجب أن نعيش حياتنا يا منى.. قطار العمر يمضي، فلنملأ أيامه بالبهجة والمتعة والفرح.. ليس هناك وقت نضيعه.. لا بد من الجرأة في اقتحام الحياة وانتزاع سعادتنا من براثن الأخلاق والتقاليد، فلنتمرد على الحواجز والقيود.. منى.. عل تأتين لتذاكري عندي؟
        - سآتي، ولكن...
        - منى .. لا تجرحيني.. ولكن ماذا؟..
        - لا أستطيع أن أتأخر.
        - لن أؤخرك.. تعالي واذهبي متى شئت، اعتبري الشقة بمثابة بيتك.
        - بيتي؟.. متى سيضمنا بيت واحد.. تتفجر في رحابه ينابيع حبنا العظيم لتملأ أيامنا القادمة بالسعادة والهناء.. بيت هادئ جميل لا يعكر صفوه إلا صخب أطفالنا الذين يملأون أرجاءه أنساً وبهجة، ويبعثون فيه حياة جميلة رائعة بصياحهم العذب، وضجيجهم المحبب وعبثهم البرئ. لكم أعشق الأطفال يا صفوان!!؟
        - الأطفال؟!.. الأطفال هموم ومتاعب ومسؤوليات ووجع قلب..
        يا للسذاجة.. كيف لم أفطن يومها إلى حقيقة مشاعره وأفكاره؟.. إن تعليقه هذا يعكس تفكيره الشاذ الغريب ونفسيته الأنانية اللامبالية التي لا همّ لها إلا تحقيق الرغبات والأهواء، والتهافت على الملذات.. هل يوجد مخلوق عاقل لا يحب الأطفال؟!.. وعندما سألته عن سرّ موقفه من الأطفال استطاع –كعادته- أن يخرج من دائرة الشك بالكذب والمراوغة تحت ستار الثقة العمياء التي منحته إياها..
        - عجباً!.. ألا تحب الأطفال؟!..
        - أنا؟!.. آه.. نعم.. أحب الأطفال.. أحبهم جداً.. لكنك يا عزيزتي دائما تستعجلين الأحداث.. أخبرتك أن والدي لن يوافق على زواجنا قبل التخرج.. ستأتين لعندي غداً أليس كذلك؟..
        - سآتي...
        - سأنتظرك بعد انتهاء الدوام.. سأنتظرك على أحر من الجمر.
        ما أخطر العواطف إذا اندفعت دون كابح من عقل أو إرادة.. ما أخطر أن يتحطم سد التعقل الذي ينظِّم تدفقها.. إنها تتحوَّل إلى طوفان مدمِّر يخلف وراءه المآسي والكوارث والأحزان.. تتحوَّل إلى جحيم يكوي بلظاه القلوب والأفئدة.. وأنا.. فتاة بسيطة أفتقر إلى الوعي والتجربة.. فتاة طيبة تعودت دائماً أن أنظر إلى الحياة من جانبها المشرق المضيء.. فتاة حالمة طموحة أبحث عن سعادتي تكافئ الحرمان الذي عشته طيلة حياتي.. لكني كنت غبية.. كنت مغرورة بعقلي وذكائي، والذكاء لم يعد يكفي لمواجهة الحياة، فالحياة اليوم تعجُّ بالثعالب والذئاب، وأنا فتاة غضة لا أعرف كيف تنسل الأفاعي أو تتلون الحرباء.. كل الناس عندي صادقون.. كل الرجال عندي طيبون.. تماماً كوالدي الحبيب، لذلك صدقته، وأغلقت مسامعي أمام تحذيرات سامية وهي الصديقة المخلصة التي كنت أسرُّ لها بأدق أسراري وأحترم رأيها ومشاعرها..
        لقد وقفت عواطفي الجارفة حاجزاً سميكاً بيني وبينها فلم أعد أسمع إلاّ صوت صفوان، وتصورته يتهمني بضعف الشخصية وعدم الثقة بالنفس، فخشيت أن يفسد ترددي وخوفي الحب القائم بيننا فذهبت إليه وكان ما كان...
        أي ضعف اعتراني أمامه.. أي جنون اجتاحني.. أي غباء ركبني حتى منحته مفتاح الحصن الذي أودعت فيه سمعني وشرفي وعفافي.
        وابتدأت رحلة الشيطان..
        وأوغلت في الأيام والشهور..
        وأنا مستسلمة لتأثيره الطاغي، غافلة عن الحقيقة الأليمة، وكلما سألته عن مصير هذه العلاقة الآثمة وعدني بالزواج، دون أن ينسى تحذيري من الحمل، ومن حسن حظي أني طالبة طبّ أدرك ما علي فعله.. كانت كلمات سامية تتردد في خاطري فلا ألقي لها بالاً، ولكنها ما لبثت أن وجدت في نفسي بعد الأصداء عندما بدأ الطلاء الكاذب يذوب والقناع الخادع يسقط وبدأت الحقائق تتكشَّف ...
        اكتشفت أنني لست الأولى في حياته، وأنني لست الأخيرة.. هناك أخرى وثالثة ورابعة وأخريات.. مجون.. وعبث وخمر ومخدرات.. ألاعيب وخدع ومؤامرات... اكتشفت أني بين أنياب وحش لا قلب له أو ذمة أو ضمير...

        وصبرت عليه، فمفتاح الحصن بين يديه.. التمست كل الطرق التي تؤدي إلى رضاه حتى لا يعصف بسمعتي ومستقبلي، وكلما رأيته يتقرَّب مني كان الأمل ينبثق في أعماقي وأقول: ها قد عاد إلى واحة حبه.. ها قد اقتنع بأني فتاته المميزة بإخلاصها وجمالها وحنانها وذكائها، بيد أن الحقائق البشعة لا تلبث أن تثقل أجنحة الأمل فيهوي إلى قرار سحيق من اليأس ويصدم بقاع صلد من الوقائع والتفاصيل المرة، فيتحطَّم فؤادي ويشتد ألمي ويزداد عذابي.
        وتتقلَّب ((مني)) في فراشها، وترسل نظراتها اليائسة الحزينة عبر النافذة، فتجد الليل ما زال حالكاً مقيماً والنجوم ما زالت لم تغادر والقمر ما زال ساطعاً منيراً وكأنه يرقبها في شماتة، فتنتفض في ضيق وتدفن وجهها بين ثنايا وسادتها فتغرقها بالدموع..
        اشهدي أيتها الوسادة على تعاستي وشقائي بعد أن كنت مسرحاً لأعذب آمالي وأحلاها.. هل تذكرين؟... آه لو تذكرين... كنت آوي إليك كل مساء وقلبي الفرح النشوان يخفق بالحب والسعادة.. كنت أسترجع في أحضانك أحداث اليوم الذي أفل وأستمتع بذكرياته اللذيذة وأحلق في سماء الأحلام. وها أنا اليوم آوي إليك لأفضي بآلامي وأمضغ هزيمتي وأجتر أحزاني.. أي إنسان هذا.. هزأ كبريائي ومرغ سمعتي في التراب.. آخر شئ كنت أتوقعه منه أن يشهر بي على الملأ ويجعلني عرضة لنظرات الشك والريبة وهدفا للألسنة تلوك سمعتي وتفضح غلطتي وتتداول قصتي في كل مكان.. ولماذا؟.. لمجرد انفعال طارئ..
        لمجرد أني عاندته في رأيه بسامية.. لقد شعر بأني أتمرد على سيطرته وآرائه، أدرك بأني لم أعد ملكه فانتم لغروره بتلك الكلمة البذيئة الحقيرة.. آه من لؤمك وغدرك يا صفوان.. في آخر يوم من حياة الجامعة ترفع القناع في وقاحة وتكشف عن أنياب الغدر والخيانة.. ولماذا لا.. لقد انتهى دوري.. أخذ مني ما أراد ورماني.. سلّى نفسه بفتاة ساذجة، جميلة، وبعد أن رشف رحيقها ركلها وكأنها شئ تافه لا حس له أو كرامة أو شعور..
        لكأن آثام العالم وشروره قد أودعت قلب هذا الإنسان.. إنسان؟.. ومن أين له الإنسانية.. ليسه له منها إلاًّ الجسد الآثم والغرائز المحمومة.. ليس له من الإنسانية إلاَّ نقاط الالتقاء مع الحيوان.. آه ما أقساه.. ليتني لم أذهب إليه.. ليتني لم أسترحمه.. ماذا كنت أنتظر منه؟.. ولكن ماذا عساي أن أفعل؟.. فأنا غريقة أبحث عن قشة الخلاص.. ظننت أن الحب والصداقة قد يشفعان لي عنده فينقذني من محنتي الفظيعة...
        - أهلاً منى .
        - مبروك.
        - على ماذا؟.. آه.. ((مرسي..(( مبروك لك أيضاً على التخرُّج.. إنها فرحة حقاً.
        - النفوس التعيسة المقهورة لا تتذوَّق الأفراح ولا تحس لها طعماً.
        - منى .. تبدين كئيبة هذا اليوم.. عمَّ تتحدثين؟.
        - اللئيم.. كأنه لم يفعل شيئاً!!.. تمنيت لو أن في يدي خنجراً لأنقضَّ عليه وأمزقه إرباً.. إرباً.. لكني لم أستطع أن أعلن ثورتي، فمفتاح الحصن بين أنياب الوحش ولا بد من ترويضه ريثما أستردها..
        - ألا تعلم عمًّ أتحدث؟!..
        - منى.. لعلك في ضائقة مالية.. اطلبي ما تريدين.. لا فرق بين الأصدقاء

        كدت أنفجر.. إنه يمعن في إهانتي وتجاهل مشاعري، ولكن.. قشة الخلاص.. يجب أن أستخلصها من بين أنيابه..
        - صفوان.. تعرف أني لا أقصد هذا.. أنا عاتبة عليك..
        - عاتبة؟!.. آه، تذكرت.. تقصدين سوء الفهم الذي حصل عندما كنا بانتظار النتائج.. أنا آسف.. مجرد انفعال..
        - أيقودك انفعال بسيط لتفضح علاقتنا وتشهر بسمعتي أمام الجميع؟!!
        - لا تنسي أنك البادئة.. لقد سفهت رأيي أمام الشلة، وأنت تعرفين أكثر من غيرك أن هذا يثيرني جداً!
        - لدرجة أن تشهر بي على هذه الصورة!.
        - ما كنت لأرحم من يتحدّاني.. أنت تعرفين هذا، ومع ذلك عاندتني في رأيي فأثرت حفيظتي..
        - صفوان.. لننسً الماضي.. لنعد إلى أيامنا الممتعة الجميلة.. لنعد إلى واحة حبنا القديم.. لنحقق ما اتفقنا عليه.. ها قد تخرَّجنا ولم يبقَ أي مبرر لتؤخر زواجنا.
        - زواجنا؟!.. أنا لا أنوي الزواج..
        - لكنك وعدتني!..
        - كثيراً ما يتراجع المرء عن وعوده وقراراته، وقد تراجعت..
        - لكنك اغتصبتني..!
        - وأنت راضية.
        - ما كنت لأرضى لولا إخلاصي لك وثقتي بوعودك.
        - ماذا تريدين الآن؟
        - ماذا أريد؟ّ!.. صفعني بسؤاله.. أصبحت عبثاً عليه.. أصبحت عقبة في طريقه.. أصبحت في نظره لا شئ.. ماذا أريد؟.. الحقير!!..
        - أريد منك أن تفي بوعودك فتتزوجني وتستر سمعتي وتصون شرفي..
        - هذا محال.. اسمعي يا حضرة الدكتورة.. أنا لم أضربك على يدك.. لم أجرك إلى شقتي جراً.. جئت إليَّ بقدميك واستسلمت في بإرادتك، ولست مضطرا لأدفع ثمن رغبتك وسذاجتك وغبائك.

        في تلك اللحظات تذكرتً ((سامية)).. دوت كلماتها في أعماقي بقوة.. وبدا لي طيفها المضيء وسط فضاء مظلم..
        أذهلني الصدمة.. تقلَّصت ملامحي في ذعر وجحضت عيناي في غضب تريد لو تنقض عليه فتحرقه بنظراتها الثائرة..
        هدرت في وجهه: ((صفوان.. أنت وغد.. وغد.. وغد..((..

        آه.. ما أقساها من لحظات.. لحظات الصدمة والذهول.. إني لأتذكرها وكأني أعيشها الآن.. لقد انفلت هاربة لا ألوي على شئ.. كانت دموع القهر تنهمر من عيني الذاهلتين بغزارة.. وفي صدري كان يغلي مرجل من الغضب والثورة والغيظ المكتوم.. وتلاحقت أنفاسي متسارعة وبدأت أشعر بالاختناق.. الدنيا لم تعد تسعني.. الدنيا لم تعد لي.. الدنيا ليست للمقهورين والمعذبين.. ملعونة هذه الدنيا.. معلون هذا العالم. ملعونة هذه الحياة.. ماذا بقي لي فيها؟.. فلأغادرها بسرعة، والموت هو السبيل.. إنه أقوى طريقة للرفض.. أعلى صرخة في وجه هذا العالم التافه المجنون.. ولكن لا.. لن أغادر هذا العالم قبل أن أفضح الجريمة والمجرم.. يجب أن يكون لمودتي دوي هائل يهز حياة الطاغية، ويعلن النذير في صفوف الضائعين أمثالي، وينير أمامهم درب الفضيلة والعفاف.
        وتتناول منى ورقة وقلماً وتخط رسالتها الأخيرة على أضواء القمر الوانية بيد مرتعشة، وقلب يائس، وعينين ذارفتين قرحهما البكاء:
        إلى كل فتاة غرر بها.. إلى كل عذراء اغتصبت قهراً أو خداعاً.. إلى كل مظلوم في هذا العالم القذر الملعون، أقد روحي البائسة رفضاً لهذا المجتمع الفاسد المريض، وقبل أن أغادره أريد أن أفضح وألعن سبب بؤسي وشقائي.. الدكتور ((صفوان الناعم)).. هذا الثعبان الماكر الذي لدغني في أعز ما أملك، وحطَّم سمعتي ومستقبلي.. وقبل الرحيل أودُّ أن أعتذر إلى أمي الطيبة ووالدي المسكين اللذين....وتقف منى عند هذه الكلمات...لقد تذكرت أمها الطيبة ووالدها المسكين، فتذكرت كفاحهما الشاق الطويل من أجلها، وتصورت حجم المأساة الفظيعة التي سيعيشانها بسبب انتحارها، وتخيلت تلك القصص والفضائح التي سينسجها الناس حول هذا الانتحار فهالها ما ستقدم عليه..

        ونشب في أعماقها صراع عنيف بين اليأس والرجاء، وتراوحت بين التماسك والانهيار، فترددت طويلاًً ثم بدأت تستسلم للعجز والضعف، فتناولت زجاجة السم التي أحضرتها لهذا الغرض ووقفت على الحدّ الفاصل بين الموت والحياة تقدم خطوة وتؤخر أخرى.. وازداد الصراع في أغوارها حدة وعنفاً، وأخذت مشاعرها المتباينة تتجاذب زجاجة السم من يدها، فتشنجت أصابعها على الزجاجة القاتلة وجعلت تترنَّح على حافة الفناء... وتفاقم الصراع في أعماقها المدلهمة.. فتقدمت من المرآة في رهبة وتأملت ذلك الشحوب الذي عكر ملامحها الكئيبة، وذلك الذعر الذي لاح في عينيها الحمراوين فانتابها خوف وهلع وأخذت ترتعش..وأصغت لليأس العاصف وهو يدفعها للاستسلام، فحملقت في جنون وقربت الزجاجة من فمها، فعلا وجيب قلبا وتسارعت خفقاته وأخذ يتلاطم في صدرها وكأنه سجين ضمن غرفة مغلقة راح يدق الأبواب والجدران باحثا عن مخرج وقد أحاق به خطر داهم.وهوت منى إلى الدرك الأسفل من اليأس، فباعدت بين أسنانها المنطبقة بقوة ورعب وحركت فكها المتشنَّج عنوة، وفتحت فمها إلى أقصى ما تستطيع وهمَّت بإفراغ السم القاتل في أحشائها، لكنها توقفت فجأة وهي تصغي لصوت العقل وهو يهيب بها هادراً قوياً أن تحجم، وامتدَّ لها خيط من الأمل فانتشلها من وهدة اليأس فحاول اليأس أن يعيدها إلى أحضانه، لكنها تشبثت بخيط الأمل ورمت بالزجاجة من النافذة وقررت أن تبقى...

        وبلغ الإجهاد بها منتهاه، فانهارت على الأرض مهدودة خائرة، وراحت تبكي في مرارة فالحياة التي آثرت أن تعود إليها أقسى ألف مرة من الموت الذي كانت ستقدم عليه . يجب أن أبقى.. يجب أن أعيش.. من أجل والدي الطيب.. من أجل أمي المسكينة.. من أجل إخوتي.. سأبقى لهم، فلا داعي لأن أزيد تعاستهم وشقاءهم.. حرام.. حرامٌ علي أن أقتل الفرحة الوليدة في أعماقهم بعد أن انتظروها كل هاتيك السنين.. سأبقى في أذهانهم ((الدكتورة منى)) التي يفخرون بها.. سأطوي صدري على الجراح وسأمضغ مأساتي في صمت.. لا داعي للانتحار فلديَّ ما أقوم به.. ولماذا الانتحار؟.. لقد متَّ منذ زمن ولم يبق مني إلاَّ هذا الجسد.. فلأعتبره آله.. آلة نافعة مفيدة تعود على أسرتي بالمال الذي يوفر لها الحياة الكريمة الرغيدة.. سأعزف عن الزواج.. سألغي في أعماقي غرائز الأنثى، وأشواق الأنثى وسأعمل ليل نهار لأقدم لأبي وأمي أسباب الراحة والسعادة وأوفر لإخوتي حياة أفضل تحميهم من الاندفاع وراء الأحلام الكاذبة التي تعدهم بريِّ حرمانهم كما وعدتني فخذلتني...
        وسرى أذان الفجر فوق أمواج الظلام، فاخترق هدأة الليل ومزق وحشته، وانسابت معانية الخالدة إلى سمع منى فأنصتت إليه في خشوع وكأنها تسمعه لأول مرة.. وذكرت الله فذرفت بين يديه الدموع...
        سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم
        -----------
        أعمالي في التصوير
        Longines

        Teppo & Tappo
        -----------

        إعملي فولو على
        instagram هنا
        -----------

        ألا أدلك على كلمة تقولها بدقيقة واحدة فقط تحصل بها على اكثر من حسنة مائة مليار حسنة بل أكثر والله يضاعف لمن يشاء فقد قال ارسول صلى الله عليه وسلم في حديثه ( من قال أستغفر الله العظيم التواب الرحيم لذنبي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إلى يوم الدين كتب له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة )

        تعليق


        • #19
          الفصل الثامن عشر

          انفض جمع الأصدقاء في ساعة متأخرة من الليل، بعد سهرة جميلة قضوها في ضيافة سعد الذي دعاهم إلى حفلْ عشاء وسمر بمناسبة تخرجه. ولم يبقَ منهم سوى عرفان وعصام الذي كان منهمكاً مع سعد في الحديث عن المستقبل والطموحات الكثيرة التي اتفقا على إنجازها معاَ، واستبدَّ النعاس بعرفان فتثاءب قائلاً:
          - أما ينتهٍ حديثكما؟.. لقد مللت أحاديثكم التي لا تنتهي عن السرطان والجمعية الوطنية لمكافحة السرطان والصندوق الوطني لمكافحة السرطان و.. لا أدري ما الذي يجبركم على حمل هموم المجتمع ومشاكله كلها.. هناك وزارة الصحة يا سادة.. هناك عقول كبيرة تخطط لتنمية المجتمع وتطويره، فأريحوا أنفسكم من هذا العناء.
          - ضحك عصام وقال: لك أن تقول بأنك قد نعست وتريد أن تذهب لتنام، لكن لا يحق لك أن تكبت أفكارنا وطموحاتنا في تطوير مؤسسات مكافحة السرطان بحجة أنها ليست من اختصاصنا.. ليس من الضروري أن ننفذ كل ما نفكر فيه بأنفسنا.. قد ننفذه نحن وقد ينفذه غيرنا.. المهم أن نفكر ونحاول...
          - قال سعد يخاطب عصاماً: لا تلق بالاً لكلامه يا عصام، فهو يملك نفس حماسنا، لكن الإسراف في الطعام قد أصابه باسترخاء أورثه النعاس والكسل.
          - قال عرفان وهو ينهض في تثاقل: ارحموني أرجوكم.. أريد أن أنام.. إذا كنت لا تنوي ان تمضي يا عصام فاتركني أذهب لوحدي.
          - هتف عصام وهو يهم بالنهوض: بل سنذهب معاً يا عزيزي، فقد تأخرنا.
          ثم وهو يتوجه بالحديث إلى سعد: حسناً يا سعد.. سنكمل حديثنا غداً – إن شاء الله – المهم الآن أن نبدأ بتأسيس الصندوق الذي اتفقنا عليه لنستطيع مع الزمن توفير الدعم المادي لجمعية مكافحة السرطان.. سنتحدث غداً في التفاصيل...
          - قال سعد: سأزورك غداً في عيادة الدكتور إياد بعد أن تكون قد استشرته في أفكارنا التي تحدثنا عنها.. ستأتي معي يا عرفان، أليس كذلك؟
          - إذا استيقظت باكراً..
          - قال عصام وهو يدعو عرفان للمسير بإشارة من يده: والآن هيا بنا يا عرفان.. عفواً.. بل يا دكتور عرفان.. ضحك الثلاثة في ود وافترقوا على أمل اللقاء.

          * * *

          وقف عصام وعرفان على الرصيف بانتظار سيارة أجرة تقلهما إلى بيتهما، حيث يقع منزل عرفان في الطريق إلى منزل عصام، وقال عرفان وقد عاوده نشاطه: يا لروعة هذا المساء.. ما أجمل السهرة في حديقة سعد.. لقد تمنيت لو امتدت بنا الجلسة حتى الفجر، لكن النعاس الذي دهمني أفسد متعتي.
          سأله عصام مداعباً: أهي الحديقة التي أغرتك بالسهرة، أم الطعام الشهي الذي تناولته؟
          أجاب عرفان وهو يتحسس بطنه: هل تريد الصدق؟.. لقد كان طعاماً شهياً لم أذق مثله.. و ((الكاتو)).. يا عيني على ((الكاتو)).. لقد أكلت منه حتى مللت...
          ضحك عصام وقال متوعداً: إياك أن تسرف في حفلة زفافي كما أسرفت الليلة، فالمدعوون كثير، وزادنا على قدنا... عليك أن تقرأ كل ما درسناه عن أخطار السمنة قبل أن تأتي.. مفهوم؟
          هتف عرفان محتجا: حرام عليك.. (قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق).. أبعد أن دمجت حفلة التخرج مع حفلة الزفاف، تريد مني أن أقتصد في الطعام.. هذا ظلم يا دكتور.. ظلم سوف أقاومه بكل ما أوتيت من طاقة على الأكل والطعام، فخذ احتياطك منذ الآن...
          ومرت سيارة مسرعة فاستوقفها عصام بإشارة من يده، لكنها كانت مليئة فلم تحفل بإشارته.
          - لقد تأخرنا فعلاً!.
          - سأله عرفان وهو يحل ربطة عنقه قليلاً: أزمعت السفر للاختصاص إذن...
          - أنا وسامية – إن شاء الله –
          - هل جاءك رد من أمريكا؟
          - ليس بعد.. يتوقع الدكتور إياد أن يتأخر الرد قليلاً، لكنه يؤكد لي بأن القبول مضمون، لأن رئيس الجمعية الأمريكية للسرطان صديق حميم له من أيام دراسته في أمريكا وهو يضع كل ثقله في الموضوع، ولا تنسَ أن الدكتور إياد ((زميل)) في الجمعية الأمريكية للسرطان ولرأيه وزن هناك وقد أرسل صوراً مترجمة ومصدقة عن أوراقي وأوراق سامية، سبقها تمهيد طويل حول هذا الأمر، وأنا متفائل جداً بالقبول.
          - يحق لك أن تتفاءل.. الجميع يفكرون بالاختصاص ويسعون إليه إلا أنا!.
          - ولِـمَ؟
          - لأسباب كثيرة.. أهمها تكاليف الاختصاص الناهضة..
          - العائق المالي قائم أمام الجميع لكن أغلبهم قد استطاع التغلب عليه، أنا مثلاً سأبيع قطعة أرض نملكها في الريف لنسدد منها تكاليف السنة الأولى، وبعدها سيبدأ عملنا في المستشفى هناك فيدر علينا راتبا جيداً...
          - كنت أتمنى أن يتوفر لدي ما يساعدني على البداية، لكن والدي كما تعلم لا يملك إلا محل الحلويات المتواضع الذي يصرف علينا منه، وأنا لا أريد أن أرهقه بالمزيد من المصاريف.
          صمت عصام متفكراً ثم قال في حماس: لا عليك.. سنتعاون معا على تكاليف المرحلة الأولى من الاختصاص، إلى أن تتقاضي راتبك في المستشفى الذي ستمارس اختصاصك فيه.. حرام أن تئد طموحك من أجل عقبة مالية يمكننا إزالتها.
          - لا أريد أن أكون عالة على أحد.
          - قال عصام معاتباً بحده: سامحك الله يا عرفان.. من قال بأنك ستكون عالة؟.. تعاوننا وتكافلنا واجب لا فضل لأحدنا فيه أو منَّة، فالمسلمون كالجسد الواحد، وفي سبيل الأهداف الكبيرة تتلاشى هذه الاعتبارات التافهة الصغيرة.
          - همس عرفان وقد تأثر بكلام عصام أيما تأثر: اعذرني يا أخي، فالمشاكل والهموم ترهق الأعصاب وتضغط على المشاعر فتصبح مرهفة أكثر مما ينبغي.. أعدك بأني سأدرس عرضك هذا شاكراً ممتناً.
          - لست ممتناً لأحد.. أن نطور بلادنا وننهض بها واجب مقدس لا منَّة لأحد فيه، واختصاصك العلمي خطوة في هذا الاتجاه.. حسناً سأريحك من هذا الشعور.. اعتبر مساعدتنا لك ديناً تسدده للصندوق الوطني لمكافحة السرطان الذي أزمعنا على إقامته، أو تسدده لأي مشروع خيري آخر، متى شئت.
          - وصمت عرفان يفكر في عرض عصام وهو متأثر بكلماته الصادقة التي تقطر أخوة ونبلاً، بينما قال عصام بعد شرود ليس بالقصير: أتعلم بماذا أفكر؟..
          - ضحك عرفان وقال: من أين لي أن أعرف، فبالك مسرح لمشاغل العالم ومشاكله!
          - يؤرقني ما حدث لمنى...
          - ما الذي ذكرك بها الآن؟!.
          - - فكرت فيما رواه ((مجدي)) الليلة عن مأساتها مع صفوان فخطر ذكرها ببالي.. كلما تذكرت وجهها الباكي الحزين المهموم يوم التخرج يا عرفان شعرت نحوها بالإشفاق رغم كل ما بدر منها.. لكم يؤلمني منظر المقهور.. لشدّ ما تعذبني دموع المظلوم أيّاً كان...
          - هي التي ظلمت نفسها، فانطلقت وراء رغباتها وسلمت نفسها للشيطان.
          - إني أدرك هذا، لكني أعتبرها بالرغم من هذا ضحية.. ضحية للفقر الذي لسعها بسياط الحرمان.. ضحية للفساد الذي يسيطر على حياتنا.. ضحية للأفكار الغريبة التي لوثت العقول والضمائر.
          - لم يبق طالب في الكيلة إلا وعلم من صفوان وشلته بسرّ علاقتها معه.. لقد فضحها على الملأ!
          - هتف عصام في حنق: هذا الذي اسمه صفوان.. ألا يرعوي؟!.. يا له من متبجح وقح!!!
          - - لكم يحيرني سعد عندما يدعو له بالهداية.. إنه يقول لك بأن الإنسان مهما طغى وتجبر فإنه ينطوي على بذرة خير مهيأة للإنبات.. شاب مثل صفوان لا يمكن أن يحمل في قلبه ذرة خير واحدة!
          - سعد على حق يا عرفان، لكن الخطأ والانحراف يبقى مداناً محتقراً يدعو للثورة والاشمئزاز.. هذه سيارة تتجه نحونا، فلنستوقفها..
          - أشار عصام للسيارة فتوقفت أمامه، فتقدم منها: إلى حي الفردوس لو سمحت؟
          - تفضلا..
          - ودعا عصام عرفان للجلوس في المقعد الأمامي لكنه أبى وقال وهو يدلف إلى المقعد الخلفي: لا والله ... الأول على الكلية في الأمام.. تحتل المقدمة في الجامعة وترضيني بالمقدمة في السيارة، هذا شئ لن يكون...
          رضخ عصام لرغبته وهو يرمقه في عتاب باسم، ثم جلس إلى جوار السائق الذي انطلق بسيارته في هدوء أوحى لهما بقيادة متأنية أمينة.

          * * *

          كان السائق رجلاً كهلاً قد اشتعل رأسه شيباً فأضفى على ملامحه وقاراً مريحاً يجذب إليه من يراه، وبعد أن مضت بهم السيارة تطوي المسافات سأل ونظراته ثابتة إلى الأمام ترقب الطريق في حذر تحسباً لكل طارئ:
          - الشباب طلبة.. أليس كذلك؟
          - أجابه عصام بعد أن تبادل نظرة مع عرفان: منذ أيام فقط كنا طلبة..
          - تخرجتم من الجامعة إذن.
          - صدقت..
          - مبروك، ومن أي فرع؟
          - من كلية الطب
          - ما شاء الله.. أنتما إذاً طبيبان.. تشرفت بمعرفتكما.
          - زادك الله شرفاً.
          - وأردف عرفان: وهذا الدكتور الذي يجلس بجانبك هو الأول على كلية الطب.
          - قال السائق يخاطب عصاماً: وفقك الله يا بني.. لم نتعرف على الإسم الكريم؟
          - عصام السعيد.
          - تشرفنا.
          - هتف عرفان وهو يلوح بيده متصنعا الاحتجاج: ما شاء الله ((الدنيا دائماً مع الواقف)).. الناس لا يهتمون إلا بالأوائل والعظماء. أما المغمورون.. أما المساكين، فلا يسأل عنهم أحد.
          ثم وهو يميل إلى الأمام مخاطباً السائق: وأنا يا عمّ؟.. أنا؟.. ألا تريد معرفة إسمي الكريم؟!
          - هتف السائق معتذراً:- طبعاً، طبعاً.. يسرني أن أتعرف بالاسم الكريم...
          - قال عرفان وهو يزهو في دعابة ومزاح: الدكتور عرفان.. ((عرفان النابلسي)).. كان والد جدي من نابلس، وعندما هاجر منها حمله معه صناعة ((الكنافة النابلسية)) فورثناها كابرا عن كابر، لكني تنكرت لهذا التراث وتخرجت طبيباً، وقد أعود إليه إذا ما أصيب سوق الطب بالركود.

          ضحك الجميع في مرح ثم ما لبث السائق أن قال وهو يرسل تنهيدة عميقة بعثتها ذكريات الماضي: إيه.. ما أعجب الأيام.. لقد كان حلم والدي رحمه الله أن أصبح طبيباً، لكن المنية سرعان ما خطفته منا وأنا في السابعة عشر من عمري، ولم يكن لأسرتنا من يعيلها فتركت المدرسة ورحت أعمل، لأصرف على أخوتي وأمي وجدتي.. إيه... الحمدلله... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، لكن ربك لا ينسى أحداً، لقد أنعم علينا وفضل...
          مست كلمات السائق الوتر الحزين في قلب عصام فاهتز ليبعث في نفسه الشجن، وطافت بخياله ذكرى أبيه الراحل فشعر بوخزها الأليم وراح يناجيه في صمت وشرود: ((إيه.. أين أنت يا والدي لترى ابنك الآن، وقد صار طبيباً كما كنت تحلم وتتمنى.. لكم يحزنني أن أحرم من ابتسامة الفرح والفخر والاعتزاز وهي تشرق من وجهك الطيب فتملأني ثقة وعزيمة وتمدني بأروع الزاد وأثراه في رحلة الحياة، لكني أعدك يا أبت أن أرقى في سلم المجد بهمة وإصرار.. سوف أطير إلى قمته السامقة البعيدة لأحط عليها كنسر عنيد... يرفعني إليها جناحان حانيان.. أمي العظيمة وزوجتي الحبيبة.. آه.. لو أنك رأيتها يا أبت لتمنيت أن تضعها في قلبك، لكن.. أين أنت؟.. غيابك الأبدي يؤلمني ويشوه أفراحي ويوشح خطواتي بالحزن والأسى.. لقد حققت حتى الآن الكثير، والدروب أمامي ممهدة لتحقيق المزيد، لكن ذلك كله لم يمسح من نفسي كآبتها المزمنة، لكأن الحزن فيها قد استوطن وأبى الرحيل..

          - قال السائق وقد أحب أن يصل ما انقطع من الحديث : الأطباء في مجتمعنا طبقة مرموقة اجتماعياً ومادياً.. تفرض احترامها أينما ذهبت وتلعب بالمال...
          - قال عرفان: هذا الكلام كان على أيامكم يا عم، أما اليوم، فيا حسرتي علينا... أخشى أن نتحول من طبقة مرموقة إلى طبقة مسحوقة!.
          - قال السائق وهو ينعطف إلى اليمين: لا تتشاءم يا بني، لقد أنعم الله عليك بمهنة عظيمة، سوف تسعدك وتسعد الناس الذين سيشفيهم الله على يديك.
          - قال عصام وقد خرج من شروده الحزين لينخرط في الحديث: حقاً إن السعادة التي يجدها الطبيب وهو ينقذ الناس من براثن المرض والألم لا تقاس بمال الدنيا.
          - قال السائق بنبرات تفيض بالاحترام : ما شاء الله.. ما أحلى أن يكون أطباؤنا جميعاً بهذا الشعور، لكن بعضهم يتحول بكل أسف إلى تجار.. يتاجرون بأمراض الناس وآلامهم!. لكم يسرني أن أتعرف بكما..
          - قال عصام وهو يتناول من جيبه بطاقة أنيقة تحمل اسمه وعنوانه: بارك الله فيك يا عم.. هذا عنواني، فاحتفظ به، فإن احتجت لأي خدمة فأنا..
          ولم يكد يكمل حتى صرخ عرفان هاتفاً في ذعر شديد: انتبه.. إلى اليمين.. هناك سيارة.. آه........

          كان القدر أسرع من الكلمات، وفي لحظات قليلة وقعت الكارثة، وأريقت الدماء البريئة لتسطر مأساة جديدة من مآسي السرعة الملعونة والطيش المجنون.
          سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم
          -----------
          أعمالي في التصوير
          Longines

          Teppo & Tappo
          -----------

          إعملي فولو على
          instagram هنا
          -----------

          ألا أدلك على كلمة تقولها بدقيقة واحدة فقط تحصل بها على اكثر من حسنة مائة مليار حسنة بل أكثر والله يضاعف لمن يشاء فقد قال ارسول صلى الله عليه وسلم في حديثه ( من قال أستغفر الله العظيم التواب الرحيم لذنبي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إلى يوم الدين كتب له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة )

          تعليق


          • #20
            الفصل التاسع عشر

            وضع سعد فنجان القهوة من يده، ثم تناول الجريدة وراح يتصفح عناوينها شأنه كل صباح.. قرأ عناوين الصفحة الأولى، فلم يجد خبراً يستحق الاهتمام فتحول عنها إلى الصفحة الأخيرة حيث يحلو له أن يتأمل كل يوم الصورة ((الكاريكاتيرية)) التي تتصدرها دائماً... وبعد أن انتهى سعد من الصفحة الأخيرة، أخذ يقلب صفحات الجريدة، وما إن وصل إلى صفحة الحوادث حتى لفتت نظره صورة لحادث مروع وقد كتب فوقها عنوان كبير يقول: ((الطيش والغرور كانا وراء هذه المأساة((.
            وشدَّه الحادث فراح يتأمل الصورة في أسف وقد ظهر فيها منظر لسيارة مقلوبة كان من الواضح أنها انقلبت بعد أن اصطدمت بالجانب الأيمن لسيارة أجرة بدا بابها الأمامي الأيمن وقد انسحق بشدة، وكأن مقدمة السيارة الصادمة قد اخترقته بزاويتها الأمامية اليسرى فعجنته عجناً، وهمس سعد بلا شعور:
            - لا بد أن كارثة قد وقعت!..
            واستحوذ الحادث المروع على اهتمامه، فراح يقرأ في إشفاق... في ساعة متأخرة من ليلة أمس وقع حادث مروع على طريق ((السلام)) حيث صدمت سيارة مسرعة من نوع ((داتسون)) سيارة أجرة من نوع ((تويوتا)) وذلك عندما خرجت الأولى فجأة من شارع فرعي بسرعة هائلة لترتطم بسيارة الأجرة التي كانت تمضي على الشارع الرئيسي بانتظام، وقد كانت المحصلة مقتل سائق ((الداتسون)) على الفور نتيجة لانقلاب السيارة بعد الاصطدام، وهو شاب صغير لا يتجاوز العشرين من العمر، بينما أصيبت الفتاة التي كانت تجلس بجانبه بجراح خطيرة، أما ركاب ((التكسي)) وعددهم ثلاثة بما فيهم السائق فقد أصيبوا بجراح مختلفة كان أخطرهم الراكب الذي يجلس بجانب السائق حيث تلقى الجزء الأكبر من الصدمة وقد علمت الجريدة من مصادر موثوقة أن الراكب الذي يجلس في الأمام طبيب شاب تخرج هذا العام وأنه قد حاز على أعلى معدل درجات في تاريخ كلية الطب، كما علمت أن الراكب الثاني طبيب أيضاً.
            إن الجريدة تهيب بالمواطنين الكرام أن يلتزموا بقواعد المرور وأن يتجنبوا السرعة العالية التي ..
            ولم يعد سعد يتبين الكلمات، فقد انفجرت الدموع من عينيه وتسمرت نظراته الهلعة المذعورة فوق السطور الدامية الحمراء وهتف في ذهول وهو يضرب جبهته في ذعر وجزع:
            - عصام وعرفان.. عصام.. آه، يا للكارثة.. إنه عصام.. ومن غيره الأول على كلية الطب؟.. والوقت.. لقد وقع لهما الحادث بعد أن خرجا من عندي.. آه.. يا للمأساة.. وألقى الجريدة من يده، وهرع إلى الهاتف كالملسوع، فرفع السماعة بيد مرتعشة وقلب واجف، وأخذ يدير القرص في اضطراب وإصبعه لا تكاد تجد طريقها إلى الأرقام المطلوبة، وبينما هو كذلك، مرت به أمه وهي تمضي لبعض شأنها فرأته على هذه الصورة من الهلع والاضطراب فسألته في ريبة: سعد.. لماذا أنت مضطرب هكذا؟.. والدموع؟!.. ما الذي يبكيك يا بني؟.. أخبرني بالذي جرى أرجوك؟...
            - أجابها سعد بصوت متهدج ونبرات مرتعدة: لقد وقعت كارثة.. كارثة يا أماه...
            - سألته وهي تتهالك على كرسي قريب بأعصاب مهدودة خائرة: عن أي كارثة تتحدث؟.. هل حدث لأبيك مكروه؟..
            - عصام يا أماه... عصام وعرفان... لقد أصيبا في حادث سيارة.. عصام في خطر يا أماه.
            - ماذا؟.. كان الله في عون أمه.. الله يصبرها. وبمن تتصل؟!..
            - اتصلت ببيت الدكتور إياد ولا أحد يرد.. سأتصل بالعيادة علني أجد من يجيب...
            - وراح يدير القرص من جديد، بينما راحت أمه تذرف الدموع في صمت حزين. وردت الممرضة على سعد فصاح في عصبية واضطراب: آلو.. آلو.. الدكتور إياد هنا؟
            - الدكتور إياد مشغول اليوم ولا سبيل إلى..
            - أعرف بالذي حدث.. فقد أخبريني إلى أي مستشفى نُقل عصام؟
            - إلى المستشفى الوطني..
            - وألقى سعد السماعة في ضيق، وأراد أن يمضي لكنه فكر أن يتصل بمجدي، فعاد واتصل به، وما أن رد عليه حتى قال بدون مقدمات: عصام في خطر يا مجدي.. إنه في المستشفى الوطني.. سنلتقي هناك.. أخبر بقية الأًصدقاء فقد نستطيع أن نفعل شيئاً.. ثم ألقى السماعة تاركاً مجدي فريسة لهول المفاجأة وصدمتها.

            * * *

            أوقف سعد سائق السيارة التي أقلته إلى المستشفى، ورمى له بورقة نقدية كبيرة ومضى دون أن يسترجع منه البقية، وهرع مسرعاً إلى قسم الطوارئ يبحث عمن يخبره الخبر اليقين، وما إن وصل حتى صدمته الوجوه الباكية المغتمة واخترق سمعه صوت حزين واه فالتفت إليه في إشفاق وهو يشعر بالكآبة تشيع في صدره وتضغط على أنفاسه وما إن وقع بصره على صاحب الصورة حتى خفق قلبه بعنف وأحس فيه توجعاً يقرض شغافه الملتهبة وانبثقت الدموع من عينيه.

            لقد رأى الأم المسكينة وقد هدتها المأساة ولوعها المصاب فراحت تبكي في حرقة وصمت وتدعو الله في ضراعة لو مست الصخر الأصم لصدعته، وتتوسل إليه من بين الدموع في نبرات كبيرة حزينة مبحوحة: " يا رب.. لقد وضعته عندك أمانة.. يا رب.. لقد سلمته لك فأعده لي سالماً.. رباه.. هو أملي ورجائي.. هو روحي وعمري.. يا لطيف.. يا قادر.. أنقذه بقدرتك، قد كان مؤمنا عابداً.. اللهم لا اعتراض على قدرك.. دائما تبتلي المؤمنين.. سبحانك لا اعتراض على حكمتك، لكني أتوسل إليك يا رب أن تنقذ لي وحيدي.. يا كريم.." .

            ولم يعد سعد يطيق الانتظار، فأشاح بوجهه الحزين عن الأم المحطمة وهو يشعر بالاختناق، وأخذ يبحث عمن يزوده بآخر الأخبار، ولمح طبيباً يعرفه فهرع إليه في سرعة ولهفة: دكتور أحمد.. لحظة أرجوك...
            - أهلا دكتور سعد...
            - عصام.. ما هي أخبار عصام؟.. طمئنِّي أرجوك؟
            - قال الدكتور أحمد وهو يتنهد في أسف: عصام يصارع الموت، والأمل ضعيف..
            - ما إصابته بالضبط؟
            - أخطر ما في إصابته الكسر الذي أصاب قاع الجمجمة.. هناك كسر في كتفه الأيمن، وكسر في يده اليمنى ورضوض مختلفة.. هذا غير النزيف.. إنه كتلة من الأشلاء.
            - هتف سعد وهو يضرب وجهه بكلتا يديه: يا للكارثة.. لا بد من معجزة لإنقاذه.. واأسفاه...
            - قال الدكتور أحمد وهو يحملق في حزن: في غرفة العمليات تحتدم الآن معركة ضارية بين الموت والحياة...
            - ألا أستطيع أن أدخل لأساهم بشيء؟
            - ماذا ستفعل أمام أساطين الطب والجراحة الذين اجتمعوا لإنقاذه؟
            - يجب أن أفعل شيئاً.. أيّ شيء...
            - كلنا نتمنى أن نقدم شيئاً، ولكن...
            - ومن هم الأطباء الذين يشرفون عليه في الداخل؟
            - هناك الدكتور جهاد مدير المستشفى وكبير الأطباء.. وهناك الدكتور إياد طبعاً..
            - المسكين.. كان يتعهده كابنه..
            - هناك أيضاً الدكتور عدنان والدكتور فايز إنه فريق ممتاز كما ترى، ويحوي كل الاختصاصات اللازمة.. هناك الدكتورة سامية أيضاً.. لقد أصرَّت على الدخول.. المسكينة.. لكم آلمني منظرها الحزين.
            - وأمه؟.. كيف تلقت النبأ؟..
            - أجابه الدكتور أحمد في شرود حزين: لا أدري كيف تلقت النبأ، لكني رأيتها عندما أحضروها إلى هنا.. كان منظرها الكئيب يمزق القلب ويفتت الفؤاد... كانت منهارة تماماً وكانت تهذي كالمجنونة.. هل تصدق؟.. لقد أصبحت أتمنى أن أموت قبل أمي وأبي من هو المنظر الذي رأيتها فيه ليلة أمس، ألم ترها الآن؟...
            - أجل رأيتها.. مسكينة.. لقد كان الأمل الوحيد الباسم في حياتها.
            - ثم هتف سعد وقد تذكر: وعرفان؟.. لم أسألك عن عرفان؟.. أرجو أن تكون إصابته خفيفة.
            - إنها أخف بكثير من إصابة عصام، فقد كان جالساً في الخلف ولم يصب إلا ببعض الرضوض في رأسه وصدره.. يمكنك أن تراه.. إنه في الغرفة رقم سبعة.
            - هلم بنا إليه... أريد أن أعرف تفاصيل ما حدث.

            * * *


            مضى سعد مع الدكتور أحمد إلى غرفة عرفان، والحزن يلون قسماته، والأسى يثقل خطواته، والهم لوح في نظراته، فالمصاب في عصام أليم، وهو من الذي يشعرون أكثر من غيرهم بعمقه وإيلامه، فقد عرف عصاماً عن قرب، وسبر أغوار شخصيته الفريدة، وأحبه من الأعماق، فكان أعزَّ أصدقائه وأغلاهم وأقربهم إلى نفسه وفي الممر صادق سعد بقية الأصدقاء وقد حضروا ليستطلعوا جلية الأمر، وما إن رأوه حتى هرعوا إليه في ذعر ولهفة، فاستقبلهم بعينين دامعتين بعثت عبراتهما الذكريات القريبة الحبيبة، وسأله بهاء في توسل: أخبرنا يا سعد.. ما هي أخبار عصام؟.. ما الذي حدث بربك؟

            أجابه سعد وهو يغمض عينيه في ضيق وألم: كسر في قاع الجمجمة يا بهاء، وكسور أخرى، ونزيف لا ندري كم استمر...
            صاح مجدي وهو يضرب جبهته في التياع: هذه كارثة... أين وقع هذا؟ متى؟، وأين؟.
            - ليلة أمس... بعد أن خرج من عندي.
            - همس عثمان وهو يلوح بيد مرتجفة: أيحدث هذه بهذه السرعة.. بالأمس كنا معاُ .. أكلنا وضحكنا وتحدثنا.
            - ثم وقد طفرت الدموع من عينيه: المسكين... لكم حدثنا عن طموحاته وأحلامه!!.
            - قال الدكتور أحمد وهو يحاول إخراجهم من هذا الجو الكئيب: هدئوا من روعكم أيها الزملاء... هلموا إلى الدكتور عرفان فهو أفضل من يروي لنا القصة.
            - هتف مجدي : هل أصيب عرفان أيضاً؟.. أيحدث هذا بين عشية وضحاها؟
            - قال الدكتور أحمد مهدئاً: لا تقلقوا إنه بخير.. تفضلوا معي..

            * * *

            وصل الأصدقاء إلى غرفة عرفان فوجدوه ممدداً على سريره وقد أحاطت بوجهه هالة كثيفة من الشاش الأبيض، وما إن رآهم قادمين حتى اغرورقت عيناه، ففجرت دموعه مراجل الحزن المكتوم في صدورهم فأجهشوا بالبكاء والنحيب...
            قال الدكتور أحمد محاولاً تبديد حزنهم اللاهب: تماسكوا يا شباب... أنتم أطباء، ولا يصح أن تبدوا أمام الناس هكذا...

            ثم سأل عرفان: هل ذهب أهلك؟.. لقد شاهدتهم هنا منذ قليل!
            أجابه عرفان بصوت واهن خنقته العبرات: لقد طلبت من أن يقفوا إلى جانب أم عصام، فـ.. فذهبوا إليها بعد أن اطمأنوا على حالتي..
            ثم وهو يجهش بالبكاء من جديد: عصام يصارع الموت يا سعد.. إنه يصارع الموت..

            تقدم سعد من عرفان في هدوء وقال وهو يمسك بيده مواسيا: ليكن أملنا في الله كبيراً، ولنتذرع بالصبر.. كيف تجد نفسك الآن؟

            أجاب بنبرات لاهثة حزين، والدموع تنساب من وجنتيه اللتين خدشتهما الجروح الصغيرة: ما يهمني هو عصام.. عصام يا سعد.. إنني أخشى.. آه.. لا أستطيع تصور ما حدث.. في لمحة بصر حدثت الكارثة.. كان عصام أخطرنا.. لقد تحول إلى أشلاء..

            قال بهاء وهو يغالب دموعه: كن واثقاً بالله، لندع له جميعاً...
            تابع عرفان في ألم: أنتم لم تروا ما حدث.. كنّا.. كنّا نسير في هدوء... نتحادث مع السائق.. كان المسكين يحدثنا عن مشاكله وهمومه.. ينصحنا بأن نكون أطباء صالحين.. كان عصام يصغي إليه باحترام.. ثم أراد أن يقدم له عنوانه ليساعده.. وما.. وما كاد يخرج البطاقة من جيبه حتى حدثت الكارثة.وصمت قليلاً ريثما ارتاح، ثم تابع وسعد يجفف له دموعه:
            - كنا نسير في شارع ((السلام)).. بالقرب من المتحف.. وفجأة.. خرجت سيارة مسرعة من شارع فرعي على يميننا.. كانت تنهب الأرض بسرعة جنونية.. وتتلوى في مشيتها كحية رقطاء.. وما إن رأيتها حتى صرخت فزعاً مذعوراً وبأعلى صوتي.. لأحذر السائق كي يتفاداها.. لكن.. لكن قضاء الله كان أسرع...
            - ثم أردف بعد أن ازدرد ريقه: لقد صدمتنا السيارة المسرعة من الجانب الأيمن... حيث كان يجلس عصام... فاهتزت بنا السيارة هزة عنيفة.. ارتطم رأسي على إثرها بزجاج النافذة، فأغمي علي ولم.. ولم أغف إلا هنا.
            - الحمدلله على السلامة...
            - قال الدكتور أحمد: لقد قتل سائق السيارة التي صدمتهم على الفور، وقد علمت من المحقق أن رعونته وسرعته الطائشة اللامسؤولة هي التي سببت الحادث، كما أن صديقته قد أصيبت بكسور مختلفة أخطرها الذي أصاب العمود الفقري فأودى بها إلى الشلل...
            - علق عرفان محتداً حانقاً: كان يتباهى بنفسه أمامها.. يريد أن يثبت لها أنه رجل. وهي هي الحصيلة.. والسائق؟.. كيف حاله الآن؟
            - لقد أصيب بكسور مختلفة.. المسكين..
            - هتف سعد بلهجة غاضبة وهو يلوح بقبضته في الهواء: يا للمأساة!!.. الانحراف والضياع والعبث يعصف دائماً بكل ما ينجزه العقلاء والمخلصون.. التربية الفاشلة الفاسدة تكمن دائماً وراء تخلفنا وانحطاطنا. عصام.. الطاقة النادرة في بلادنا.. الشاب الذكي الطموح الذي كان يحترق كشمعة ليصنع لأمته شيئا يفيدها ويطورها، يذهب ضحية للطيش والرعونة والجنون!!!...
            - ثم وهو يهوي بقبضته على الجدار في أسف عميق: إن عاش عصام، فسوف يعيش مشلولاً مقعداً.. مكبلاً بعجزه وآلامه وأحزانه.
            - ثم هتف بصوت متهدج يفيض بالانفعال: نحن لا تنقصنا التكنولوجيا المتطورة والخبرات الماهرة، بقدر ما تنقصنا التربية ويعوزنا الضمير...
            - ثم همس عد أن مال إلى الهدوء: اعذروني يا شباب، فالمأساة فضيعة كما ترون، والمصاب في عصام رهيب أليم.
            - قال عثمان وهو يتحسس صدغيه من شدة الصداع: لا أكاد أصدق ما حدث..
            - وأردف مجدي: يا له من كابوس رهيب...
            - بينما قال سعد وهو يتجه إلى جهاز الهاتف: يجب أن نعرف آخر أخبار عصام... سأطلب غرفة العمليات..
            - وبعد أن تم الاتصال قال سعد للمرضة التي ردت عليه: أريد الدكتور إياد من فضلك...
            - انتظر لحظة لأرى فيما إذا كان يستطيع التحدث معك ومضت لحضات قصيرة ريثما رد الدكتور إياد: آلو، نعم.. الدكتور إياد يتحدث...
            - قال سعد بصوت متهدج بعد أن اخترقت سمعه نبرات الدكتور إياد نابضة بالحزن والأسى: دكتور أنا سعد.. نريد أن نطمئن على عصام.. أرجوك أن تصارحنا فنحن أطباء ونقدِّر الموقف.
            - هيجت نبرات سعد المرتعشة الحزينة آلام الدكتور إياد وألهبت جراحه فاجتاحته موجة من الانفعال وكان أن يبكي، لكنه تمالك نفسه وقال بعد صمت أثار المخاوف في نفس سعد لا أكتمك يا بني.. الموقف عصيب جداً.. أنت طبيب وتعرف ماذا يعني كسر في قاع الجمجمة.. لقد فعلنا ما في وسعنا والباقي بيد الله...
            - قال سعد وهو يبكي في لوعة وصمت: دكتور نحن على استعداد لعمل أي شئ... نردي أن نفعل شيئاً.. أي شيء...
            - إني أقدر مشاعركم يا بني.. لست أنت أول من يطلب هذا.. الكل يعرض المساعدة، فقد كان محبوبا من الجميع... من أين تتحدث؟
            - من غرفة عرفان...
            - وكيف هو الآن؟..
            - ونما إلى سمع سعد صوت إحدى الممرضات وهي تنادي في ذعر: دكتور إياد... إنهم يريدونك في الداخل...
            - فألقى السماعة من يده، وهرع ليعرف ماذا حدث؟
            سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم
            -----------
            أعمالي في التصوير
            Longines

            Teppo & Tappo
            -----------

            إعملي فولو على
            instagram هنا
            -----------

            ألا أدلك على كلمة تقولها بدقيقة واحدة فقط تحصل بها على اكثر من حسنة مائة مليار حسنة بل أكثر والله يضاعف لمن يشاء فقد قال ارسول صلى الله عليه وسلم في حديثه ( من قال أستغفر الله العظيم التواب الرحيم لذنبي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إلى يوم الدين كتب له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة )

            تعليق


            • #21
              الفصل العشرون


              في تمام الساعة العاشرة والدقيقة الثالثة والخمسين من صباح ذلك اليوم المشؤوم فرغت كنانة الأمل، وحانت لحظة رهيبة من لحظات القدر القاسية العصيبة، فجاءت مترعة بالألم، مفعمة بالأسى، مثقلة بالدموع... فطوت بمرورها حياة واحد من سكان هذه الأرض لينضم إلى قافلة الفناء... حدث ذلك عندما هوى الموت بقبضته على عصام، فخفق قلبه الخفقة الأخيرة وأسلم الروح... وقبيل الرحيل بلحظات فتح عصام عينيه الذابلتين وقد جاشت في صدره حشرجة متصاعدة وغمغم بنبرات واهنة متقطِّعة وهو يحملق بالمجهول: ((ما.. ما)). ((ما.. ما)). ((ما.. ما ((فهرعت إليه سامية ومن ورائها الجميع وحضنت رأسه بين ذراعيها في حنو وإشفاق، فتعلقت بها نظراته الكليلة المرهقة ولاحت على شفتيه شبه ابتسامة سرعان ما خبت، فانطفأت بأفولها شعلة الحياة اللاهبة العظيمة التي كانت تتوقد متلألئة في أعماقه تسطع وتتألق وتضيء... وأسبل جفنيه في هدوء، فكانا هما الدفة الأخيرة لكتاب عمره الحافل الذي يروي قصة طموح واعد لم تكتمل ورحلة مجد انتهت عند السفوح، وفاضت الروح فأفلتت من بين أمهر الأيادي لأساطين الطب والجراحة وتسللت من بين أحدث الأجهزة العلمية والطبية متحدية عجز الإنسان وضعفه أمام قدر الله، وانطلقت إلى بارئها متخففة من كل الجواذب والأماني والأحلام، يحدوها الشوق إلى الحبيب الأعظم الذي برأها أول مرة وقد أدت الأمانة وفارقت الدنيا على قيم الحق والإيمان والعطاء.
              وندت عن سامية صرخة هائلة، حمَّلتها كل حزنها وألمها المكبوت، وأكبَّت على وجهه المهشم تعانقه في حب ولوعة، وترويه بالقبلات والدموع، وراحت تصرخ وتنادي في صوت هادر مجنون : عصام.. عصام.. لا تذهب أرجوك.. لن تفارقني بهذه السرعة.. عصام.. هل تسمعني؟.. أنا سامية يا عصام.. سامية التي تحبك.. زوجتك التي نسجت معها الأحلام.. لا تفارقني أرجوك.. لا تتركني وحدي فالحياة من بعدك سراب.. سراب.. سراب...ثم أجهشت في بكاء شديد...
              ومال الدكتور إياد على ابنته المحطمة في حزن، فشدها إليه، لكنها تشبثت بزوجها الراحل وكأنها تمسكه خشية أن يهرب، بيد أن أباها قاوم ضعفه وانهياره وجذبها إليه جذبة قوية فضمها إلى صدره في ألم، وقال بصوت دامع حزين: (( إنا لله وإنا إليه راجعون)).. تماسكي واهدأي يا ابنتي، فهذا قدر الله ولا راد لأمره. وتعالى بكاؤها ونحيبها، فأردف الدكتور إياد وهو يربت على ظهرها مهدئاً ومواسيا: تماسكي أرجوك.. من أجل أمه على الأقل.. يجب أن نقف إلى جانبها في هذا اليوم العصيب.. اللهم اجعلنا من الصابرين... يا رب.

              وتقدم الدكتور جهاد من جثة عصام، فسحب الغطاء الأبيض وأسدله على وجهه في هدوء حزين، ثم أمر بنقله إلى غرفة الوفيات وقال وهو يجول بنظراته الكئيبة بين وجوه الأطباء التي امتزج الحزن والأسف فيها بالتعب والإرهاق الشديد : من سينقل النبأ لأمه؟


              أجابه الدكتور إياد وملامحه الكئيبة تحتقن بالحسرة والألم:- ومن غيرك يا جهاد؟.. أنت مدير المستشفى وكبير الأطباء...

              تنهد الدكتور جهاد وهو يغمض عينيه في أسى ثم قال: أخشى أني لا أستطيع.. أقولها لأول مرة منذ أمد بعيد.. لقد مرَّ عليَّ في هذا المستشفى عشرون عاماً أو تزيد، رأيت فيها الكثير من الكوارث والمآسي، فلم أتأثر بها كما تأثرت بهذه المأساة، ورأيت الكثير من الأمهات وهنَّ يبكين أولادهن، لكن منظر أمه المسكينة كسر قشرة الاعتياد التي غلفت قلبي عبر السنين لتخلف في فؤادي جرحاً غائراً لن أنساه!!...

              همس الدكتور إياد وقد علا نحيب سامية:- دكتور أرجوك أن تتصرف... يكفيني مصابي...
              أرسل الدكتور جهاد تنهيدة خائرة، ثم قال في رضوخ: حسناً.. كما تريد...
              قال الدكتور علي: لكنها ستطلب رؤيته.. إني أخشى عليها من الانهيار...
              علق الدكتور عدنان قائلاً: رؤيتها له أمر لا مفر منه، وهو أدعى لتفريغ شحنات الحزن والأسى التي ترهق أعصابها.
              قال الدكتور جهاد وهو يمضي مطرقاً حزيناً: لنستعد لكل الاحتمالات، والله معنا.

              * * *



              اكتظت قاعة الانتظار في قسم الطوارئ بالكثيرين ممن هزَّهم المصاب وآلمهم، فهرعوا إلى المستشفى في ذعر وذهول ليكونوا قرب الإنسان الذي أحبوه واحترموه وأعجبوا به، وليقفوا بجانبه في محنته الدامية الرهيبة.. حتى صفوان.. صفوان الذي عرف بحقده على عصام وكرهه له وهزئه بأفكاره ونبوغه وطموحه.. صفوان الذي لا يفكر إلاّ في نفسه وملذاته ورغباته... حتى صفوان اهتز للمأساة وتأثر بها بعد أن علم بها من أحد أفراد شلته الذي أيقضه من نومه ليسأله بالهاتف قائلاً: هل قرأت جريدة الصباح؟...

              فأجابه منزعجاً غاضباً: ما هذا السؤال التافه عند الصباح ؟.. أنت تعرف أني لا أحب قراءة الصحف والمجلات...
              - إذن اقرأها اليوم وادعُ لي...
              - ماذا تقصد؟.. ماذا حدث؟!
              - صاحبك عصام...
              - ما شأنه؟... لعلك ستقول لي أنه نال مكافأة أو هدية أو وساما... سألعن صباحك إن كنت أيقظتني لتقول لي هذا.

              ضحك صاحبه وقال ساخراً: أي مكافأة؟ وأي وسام؟.. عصام انتهى يا روحي.. إنه في المستشفى يحتضر...
              وصدمه الخبر بقوة، وهزَّه بعنف، فوجم في ذهول، وعبس في تفكر، وسأله في شك وهو لا يكاد يصدق: ماذا تقول؟.. عصام يحتضر؟.. لعلك تمزح؟!..
              - أبداً.. لقد أصيب ليلة أمس في حادث سير مروع والأمل في حياته ضعيف جداً... هكذا أخبرتين ((رندا)).. ((رندا)) صديقتي الممرضة في المستشفى الوطني.. إنه يعالج هناك وهو في حالة ميؤوس منها.

              ودك الخبر المثير قلاع القسوة والحقد والطغيان التي كانت تقوم في قلب صفوان، فتهاوت وتداعت في لحضات، وأحس في غمرة الصدمة بشيء سامٍ نبيل يتحرَّك في أعماقه السحيقة ويخرج من بين أنقاض التكبر والغطرسة والغرور، وينفض عنه ركام الفساد والخبث والانحراف، ويتسلَّق شرايينه بالرغم مما يعكرها من كراهية وأنانية وسوء، ثم يمضي إلى ضميره الغافي فيوقضه بعد طول سبات وينبهه من تخدير العبث واللهو واللامبالاة...

              وأفاق الضمير النائم في ذعر، وانتفض في ثورة، وراح يدق أبواب عقله المسجون وراء أسوار اللذة والرغبة والهوى بإلحاح، ويسأله عن لغز الوجود وأسرار الحياة، ويذكره بضعف الإنسان وعجزه أمام الموت المتربِّص القريب، وهمس وهو يضع السماعة في شرود:
              - عصام يحتضر؟.. يحتضر؟!!.. من يصدق؟!.. كنت أحسبه أسطورة!.. كنت أتصوره إنساناً خلق للنجاح!.. لم يخطر ببالي يوماً أن يكون الثاني على الكلية فكيف؟!.. أتنطفئ حياة شاب كهذا بهذه السرعة والسهولة.. لا أصدق.. هل هذه هي الحياة؟!!...
              وأغمض صفوان عينيه في إشفاق من النهاية المرتقبة في كل حين وتساءل في نفسه عن قيمة الحياة وفائدتها إذا كانت ستؤول إلى الفناء... الفناء؟!!
              لكأنه يتذكر لأول مرة أن الفناء هو النهاية الحتمية لكل حيّ على هذه الأرض!!، وتذكر صفوان موقف عصام عندما أتلف له دفتر محاضراته، وكيف واجه إساءته بالحلم والتسامح، فأشرق هذا الموقف في نفسه، وأينعت بذوره الطيبة...
              وأصغى لضميره المنتفض الثائر وهو يلحّ عليه بحماس لأن يزرع نبتة خضراء في صحراء حياته المقفرة.. لأن يخطّ سطراً مضيئا في صفحة حياته القاتمة السوداء... لأن يضئ شمعة في ظلام عمره الحالك المدلهم بالخطايا والآثام... فتناول ملابسه كيفما اتفق وهرع إلى المستشفى ليرقب أحداث هذه المأساة الفظيعة التي قلبت كيانه من الداخل...

              واندلعت المخاوف في قلوب المنتظرين وهم يشعرون بالدقائق تزحف بطيئة رهيبة ثقيلة، وبسهام الأمل وهي تتكسَّر على صخرة اليأس والانتظار، وكلما انكسر سهم الأمل أو طاش تجرأ هاجس الموت فأبرز مخلباً من مخالبه الوحشية الحادة وانقضَّ على الأعصاب الخائفة المرتعدة ليعريها من كل صبر ويتركها فريسة للقلق المؤلم الممض تئن وتتلوى، وفجأة... تلقفت بعض الأسماع صرخة سامية فأيقنت بالكارثة، وخفقت قلوب أصحابها بشدة، واتجهت أنظارهم الكئيبة الذاهلة إلى الأم المسكينة في إِشفاق بالغ، إلا أن حركتهم هذه أثارت الشكوك في نفسها، فاشرأبت بعنقها نحو الباب في خوف وهلع، وأخذت ترقب الموقف بذعر شديد...

              وخرج الدكتور جهاد من غرفة العمليات مطرق الرأس، واجم الوجه، ساهم النظرات لا يكاد يدري ماذا يقول... فحاصرته النظرات القلقة المتوجسة بينما هرعت إليه الأم هلعة مذعورة وقد تحركت في أعماقها غريزة تتنبأ بالفاجعة، وهتفت من بين الدموع في لهفة وتوسل وانكسار:-
              - دكتور.. طمنِّي.. كيف حاله الآن؟.. أخبرني أرجوك.. أتوسل إليك.. أقبّل رجليك.. قل لي كلمة واحدة تريحني.. قل إنه سيعيش.. أرجوك..

              حاول الدكتور جهاد أن يتكلم، لكن إرادته خانته فألجم الحزن والإشفاق لسانه، ووقف حائراً جامداً مكانه كتمثال، وقد لازمه الإطراق الحزين فأخفى وراءه دموعه الصامتة الغزيرة مما زاد في ذعر الأم وهلعها، فسألته وهي تعزه بعنف وقد طار صوابها: ماذا جرى؟.. هل؟!.. هل؟!..
              وأراد الدكتور جهاد أن يدلي بالحقيقة المرة، لكن نظراته الدامعة الكئيبة كانت أسرع إلى إعلانها، وقال بصوت متهدج ونرات تقطر حسرة وحزناً: تذرعي بالصبر يا أختاه.. إنا لله وإنا إليه راجعون...

              وانفجر في أعماق الأم بركان هائل من الألم فقذف بحمم اللوعة والحسرة والأسى في أغوارها المظلمة، فأحرقت كل معاني الحياة، وانساحت إلى قلبها المفطور فأحالته إلى جمرة ملتهبة من الحزن.. وأرسلت صرخة محمومة تتلظّى بالحرقة والالتياع وكأنها زفير النار التي استعرت في داخلها، فصرخت بنبرات وجعة متفجعة وهي تضغط على صدغيها بيدين متشنجتين: عصام... ثم ولولت واندفعت تريد أن تقتحم الباب وهي تصرخ في صوت يتوهج بالحزن واللوعة والألم: ابني.. حبيبي.. أروني إياه، أريد أن أراه.. لا تقولوا إنه مات.. إن مات فسألحق به.. فلا طعم للحياة دونه.. لا طعم للحياة بعده...

              وحاولت زوجة الدكتور إياد أن تحجزها لتهدئ من روعها، لكنها أفلتت منها وانطلقت لا تلوي على شئ وهي تنادي وتصيح: عصام.. ولدي.. حبيبي.. أين هو يا ناس.. أريد أن أراه.. أريد أن أشمه.. أريد أن أضمه.. أريد أن أقبله.. لم تفرح بنجاحك يا ولدي.. لم تفرح بزواجك.. لا اعتراض على أمرك يا رب.. بالأمس زوجي واليوم ولدي...

              كانت كلمات الأم الملوعة تنفذ إلى القلوب المفجوعة وتنهال عليها بطعن عنيف أليم فتنزف بالحزن والحسرة والوجع حتى يفيض نزيفها من العيون دمعاً هتوناً يتدفق.. وأجهش الحاضرون وعلت صوت بعضهم، فضجت القاعة بالبكاء والنحيب... وهرعت سامية إلى حماتها المسكينة فارتمت في أحضانها وهي تبكي بمرارة وغمغمت في حرقة وأسى: لقد تركنا دون وداع يا أماه...

              هتفت الأم في ضراعة وتوسل وهي تنتحب: قوديني إليه يا ابنتي.. خذيني إليه.. أريد أن أراه.. أريد أن أراه...

              قالت سامية من بين الدموع وقد شعرت بواجبها في هذه اللحظات الدقيقة: لا تحزني يا أماه فعصام في الجنة.. أجل في الجنة.. شاب بطهره وصفائه مكانه هناك... لا تحزني يا أماه فسوف يهبه ربنا خيراً مني.. سيزوجه من الحور العين.. من الحور العين يا أماه...

              وتعالى بكاؤهما ونحيبهما فصدع القلوب الجريحة، وأسرع الدكتور إياد، ففصل بين الاثنتين وقال للأم مواسياً وهو يقودها إلى ابنها الفقيد: هوني عليك يا أختاه.. هذا قدر الله – سبحانه - ... تعالي فودعيه...

              وما إن وصلت الأم إلى جثمان ابنها الراحل حتى انكبت على جسده المسجى بالبكاء والعويل وراحت تلثم وجهه وجسده ويديه، وتغرقه بالقبلات والدموع، وأخذ الحزن منها كل مأخذ، فصرعتها اللوعة المريرة، وأغمي عليها فحملت إلى غرفة الإنعاش.

              ودخل الأصدقاء ليلقوا على صديقهم الراحل نظرة الوداع الأخير، فتقدم منه سعد في هدوء وحزن وتحسر، وكشف عن وجهه الغطاء في رهبة وما إن رأى الرأس المهشم المثخن بالجراح حتى نشج ببكاء مر أليم، ثم مال عليه في حب ولوعة وطبع على جبينه قبلة الوداع، ثم تنحى وهو يترنَّح من عمق الأسى ووقع المصاب فاستند بكتفه على الجدار وراح يتلو ((الفاتحة)) في صمتٍ دامعٍ حزين.
              ثم تقدم الأصدقاء مجهشين، فقبلوا صديقهم عصام في حب وأسف ووقفوا حول سريره محزونين محتسرين وهم يبكون... ودخل عرفان وهو يتكئ على كتف الدكتور أحمد الذي حمله ليرى جثة عصام بعد إلحاح شديد، وما إن وقع بصره على جسد الفقيد حتى أسرع إليه وهو يعرج غير عابئ بجراحه وآلامه، وأكب عليه وهو يبكي وينادي في حرقة والتياع: عصام.. لا تذهب يا صديقي فلا بهجة لنا بدونك.. سوف نحيا من بعدك كاليتامى الذين فقدوا أمهم وأباهم وأخاهم.. واحزناه.. واأسفاه.. أين الذكاء والنبوغ ؟.. أين الأمل والطموح؟.. أين البسمة الراضية الودودة ؟.. أين العزيمة الواثقة الجريئة؟.. أين الذكريات؟.. واحسرتاه...
              وفجّرت كلمة الذكريات جراح الأصدقاء، فانتفضت نازفة أليمة، فهم سيودعون مع عصام حياة جميلة عامرة بالذكريات الحبيبة السعيدة.. حياة رائعة فريدة.. سيفتقدون طعمها الحلو اللذيذ مهما امتدت بهم الأيام والسنون.
              وتعالى من خلفهم نحيب شديد فالتفتوا ليتعرَّفوا على صاحب الصوت الباكي، فأدهشهم أن يروا صفوان وقد غطى وجهه بكفيه وهو يجهش ببكاء شديد، فعجبوا لهذا التغير الذي طرأ عليه، وتأثَّروا أيّما تأثر، فغلت مراجل حزنهم وتأججت، وعلا نحيبهم من جديد...
              واشتدت عليهم وطأة الحزن والألم، فكابد الجميع لحظات قاسية رهيبة لا تنسى، وشعروا باللوعة المرة تعتصر قلوبهم وتضغط على أنفاسهم فتضطرب وتضيق، فانفلتوا من هذا الجو الكئيب لاهثين، ولجأوا إلى حديقة المستشفى ينشدون هواءً نقياً لم يلوثه الحزن بنفثاته السامة الخانقة، وما إن وصلوا إلى هناك حتى طرق سمعهم صوت سيارة إسعاف قادمة وهي تحمل مصاباً جديداً.. يصارع الموت ويتشبَّث بأهداب الحياة.
              سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم
              -----------
              أعمالي في التصوير
              Longines

              Teppo & Tappo
              -----------

              إعملي فولو على
              instagram هنا
              -----------

              ألا أدلك على كلمة تقولها بدقيقة واحدة فقط تحصل بها على اكثر من حسنة مائة مليار حسنة بل أكثر والله يضاعف لمن يشاء فقد قال ارسول صلى الله عليه وسلم في حديثه ( من قال أستغفر الله العظيم التواب الرحيم لذنبي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إلى يوم الدين كتب له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة )

              تعليق


              • #22
                الفصل الحادي والعشرون

                نالت المحنة الرهيبة من الدكتور إياد، وشغلته عن عيادته ومرضاه، فتفرغ ليواجه همومه وأحزانه ويقوم بواجبه نحو الأم الملوعة المسكينة التي فقدت ابنها وفلذة كبدها وأملها الوحيد في الحياة، ويقف إلى جانب ابنته الحزينة وقد سلبتها المأساة الأليمة كل مشاعر الأمل والسعادة والفرح التي احتشدت في نفسها لتستقبل مناسبة زفافها إلى الفتى العظيم الذي تولعت به، فجاءت هذه المناسبة دامية كئيبة، مفعمة بالآلام...

                واليوم.. قرر الدكتور إياد أن يخرج من عزلته ليواجه الحياة من جديد، وقد تبخَّر منها أحد آماله الكبيرة تحت وهج المأساة الدامية، فمضى إلى عيادته بغير حماس، وراح يهبط في السلم بخطوات متثاقلة، ونفس مهمومة، وذهن مكدود.
                ولدى الباب توقف لحظة وقد تهيَّب الدخول.. فالعيادة مزروعة بطيف الفتى الفريد الذي أحبه من أعماقه، فمنحه أبوته، وشعر ببنوته، وحفّه بالرعاية الاهتمام، ووجه خطاه إلى مستقبله الواعد فما لبث العقل العبقري أن تلمَّس دربه في أناة، وانطلق في سلم المجد كالنسيم.. يحقق النجاح إثر النجاح.. وضغط الدكتور إياد على آلامه، فاقتحم تردده، وتخطّى عتبة الباب، فاستقبلته الممرضة بابتسامة مرحِّبة، وشت بالمواساة فألقى عليها تحية السلام...
                - وعليكم السلام.. خاتمة الأحزان – إن شاء الله
                - بارك الله في عمرك يا ابنتي، وجنبك الرزايا والأحزان...
                - كيف والدته الآن؟.. منظرها الكئيب لا يفارقني...
                - هي بين الموت والحياة... بين العقل والجنون... تقتات الحزن والأسى، وتروي جراحها بالدموع، أحياناً تبدو شاردة ذاهلة ساهمة وكأنها تمثال من الشمع، وأحيانا تبدو كتلة لاهبة من الأحزان.. لقد هدّها المصاب، وانطفأ في قلبها الأمل، فلم يبقَ لها من الحياة إلا أنفاس وانية تتردد في جسم يسعى نحو الذبول...
                - كان الله في عونها.. والدكتورة سامية؟.. ما أخبارها؟...
                - أجابها وهو يمضي إلى غرفته ساهماً حزيناً: أخبار فتاة مسكينة فقدت فتاها عشية زفافها، واكتشفت إن سفينة أحلامها تمضي وسط بحر من الأحزان. شئ مؤسف حقاً. يا لقسوة الأقدار!..
                - قال الدكتور إياد وهو يتهالك على كرسيه في ملل وإرهاق: لا.. لا تقولي هذا يا ابنتي، فالأقدار لا ذنب لها فيما حصل، وسواء كان قدرنا سعيداً أم حزيناً فإنما هو حلقة لا بد منها في سلسلة وجودنا الكبير، لو لم يمت عصام اليوم فسيموت غدا أو بعده، ولو لم يمت في حادث سيارة لمات بلا مقدمات توحي لنا بسبب الوفاة.. كلنا سنمضي يا ابنتي، فلنتأهب للرحيل.
                - بعد عمر طويل إن شاء الله..
                - ابتسم الدكتور وهمس في شرود: عمر طويل!!.. لكم نضحك على أنفسنا بهذه الكلمات، فالعمر مهما طال، فإنه لقصير.. نحن لم نخلق لهذه الأرض يا ابنتي، بل خلقنا لنمر بها على عجل في طريقنا إلى الحياة الحقيقية... حياة الآخرة، لكن إغراء الدنيا وجاذبيتها القوية تستهوي صغار العقول والنفوس، فيبنون على ظهرها الفاني صرح سعادتهم المزيفة، فيأتي الموت ليعصف به في لحضات، أما أصحاب النفوس الكبيرة والأفق الرحيب فلا يخدعهم وهم الحياة أو يغريهم طول المكوث فيقضون العمر بطوله كالمسافر الذي يمر بغابة ليست مقصده، فيستمتع بمائها وثمرها، ويصمد لوحوشها وذئابها، ويصبر على ظروفها وأشواكها ويتزود منا بما يعينه على متابعة الطريق، ثم يمضي إلى غايته وهو في شوق إلى الوصول...
                - قالت الممرضة وقد بان على وجهها التأثر : رحمه الله... لقد أدرك عصام هذا، فتزوَّد بأعظم الزاد، ومضى إلى ربه مؤمناً عابداً تقياً... دكتور تبدو متعباً.. هل أحضر لك فنجاناً من الشاي؟
                - لا.. لا أشتهي شيئاً.. كيف تجري أمور العيادة؟
                - كما أمرت.. لقد حوَّلت المرضى الذين راجعونا إلى عيادة الدكتور ناجي وأرسلت إليه بملفاتهم الخاصة. هناك مجموعة من الرسائل التي وردت في غيابك، هل أحضرها لك؟
                - أحضريها لأراها...
                - أحضرت الممرضة الرسائل فوضعتها أمام الدكتور إياد وانصرفت في هدوء، فألقى عليها نظرة تنطق بعدم الاكتراث، ثم تناول منها مغلفاً كبيراً كتب عليه (( صوت الجامعة- عدد خاص))، ففضَّ المغلف وأخرج العدد فطالعته صورة الغلاف وقد ظهر فيها عصام وهو يبتسم ابتسامة وادعة تفيض بالأمل والثقة والتفاؤل وقد كتب تحتها بخط أحمر فاقع ((من اغتال هذه الابتسامة؟)).. فرنا إلى صورة الفقيد بعينين دامعتين وقلب مكلوم، ثم أخذ يتصفَّح عناوين العدد في هدوء حزين.. ((كلية الطب تنعي علماً من أعلامها)).. ((الأمل الذي هوى)).. ((عصام.. لا تقل وداعاً، ولكن إلى اللقاء)). ((تأملات على ضفاف الموت)).. ((الدكتور إياد يتحدث عن مآثر الفقيد)).. ((الدكتور إياد يدعو إلى حملة وطنية لمكافحة حوادث الطرق)) . وتوقف الدكتور إياد عند هذا العنوان، فقد تذكر أن مجلة ((المجتمع الجديد)) قد طلبت منه مقالاً حول هذه الدعوة وأبعادها العملية، فأرجأ قراءة العدد حتى يتسنّى له إعداد المقال، ثم ألقى على بقية الرسائل نظرة سريعة فألفى معظمها رسائل مجاملة وتعزية فأجل قراءتها دون أن ينتبه لأهمية إحداها، وتناول ورقة وقلماً وشرع بإعداد المقال..((
                " عزيزي القارئ: إليك أخط هذه الكلمات المخلصة، بمداد من الدمع المدمّى..أخطها من قبل المأساة الدامية التي عشتها منذ أيام.. أخطها إليك بريشة الأسى، وأطياف الضحايا الذين دمرتهم المأساة إياها ترفرف حولي.. تهيب بي أن أفعل شيئا يوقف طوفان الدم الذي يغرض في كل يوم المزيد من القتلى والجرحى.. إليك عزيزي القارئ أبث هذه الكلمات راجياً منك أن تصغي، متوسلاً إليك أن تتفكَّر وتتأمل وتعتبر...
                في وطني أيها الإخوة والأخوات وحش مفترس.. وحش كاسر يقف كل يوم وسط الشارع، ويرابط عند مفارق الطرق، ويفغر فاه ليبتلع عددا من المواطنين الأعزاء... وحش رهيب اسمه السرعة المجنونة، وفي بلدي وباء... وباء جارف تنقله جرثومة مستعصية... جرثومة خطيرة باتت تستوطن في نفوس الكثيرين... جرثومة سامة اسمها الفوضى... اسمها اللامبالاة... اسمها الاستهانة بالنظام... اسمها الاستخفاف بالمنطق... اسمها عدم احترام الآخرين.. اسمها (( الأنا)).. ((فالأنا)) أصبحت تتحكم بعقولنا وأعصابنا وتسيطر على أعمالنا وتصرفاتنا، وأصبح لسان حال الواحد منا يقول : ((المهم ما أريده أنا.. المهم ما أفعله أنا، وليذهب العالم من حولي إلى الجحيم...(( .ويستغرق وحش السرعة في طغيانه، ويزداد وباء ((الأنا)) انشاراً، فنقرأ كل يوم عن حادثة جديدة وكارثة جديدة ومأساة جديدة، وما إن تفتح ملفات التحقيق في هذه الحوادث المستمرة المتكررة حتى تتوجه أصابع الاتهام إلى السرعة والأنانية والفوضى، لكن أحداً لم يستطع حتى الآن قمع هذا الثالوث المجرم الذي يروع مجتمعنا...
                شئ واحد أيها السادة يمكن له أن يوقف هذه المأساة.. إنه التربية.. التربية الأخلاقية الحضارية التي تضبط تصرفات الإنسان وتزيد من شعور المواطن بالمسؤولية وتحيي عنده الضمير.. وعندما يصحو الضمير في أعماقنا، نتخلص من وحش السرعة الرهيب وينحسر الوباء...

                بالأمس أيها الأعزاء حدث حادث فضيع على طريق ((السلام)).. حادث مروع ذهب ضحيته شاب عظيم.. شاب..."
                ويتذكر الدكتور إياد عصاماً فيرتعش القلم في يده وتجتاحه نوبة من الحزن وتتدفق في عينيه الدموع...
                وانتظر قليلا ريثما هدأ روعه ثم عاد ليتمَّ مقالته... وقبل أن يبدأ وقع بصره على رسالة معنونة باللغة الإنكليزية، فألقى القلم من يده وتناول الرسالة في عصبية، وفضَّها في ألم وأخذ يقرأ من بين الدموع: " عزيزي الدكتور إياد عزت المحترم: لقد اطلعت على كشف علامات الدكتور عصام السعيد وأعجبت بتفوقه ونبوغه أيما إعجاب، وبناءً على ذلك، وعلى ما حدّثتني به عن اهتمامه وتعمقه بأبحاث السرطان، فقد قررت أن أضمه إلى طاقم الأبحاث الذي يعمل معي في المركز الفدرالي للبحوث السرطانية، وقد اتفقنا هنا في إدارة المركز على تقديم منحة للدكتور عصام تسمح له بالاختصاص على حساب المركز شريط أن يعمل لصالحه مدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد حسب رغبة الدكتور عصام وذلك لقاء راتب شهري يتم تحديده بالاتفاق معه قبل توقيع عقد خاص ينص على بنود الاتفاق، أما بالنسبة للدكتورة سامية، فسوف يتسنَّى لها الاختصاص في نفس الجامعة التي سيتخصص فيها الدكتور عصام على أن يتم الاختصاص على نفقاتها الخاصة. ولعله من دواعي سرورنا جميعا أن تجتمع الطاقات العلمية في الشرق والغرب لإنقاذ البشرية من هذا المرض الرهيب.
                وفي الختام أرجو أن تقبل مني خالص الحب وفائق الاحترام، وأن تنقل تقديري وتشجيعي للدكتور عصام آملاً أن ألتقي به عما قريب للتعاون معا في إنجاز مهمتنا المقدسة .

                المخلص فرانكلين جاكسون

                رئيس الجمعية الأمريكة للسرطان "
                سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم
                -----------
                أعمالي في التصوير
                Longines

                Teppo & Tappo
                -----------

                إعملي فولو على
                instagram هنا
                -----------

                ألا أدلك على كلمة تقولها بدقيقة واحدة فقط تحصل بها على اكثر من حسنة مائة مليار حسنة بل أكثر والله يضاعف لمن يشاء فقد قال ارسول صلى الله عليه وسلم في حديثه ( من قال أستغفر الله العظيم التواب الرحيم لذنبي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إلى يوم الدين كتب له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة )

                تعليق


                • #23
                  الفصل الثاني والعشرون

                  كلما جلس سعد في حديقة بيته، اجتاحته الذكريات العاصفة، وازدحمت في خاطره المشاعر والصور، وهفت نفسه للبكاء...ففي ظلالها الوارفة كان آخر العهد بعصام، وبين أزهارها الفواحة توهجت النجوى بأعذب الآمال والأحلام، وفي جوها العبق الخلاّب عاش الصديق الحبيب آخر لحضات الحياة، ولو كان سعد يعلم أنها اللحضات الأخيرة، لأمتع ناظريه برؤياه، وأطرب أذنيه بنجواه، وأترع روحه من رحيق الحب الخالص الذي سما وتألق بين الصديقين، فمزج في نفسيهما وألّف بين قلبيهما ووحَّد منهما الآمال والآلام والدروب...

                  وفي هذا المساء، كان سعد يشعر بسآمة وضيق، فخرج إلى الحديقة ينشد الراحة والسلوى، وأرسل نظراته المتأملة تجوب أرجاء الحديقة الغناء، فأحسها كئيبة لم تستطع فتنتها الطاغية أن تمحي مسحة الحزن التي لاحت في أشجارها وورودها وأزهارها، وهب النسيم العذب، فراح يهمس له بأحاديث الماضي وذكريات الماضي، فتراجع في خضم الأيام يرقب صورها الحافلة عصاماً وانطلاقته المؤمنة...واستغرقته الذكرى، فانتزعته من وعيه، وحملته إلى تلك الأيام الآفلة السعيدة، فحلَّقت روحه في سمائها الحبيبة تحاول أن تتشبث بلحظاتها الباهرة علَّها تطفئ لهيب الأحزان المتأججة في قلبه وتسكب روعة السلام، لكن وعيه القاسي سرعان ما جذبه إليه، فارتد خائباً محزناً يكابد الحسرة واللوعة.واضطرمت في أغواره الأحاسيس، فشاعت كآبتها في صدره تروم لها متنفسا لم تجد غير الدموع.. واشتد عليه وطأة الأحزان فهرع إلى القرآن، وجلس في حجرته يتلو آيات منه.. ينشد بين سطوره الكريمة راحة النفس وهدوء الروح.. يبحث عن حوافز قوية تدفعه قدماً إلى الله.. ويترنَّم بالحقائق الخالدة لتنبت في أعماقه وتزهر وتثمر...
                  ومس سمعه صوت جرس الباب، فطوى المصحف في هدوء، ووضعه في جلال، ومضى يتبين الطارق.. وفتح الباب في شرود، ففوجئ بالزائر، وهمس في دهشة: صفوان ؟..
                  - لسلام عليكم.
                  - وعليكم السلام...
                  - أخشى أن لا يكون الوقت مناسباً للزيارة!
                  - أبداً.. أبداً.. تفضل..
                  وقاده سعد إلى حجرته، والتساؤلات الحائرة تنثال على خاطره.. صفوان؟!.. ما الذي جاء به؟!.. أيزورني؟!.. صفوان يزورني؟!.. ما أعجب النفوس!.. أي تحول طرأ عليه؟!.. أي سر يكمن في تصرفاته الأخيرة؟!...
                  - قال سعد مرحِّباً بعد أن استقر به المجلس: أهلا بك يا أخي.. كم أنا سعيد بهذه الزيارة!!.
                  - تساءل صفوان وهو يبتسم في مرارة: أخوك؟!.. أحقاً تعتبرني أخاك!!.
                  - إنما المؤمنون إخوة.
                  - أولئك المؤمنون.. أما أنا..
                  - أنت منهم بإذن الله.
                  - هتف صفوان في إنكار: سعد.. لكأنك لا تعرف من أنا.. سأذكرك.. أنا صفوان.. صفوان المستهتر العابث.. صفوان المتكبر المغرور.. صفوان الفاسق الفاسد الذي لم يخطر بباله لون من الانحراف إلاّ مارسه.. هذا هو صفوان الذي تجامله الآن فتخلع عليه صفة الإيمان.
                  - ابتسم سعد في ثقة وقال: أنا لا أجاملك، لو سألتني عن أعمالك السيئة لأدنت لك سوءها، لكن ذلك لا ينفي عنك صفة الإيمان.. لعلي أعرف الجانب القاتم في حياتك، لكني لم أعدم التفاؤل يوماً بالجانب المشرق منها.
                  - أتؤمن بالإنسان ذي وجهين؟..
                  - - بل أؤمن بالإنسان ذي طاقتين متنافستين.. طاقة للخير، وأخرى للشر.. إذا ما نمت إحداها ضمرت الأخرى، ولكنها لا تموت، بل تبقى كامنة متحفزة تنتظر من الأولى لحظة ضعف أو تراجع لتنطلق من جديد، والإرادة هي العنصر المرجّح لكفة هذا الصراع القديم داخل الإنسان.
                  - همس صفوان بلهجة تفيض بالحسرة والندم وقد اغرورقت عيناه بالدموع: فكرت في أيامي السالفة فلم أجد فيها عملاً يرضي الله!!.
                  - ليس المهم ما كان، المهم ما سيكون.
                  - لكن ما كان كثير.. كثير..
                  - رحمة الله وسعت كل شئ.
                  - وما الطريق إليها؟
                  - أراك قد خطوت فيه خطوات...
                  - لا أفهمك؟
                  - قال سعد وابتسامته الهادئة لا تزايله: الشعور بالذنب والندم عليه نصف الطريق إلى الله.
                  - والنصف الآخر؟
                  - أن تعمل بما يرضي الله..
                  - وكيف أرضي الله؟
                  - بأن يجدك حيث أمرك، ويفتقدك حيث نهاك.
                  - تساءل صفوان في لهفة: ويغفر الله لي كل ما سلف؟؟
                  - ويبدَّل سيئاتك حسنات إلاَّ..
                  - إلاَّ ماذا؟!!
                  - إلاًّ ما كان منها في حق الآخرين، فلا يغفرها حتى يصفح عنها الآخرون.
                  - الآخرون؟!..
                  - منى مثلا!..
                  - آه... منى .. المسكينة... ضحكت عليها... أوقعتها في شباكي، وحققت منها مآربي، ثم ركلتها بعيداً، ومرغت سمعتها بالتراب.. ولكن كيف السبيل إلى مغفرتها؟
                  - بأن تمسح جراحها، أن تتزوجها لتعيد لها كرامتها واعتبارها ثم تشدها معك إلى دائرة التوبة والإيمان والعمل، وأنا أعدك بأني سأبذل كل ما في وسعي لأجمع بين قلبين تائبين فرق بينهما الشيطان.
                  - قال صفوان ودموع التوبة تبلَّل وجهه الحزين: إني أعاهد الله أمامك أن أسعى لإنصافها مني ورضائها عني.. سأتخذها زوجة كريمة.. سأنسيها كل خديعة أو إساءة. وسأفرش دروبها بالسعادة والسرور...
                  - وصمت صفوان وقد ألمَّت به ذكرى دامعة، ثم تساءل في حزن وأسف: وعصام؟
                  - عصام!
                  - لقد أسأت إليه كثيراً...
                  - رحمه الله... مند دقائق فقط كنت أكابد ذكراه...
                  - لقد هزني موته من الأعماق، وعلى أعتاب موته سألت نفسي.. من هو عصام؟.. إنه أنا وأنت وهو وهي.. إنه الإنسان وهو يحلم ويطمح ويبني قصور الأماني على أرض الفناء، ثم يمضي دونا وكأنها لا تعنيه، وكأنه لم يتعب ويعرق ويشقى من أجلها، وفكرت فيما بعد الموت فأشفقت من النهاية وخفت من سوء المصير فلجأت إلى الله.. أطرق أبوابه في ذلة وندم.. أطلب الصفح والغفران.. أنشد التطهر.. أغسل الذنوب بالدموع.. أبحث عن هدوء النفس وراحة الضمير، ولهذا جئت إليك...
                  - أهلاً بك يا أخي في صفوف التائبين الصادقين.. كلنا يخطئ ويكبو.. من منا لا يخطئ؟.. المهم أن لا نصر على الخطأ.. أن لا نكابر.. أن لا ننتحل له المبررات والمعاذير، والتائب حبيب الرحمن...
                  - لم تقل لي كيف السبيل إلى صفح عصام وقد مضى إلى ربه؟
                  - تنهد سعد وقال: اطمئن.. قد تحتاج لصفح الآخرين إلاًّ عصاماً.. فما كان الحقد ليجد طريقاً إلى نفسه.. لقد كانت الإساءات – مهما عظمت – تضيع في خضم قلبه الكبير، وتتلاشى... إنسان يحمل على كاهله هموم الناس وآلامهم لن يجد في قلبه متَّسعاً ليكره أحداً.
                  - رحمه الله.. سمعت عن آماله الكبيرة فهزئت منها.. لقد كان فيما مضى هدفاً لسخريتي، واليوم أمسى مثلاً وضيئاً أتلمس خطاه.
                  - قال سعد في شرود حزين: رحمه الله.. نسجنا الأحلام معاً، وهندسنا المطامح، ورسمنا الدروب.. ليلة الحادث كان عندي.. كنا نخطط لمشاريع المستقبل.. كان شعلة من الاندفاع والحماس.. اتفقنا على إنشاء صندوق لمكافحة السرطان ليكون في المستقبل رافداً قويا لكل المشاريع والمؤسسات التي تساهم في القضاء على هذا المرض الفتَّاك.. حلمنا بإنشاء جمعية وطنية لمكافحة السرطان، ومركزاً لأبحاث السرطان، ومستشفى لمعالجة السرطان و.. وفجأة.. اختفى رائد كل هاتيك الطموحات.. لقد كان خسارة فادحة لا تعوَّض.
                  - هتف صفوان في حماس: سعد.. بودّي لو أقدِّم شيئاً.. إني مدين لعصام بصحوتي هذه وقد حقَّ الوفاء.. سوف أسعى لتحقيق كل آماله.. أنا أملك المال وأنت تملك الفكرة والطموح.. فلنكن يداً واحدة.. نحن وبقية الأصدقاء.. سننشئ الصندوق الذي كان يحلم به عصام.. وسنسعى لإنشاء الجمعية.. ومركز الأبحاث.. والمستشفى.. أجل... لا يوجد شئ مستحيل.. بودي لو أفعل شيئا يا سعد.. شيئاً عظيماً أكفر به عن ذنوبي، وأخدم به ديني وأمتي ووطني...
                  كان سعد يصغي إلى صفوان في سرور عارم وقد تألقت على ثغره ابتسامة حب وإعجاب، ولمعت في عينيه فرحة طاغية، وأحس بروح عصام وهي تخفق من جديد.







                  تمت في صيف 1984 م
                  سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم
                  -----------
                  أعمالي في التصوير
                  Longines

                  Teppo & Tappo
                  -----------

                  إعملي فولو على
                  instagram هنا
                  -----------

                  ألا أدلك على كلمة تقولها بدقيقة واحدة فقط تحصل بها على اكثر من حسنة مائة مليار حسنة بل أكثر والله يضاعف لمن يشاء فقد قال ارسول صلى الله عليه وسلم في حديثه ( من قال أستغفر الله العظيم التواب الرحيم لذنبي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إلى يوم الدين كتب له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة )

                  تعليق


                  • #24
                    النهاية
                    the end
                    سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم
                    -----------
                    أعمالي في التصوير
                    Longines

                    Teppo & Tappo
                    -----------

                    إعملي فولو على
                    instagram هنا
                    -----------

                    ألا أدلك على كلمة تقولها بدقيقة واحدة فقط تحصل بها على اكثر من حسنة مائة مليار حسنة بل أكثر والله يضاعف لمن يشاء فقد قال ارسول صلى الله عليه وسلم في حديثه ( من قال أستغفر الله العظيم التواب الرحيم لذنبي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إلى يوم الدين كتب له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة )

                    تعليق


                    • #25
                      تمت قراءة الفصل الأول, وستتم القراءة الباقي لاحقا...
                      dhia-eldeen

                      تعليق


                      • #26
                        إن شاء الله
                        سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم
                        -----------
                        أعمالي في التصوير
                        Longines

                        Teppo & Tappo
                        -----------

                        إعملي فولو على
                        instagram هنا
                        -----------

                        ألا أدلك على كلمة تقولها بدقيقة واحدة فقط تحصل بها على اكثر من حسنة مائة مليار حسنة بل أكثر والله يضاعف لمن يشاء فقد قال ارسول صلى الله عليه وسلم في حديثه ( من قال أستغفر الله العظيم التواب الرحيم لذنبي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إلى يوم الدين كتب له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة )

                        تعليق


                        • #27
                          ............................
                          سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم
                          -----------
                          أعمالي في التصوير
                          Longines

                          Teppo & Tappo
                          -----------

                          إعملي فولو على
                          instagram هنا
                          -----------

                          ألا أدلك على كلمة تقولها بدقيقة واحدة فقط تحصل بها على اكثر من حسنة مائة مليار حسنة بل أكثر والله يضاعف لمن يشاء فقد قال ارسول صلى الله عليه وسلم في حديثه ( من قال أستغفر الله العظيم التواب الرحيم لذنبي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إلى يوم الدين كتب له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة )

                          تعليق


                          • #28
                            قرأت الفصل الثاني والثالث, رواية جيدة.
                            dhia-eldeen

                            تعليق

                            يعمل...
                            X