بداية فلعلي أنوه هنا إلى أن هذا الموضوع برمته كان يفترض أن يكون رسالة خاصة لسببين مهمين ..
أولهما أن هذا الموضوع كان رداً على سؤال سألتني إياه الأخت فينيسيا والتي كانت تبحث عن رواية مميزة وكان سؤالها تحديدا : أريد أن أعرف ماهي أعظم رواية على مرّ التاريخ ؟!
أما السبب الآخر فهو أني لا أجد نفسي كثيراً ـ ولا قليلاً ـ في الحديث النقدي أو الكتابة الجادة ، وإن فعلت ذلك فإني في الغالب أحب أن لا يكون حديثا وكتابة في العلن ، وما ذلك إلا حفاظاً على سريّة جهلي !!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموضوع :
يجب أن نتفق أولاً على أني سأتناول القصة محاولاً ـ ما أستطعت إلى ذلك سبيلاً ـ تجنب معاملتها كنص قرآني ، بل سأتحدث عنها كقصة مكتوبة قد يقرأها مسلم يتعبد بقرأتها أو قاريء لا يعلم عن الاسلام شيئا ولا يدري أهي قرآن أم رواية لكاتب مجهول بالنسبة له ، ولن أتحدث عن القصة بشكل مفصل بل سألتقط شيئاً من هنا وآخر من هناك في سبيل توضيح ما أريده عن جمال القصة وروعتها كأعظم رواية في التاريخ ،
ورغم أن هذا من توضيح الواضحات كما يقال ، لكنني فعلت وليست أول رعونة أرتكبها ولا أخالها الأخيرة !
.
.
لعل أقرب القصص والروايات المكتوبة إلى النفس البشرية بشكل عام هي تلك التي ترتكز على العنصر إلإنساني ، حيث تظهر وتبرز المشاعر البشرية والكاتب الجيد في الغالب هو الذي يضعنا أمام أنفسنا فيما يكتبه ، نغوص في أعماق حرفه فنجدنا أمام أنفسنا عارية من كل الرتوش والقشور التي نظن أنها لا تنكشف بسهولة !
في هذه القصة يبرز العنصر الإنساني والمشاعر البشرية بكافة أشكالها ، هي قصة تتناول الإنسان بضعفه وقوته وطموحه وفشله وأفراحه وأحزانه ..
تصور بشكل مذهل مشاعر الحب الصادق ، والحسد ، والغيرة ، والكراهية ، والنفاق ، والعطف والشفقة ، والحنين ، والحزن في أصدق آياته !
ونجد فيها تصوير مبدع للسمو الأخلاقي والعفة ، وكذلك الانحطاط والانحلال الأخلاقي دون اسفاف ولا ابتذال !
تجسد هذه القصة " الغياب " كأبرز ملمح مستدر للحزن في على مدى العصور ..
الغياب والفقد هما عكازا الحزن الذي يتوكأ عليهما ليعيث في دواخلنا الخراب !!
.
.
تبدأ قصة يوسف عند الآية الرابعة (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ )(4)
وسنلاحظ مع التقدم في القصة أن الطريقة التي بدأت بها كانت منهجاً يستمر حتى أخرالقصة ، وأعني بهذا المنهج " اللقطات " المفاجئة ، بمعنى أننا نجد أنفسنا أمام مشهد واضح المعالم في القصة ولكنه يفترض أن يكون نهاية لأحداث متتالية لا تذكر ولا يشار إليها في السياق الذي يسبق هذا المشهد !
كثير من أحداث هذه القصة متروكة لتخيل القاريء ، حيث يجد نفسه وهو ينتقل من مشهد إلى مشهد متخيلا كل تلك الأحداث التي دارت بين المشهدين تلك الأحداث التي تربط المشهد السابق بالمشهد اللاحق دون أن يرد لها أي ذكر في سرد القصة !
(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) ..
لا بد أن أحداث سبقت هذه الحدث .. لو أن مؤلفا كتب هذه القصة لحدثنا أولاً عن يوسف وهواياته وأين ينام وكيف نام تلك الليلة وعن مشاعره التي سبقت إخباره لأبيه بما رآه في نومه !
لكن هذا لم يكتب في هذه القصة ، فجأة نجد أنفسنا مع يوسف وهو يروي لأبيه ما رآه في منامه!
نجد أننا أمام هذا المشهد ونتخيل ما دار قبله دون أن يؤثر عدم وجوده على فهمنا أو تفاعلنا مع تلك الأحداث التي سبقته !
ومثل هذه النقلة السريعة والخاطفة المبدعة تتكرر في أكثر من موضع في هذه القصة ..
مثال(1):
قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) .
حين طرحت فكرة أن يلقوه غيابة الجب لابد أن أحداثاً كثيرة حدثت قبل أن يتحدثوا مع أبيهم ويطلبوا منه الموافقة على أخذه معهم ..
فالأمر خطير .. ما أتخيله أنهم ترددوا بعض الشيء وأن أحدهم أخيراً هو من قرر الحديث ..
وحين وقف أمام أبيه تردد ..
ربما أراد أن يتراجع فكر في عواقب أمر كهذا..
ربما ذهب إليه أكثر من مره دون أن يجروء على مثل هذا الطلب !!
كل هذه الأحداث أو ما يمكن أن يكون حدث لم تتم الإشارة إليه ، إنتقل الحدث من مشهد التخطيط إلى مشهد الأبناء أمام أبيهم يطلبون منه هذا الطلب الصعب دون مرور على تفاصيل لم يسقطها من الاعتبار كونها غير مكتوبة ، ولم تقل درجة التأثير على المتلقي الذي عاشها رغم أنه لم يقرا حرفاً واحداً يدل عليها !
مثال (2):
فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (15) وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ (16)
نلاحظ هنا أن الإجماع لم يتم إلا بعد أن ذهبوا به .. أي أن الحدث الذي لم يُشر إليه هو النقاش الذي تم بينهم ..
لابد أن حواراً حاداً دار بينهم ، ما أتخيله أيضاً أن يوسف لم يسلم لهم ويذهب إلى الجب بنفسه ..
لابد أنه استعطفهم ، سألهم عن دوافعهم ..
من المؤكد أن إجاباتهم كانت جافة وقاسية ..
أحداث أيضاً كثيرة لم تصور ولكنها كانت حاضرة وهذا إبداع ليس قبله ولا بعده !
المشهد ينتقل بشكل خاطف إلى بيت الأب وأبناؤه يبكون أمامه !
مثال (3) :
وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
الحدث الذي أتخيله هنا أن يوسف سمع أصوات هذه القافلة ..
لابد أنه استبشر بقدومهم
لابد أن فرحته تضاعفت حين رأى الدلو ،
ربما تعلق به ..
لكن هذا المشهد صور لنا قافلة تبحث عن الماء يرسلون " واردهم " وهو المسؤول عن الماء ، وفجأة نراه يقول : " يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ " .
لابد أنهم تجمعوا حوله وسألوه عن قصته ودار حديث كثير حول قصته وعن أنسب طريقة للتعامل مع هذا الموقف ، لا يمر السرد الروائي على هذه الموقف ولكنه ينقلنا إلى القرا الأخير " وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً" ..!
مثال (4) :
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
كيف كان موقف يوسف وهو في السوق ؟
أو ماهي الطريقة التي باعوه بها؟
نفهم منن القصة أنهم باعوه بثمن قليل دون تفاصيل مكتوبة ، ثم ينتقل المشهد إلى بيت الذي اشتراه !
وهناك أيضاً أحداث أخرى متخيلة لم ترد ضمن السياق ولم يتم العودة إليها ...
حين عاد أخوة يوسف إلى المنزل ..
لا أتخيل انهم ذهبوا تلك الليلة ليناموا وهم مطمئنين ، ما اعتقده أنه كان هناك ما يقلقهم ..
تفكيرهم في أخيهم ..
سياط الأسئلة الذي لم يكن ليرحمهم ..
تأنيب الضمير ..
حين استيقضوا صباحاً ولم يجدوا يوسف ..
أتخيل أن أحدهم كان يتمنى أن كل تلك القصة لم تكن سوى حلم وأنه نهض مسرعاً ليبحث عن أخيه وحين لم يجده تأكد أنه لم يكن يحلم ..!!
لابد أنهم ذهبوا لنفس المكان ليتأكدوا أنه لازال هناك ..
ربما أيضاً حدثتهم أنفسهم إنهم إن وجودوه فسيخرجونه من الجب ويعودون به للمنزل بعد أن رأوا التأثير الواضح لغيابه على أبيهم وأن ما فعلوه لم يحقق الهدف الأساسي " يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ " ..
لابد أن مشاعر مختلطه عنّت لهم حين لم يجدوه في الجب ، مشاعر الفرحة بنجاته من الموت ومشاعر الحزن على فراقه ..
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
بعد أن نراه في المشهد السابق في بيت الذي اشتراه ينتقل المشهد هذه المرة بشكل أعمق وأكبر ويختصر سنوات من عمر يوسف قضاها في هذا المنزل حتى يبلغ أشده ..
هذه السنوات لابد أنه كان فيها العديد من الأحداث لكنه لم يكتب عنها في القصة أية شيء ،لأنها غير مفيدة في السياق الدرامي للقصة .. هي أحداث خارج الحدث !
مثال (5) :
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
وهنا تنتقل الرواية بشكل عنيف وفجائي إلى مشهد مفصلي في القصة ، لم يكن هناك من طريقة لتصوير هذا المشهد الجوهري سوى المباغته !
دون ذكر للأحداث ومالذي تم منذ أن اشتروه حتى بلغ أشده نجد أنفسنا أمام هذا الحدث ، لم ولن يكون هناك أروع من هذه الطريقة في إعطاء المشهد حقه ..
لا يمكن أن نتخيل أن هذه " المراودة " كانت وليدة اللحظة ..
لابد أن قبلها كثير من المقدمات ، كثير من التغنج ربما على مدى أشهر أو سنوات ، كثير من الأحداث وصلت بهذه المرأة إلى أن تفقد صبرها و"تغّلق" الأبواب وتنزل من كبريائها كسيدة للمنزل وتطلب من خادمها مثل هذا الطلب ..
لو أن هذه الأحداث كتبت في سياق القصة لفقد هذا المشهد الأخير قوته .. لأصبح مشهداً عادياً ومتوقعاً في أي لحظه !
مثال (6) :
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30)
كيف تسرب الخبر إلى نسوة المدينة ؟!
أيضاً هذا متروك لتخيل القاريء !
مثال (7) :
ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
الأحداث المتخيلة هنا تتعلق بطريقة سجنه ..
ربما دفاعه عن نفسه ..
وأحداث تتعلق بالسجن نفسه ..
كيف كان يتصرف ..
لم يصل الفتيان إلى نتيجة "إِنَّاَّ نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ " إلاّ بعد أن دار بينهما أحاديث طويلة ..
لم يسألاه عن تأويل حلميهما إلا بعد أن عرفا قدرته على هذا الأمر من خلال أحداث أخرى ..
وربما أوّل غيرها من الأحلام في السجن لكنها لم تكن ذات علاقة بالسياق الدرامي لقصة فلم تذكر ولم يتم الإشارة إليها ..
كان التصوير لهذه الأحداث عن طريق مشاهد متباعدة زمنيا لكنها مترابطة درامياً ولم تزد القصة إلا روعة وتشويقاً !
مثال (8) :
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
لابد أن صاحب يوسف في السجن وبعد أن نسي قصته عاد وتذكره بعد رؤيا الملك ، خطر في باله فجأة ..
ربما أنبه ضميره على نسيانه ..
وحين قال للملك "أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ" لابد أيضا أن الملك سأله : إلى أين ؟
وحين أخبره أنه إلى السجن ربما سأل الملك عن هذا السجين ، وكيف عرف هذا الرجل أن سجين كهذا يستطيع أن يحل هذه الرؤيا اللغز ..
المشهد ينتقل إلى السجن مباشرة بعد نهاية حديث الرجل " ساقي الملك " دون إشارة إلى موافقة الملك ..
أحداث وحوارات كثيرة حدثت ولم يشر إليها ولكنها كسابقاتها لا تسقط من ذهن القاريء حتى وإن لم تكتب .. !
مثال (9) :
(وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ..)
طلب الملك أن يؤتى بالسجين وحين رفض السجين أن يخرج إلا بعد أن تكشف الحقيقة ، وجدنا الملك يخاطب النسوة " المتهمات " مباشرة ..
دعونا نتخيل أن الملك وافق على استدعائهن ، ..
وسأل عن القصة قبل أن يصلن إليه .. وفهمها أو كان لديه تصور كامل عنها ..
وفي المقابل فإن هؤلاء النسوة حين بلغهم استدعاء الملك لابد أنهن ارتبكن ، بعضهن بحثت عن حجة لكي لا تحضر ..
كل هذا متوقع ومفهوم من سياق النص ..
النص الذي يقفز فوق كل هذه الأحداث الهامشية لينقلنا مباشرة إلى سؤال " تقريري " من الملك الذي فهم الموضوع بكافة قبل أن يسأل .. " مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ " ..
أي أن المراودة حدثت ولا نقاش فيها ، لكن ماهي اسبابكن ؟!
لازال هناك أكثر من مثال على هذا الاسلوب في قصة يوسف .. ولكني سأكتفي بما سبق وسأنتقل لشيء آخر .. أو لقطات أخرى أستدل بها على جماليات أخرى ..!
الشخصيات :
من أجمل ما في هذه القصة ـ وكلها جميلة ـ العلاقات بين الشخصيات وطريقة ربطها وتصوير انفعالاتها ..
من أمثلة ذلك ..
أخوة يوسف من أبيه:
تم التعامل مع هذه الشخصيات في القصة رغم أن عددهم هو عشرة كما فهم من سياق القصة ككتلة واحدة وكشخصية واحدة ..
تتحدث بشكل عام ..
فهم طلبوا من أبيهم أن يأخذوا يوسف ،..
وهم جاؤوا عشاء يبكون ..
وهم الذين قالوا " ذهبنا نستبق "
وهم طلبوا من أبيهم أن يأخذوا أخا يوسف ، ..
وهم قالوا أن الكيل منع عنهم
كل تصرفاتهم جماعية ..
لكن الإبداع في القصة يبين لنا بطريق غير مباشر أن أحد هؤلاء العشرة شخصية مضطربة ، متردده ، يفعل ما مايراد منه دون اقتناع ..
هنا مثلا :
قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10)
لا يريد أن يواجههم مباشرة لكنه يقترح حلولاً أقل ضرراً وهذه العبارة " إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ " ربما يفهم منها التردد ، وأن هناك أمل لازال يرادوه أن يتراجعوا عن اتخاذ مثل هذا القرار !
ثم نعرف فيما بعد أنه أكبرهم ..
ويرفض ان يواجه أباه ، بعد أن يتهم أخوه بالسرقة ..
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
هذه الشخصية الجماعية ، نعيش معها في القصة لحظة القوة والجبروت الذي أدى بهم إلى رمي أخيهم في الجب والتفكير في قتله ..
ثم نجدهم في لحظة انكسار بشرية :
فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
شخصية العزيز :
حين نقرأ القصة نكتشف أن هذا العزيز شخصية ضعيفة أمام زوجته لا يستطيع فعل شيء ، ...
لكن القصة لم تشر إلى ذلك مباشرة ، بل أشارت إليه بطريقة غاية في الإبداع ..
لم يرد على لسان العزيز في هذه القصة سوى عبارة : " وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً " ووردت هذه العبارة قبل أن يتبين لنا أن الذي اشتراه هو عزيز مصر !
أما بعد ذلك فقد غُيب تماما ، رغم أنه حاضر في كثير من المشاهد المفصلية والجوهرية ..
مثلا :
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
مشهد مهم في القصة ..
لكنه يُخرج خارج الحوار تماما ..
هي تتهم يوسف وتقترح العقاب ..
يوسف ينفي التهمة عن نفسه ..
يتحدث أحد أهلها ويدلي بشهادته ..
وما أعتقده هنا أن المقصود هنا : فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
هو " الشاهد " وليس العزيز ..
ما أعتقده أن العزيز لم يكن له دور في هذا الحوار لنستدل من ذلك على شخصيته ..!
شخصية الأب :
الشخصية الحزينة الصابرة ..
لنتخيل معاً المدخل إلى حزن هذا الرجل ..
حين يقول في أول القصة حين طلب منه أن يوافق على ذهاب يوسف :
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
تحدث عن الحزن بشكل عميق واستخدمت هنا " إِنِّي " ولم يقل : إنه ليحزنني .. وفي هذا حسبما أتخيل تدليل على أنه حزن نابع من الداخل ..
حزن خاص ..
سببه هنا أن يوسف سيفارقه ربما ليوم واحد فقط ..
حين يتحدث عن الحزن الذي يسببه غياب يوم واحد ثم تتوالى الأحداث المفجعة بعد ذلك ..
سيجد القاريء نفسه يعيش ويتخيل حزن الأب عند وقوع الحدث دون أن يكون هناك كلمات كثيرة تصف هذا الحزن ..
رجل يقول "إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ " .. فقط
ثم يأتوا عشاءً ليقولوا له : أَكَلَهُ الذِّئْبُ !!
وتكون ردة فعله فقط هي : قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
لم يكن هناك أية إشار إلى الحزن وما أتخيله هنا أن القارئ قد عاش هذا الحزن منذ أن ألقي يوسف في الجب ، فلم يكن هناك حاجة لوصفه .. أو الحديث عنه !
نتابع هذه الشخصية ونعلم ونعيش حزنها ، ثم حين يُطلب منه طلب آخر ..
هذا الطلب الذي قد يعيد حزنه إلى نقطه البداية :
فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
ما أتخيله أن القاريء قد يصرخ ويقول له : لا توافق !
خوفاً عليه من الحزن ، رغم أن هذا الحزن لم يعبر عنه بكلمات لكن القاريء عاشه وتخيله !
ثم تأتي ردة فعله مشابهة تماما للأولى :
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
ولكن العاطفة الأبوية كانت أقوى ..
لايمكن أن نتخيل وصفاً للحزن أدق من هذا :
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (86)
إنه حزن الغياب ..
أولئك الذين يرحلون بعيداً ، كأنهم يأخذون مفاتيح الحياة معهم ..
حين أبيضت عيناه فهمنا أن الحزن لم يكن وليد اللحظة ، بل هو حزن متراكم ..
أنها دموع لم تقف منذ رحيل يوسف ..!
كأنه لم يعد يريد أن يرى أحد بعد أن رحل أحبته ..!
كانا مبرره للنظر ، كانا ما يحتاج عينيه من أجلهما !
والمعجزة التي تتحقق للأب حين يلقى عليه قميص يوسف فيعود بصره لم تكن سوى تأكيد لهذا ..
أصبح للنظر معنى ، وللبصر حاجة !
لايمكن لأي قاص أو كاتب أن يصور أمراً كهذا وبهذه الدقة وبهذا العدد اليسير من الكلمات !
أولهما أن هذا الموضوع كان رداً على سؤال سألتني إياه الأخت فينيسيا والتي كانت تبحث عن رواية مميزة وكان سؤالها تحديدا : أريد أن أعرف ماهي أعظم رواية على مرّ التاريخ ؟!
أما السبب الآخر فهو أني لا أجد نفسي كثيراً ـ ولا قليلاً ـ في الحديث النقدي أو الكتابة الجادة ، وإن فعلت ذلك فإني في الغالب أحب أن لا يكون حديثا وكتابة في العلن ، وما ذلك إلا حفاظاً على سريّة جهلي !!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموضوع :
يجب أن نتفق أولاً على أني سأتناول القصة محاولاً ـ ما أستطعت إلى ذلك سبيلاً ـ تجنب معاملتها كنص قرآني ، بل سأتحدث عنها كقصة مكتوبة قد يقرأها مسلم يتعبد بقرأتها أو قاريء لا يعلم عن الاسلام شيئا ولا يدري أهي قرآن أم رواية لكاتب مجهول بالنسبة له ، ولن أتحدث عن القصة بشكل مفصل بل سألتقط شيئاً من هنا وآخر من هناك في سبيل توضيح ما أريده عن جمال القصة وروعتها كأعظم رواية في التاريخ ،
ورغم أن هذا من توضيح الواضحات كما يقال ، لكنني فعلت وليست أول رعونة أرتكبها ولا أخالها الأخيرة !
.
.
لعل أقرب القصص والروايات المكتوبة إلى النفس البشرية بشكل عام هي تلك التي ترتكز على العنصر إلإنساني ، حيث تظهر وتبرز المشاعر البشرية والكاتب الجيد في الغالب هو الذي يضعنا أمام أنفسنا فيما يكتبه ، نغوص في أعماق حرفه فنجدنا أمام أنفسنا عارية من كل الرتوش والقشور التي نظن أنها لا تنكشف بسهولة !
في هذه القصة يبرز العنصر الإنساني والمشاعر البشرية بكافة أشكالها ، هي قصة تتناول الإنسان بضعفه وقوته وطموحه وفشله وأفراحه وأحزانه ..
تصور بشكل مذهل مشاعر الحب الصادق ، والحسد ، والغيرة ، والكراهية ، والنفاق ، والعطف والشفقة ، والحنين ، والحزن في أصدق آياته !
ونجد فيها تصوير مبدع للسمو الأخلاقي والعفة ، وكذلك الانحطاط والانحلال الأخلاقي دون اسفاف ولا ابتذال !
تجسد هذه القصة " الغياب " كأبرز ملمح مستدر للحزن في على مدى العصور ..
الغياب والفقد هما عكازا الحزن الذي يتوكأ عليهما ليعيث في دواخلنا الخراب !!
.
.
تبدأ قصة يوسف عند الآية الرابعة (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ )(4)
وسنلاحظ مع التقدم في القصة أن الطريقة التي بدأت بها كانت منهجاً يستمر حتى أخرالقصة ، وأعني بهذا المنهج " اللقطات " المفاجئة ، بمعنى أننا نجد أنفسنا أمام مشهد واضح المعالم في القصة ولكنه يفترض أن يكون نهاية لأحداث متتالية لا تذكر ولا يشار إليها في السياق الذي يسبق هذا المشهد !
كثير من أحداث هذه القصة متروكة لتخيل القاريء ، حيث يجد نفسه وهو ينتقل من مشهد إلى مشهد متخيلا كل تلك الأحداث التي دارت بين المشهدين تلك الأحداث التي تربط المشهد السابق بالمشهد اللاحق دون أن يرد لها أي ذكر في سرد القصة !
(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) ..
لا بد أن أحداث سبقت هذه الحدث .. لو أن مؤلفا كتب هذه القصة لحدثنا أولاً عن يوسف وهواياته وأين ينام وكيف نام تلك الليلة وعن مشاعره التي سبقت إخباره لأبيه بما رآه في نومه !
لكن هذا لم يكتب في هذه القصة ، فجأة نجد أنفسنا مع يوسف وهو يروي لأبيه ما رآه في منامه!
نجد أننا أمام هذا المشهد ونتخيل ما دار قبله دون أن يؤثر عدم وجوده على فهمنا أو تفاعلنا مع تلك الأحداث التي سبقته !
ومثل هذه النقلة السريعة والخاطفة المبدعة تتكرر في أكثر من موضع في هذه القصة ..
مثال(1):
قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) .
حين طرحت فكرة أن يلقوه غيابة الجب لابد أن أحداثاً كثيرة حدثت قبل أن يتحدثوا مع أبيهم ويطلبوا منه الموافقة على أخذه معهم ..
فالأمر خطير .. ما أتخيله أنهم ترددوا بعض الشيء وأن أحدهم أخيراً هو من قرر الحديث ..
وحين وقف أمام أبيه تردد ..
ربما أراد أن يتراجع فكر في عواقب أمر كهذا..
ربما ذهب إليه أكثر من مره دون أن يجروء على مثل هذا الطلب !!
كل هذه الأحداث أو ما يمكن أن يكون حدث لم تتم الإشارة إليه ، إنتقل الحدث من مشهد التخطيط إلى مشهد الأبناء أمام أبيهم يطلبون منه هذا الطلب الصعب دون مرور على تفاصيل لم يسقطها من الاعتبار كونها غير مكتوبة ، ولم تقل درجة التأثير على المتلقي الذي عاشها رغم أنه لم يقرا حرفاً واحداً يدل عليها !
مثال (2):
فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (15) وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ (16)
نلاحظ هنا أن الإجماع لم يتم إلا بعد أن ذهبوا به .. أي أن الحدث الذي لم يُشر إليه هو النقاش الذي تم بينهم ..
لابد أن حواراً حاداً دار بينهم ، ما أتخيله أيضاً أن يوسف لم يسلم لهم ويذهب إلى الجب بنفسه ..
لابد أنه استعطفهم ، سألهم عن دوافعهم ..
من المؤكد أن إجاباتهم كانت جافة وقاسية ..
أحداث أيضاً كثيرة لم تصور ولكنها كانت حاضرة وهذا إبداع ليس قبله ولا بعده !
المشهد ينتقل بشكل خاطف إلى بيت الأب وأبناؤه يبكون أمامه !
مثال (3) :
وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
الحدث الذي أتخيله هنا أن يوسف سمع أصوات هذه القافلة ..
لابد أنه استبشر بقدومهم
لابد أن فرحته تضاعفت حين رأى الدلو ،
ربما تعلق به ..
لكن هذا المشهد صور لنا قافلة تبحث عن الماء يرسلون " واردهم " وهو المسؤول عن الماء ، وفجأة نراه يقول : " يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ " .
لابد أنهم تجمعوا حوله وسألوه عن قصته ودار حديث كثير حول قصته وعن أنسب طريقة للتعامل مع هذا الموقف ، لا يمر السرد الروائي على هذه الموقف ولكنه ينقلنا إلى القرا الأخير " وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً" ..!
مثال (4) :
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
كيف كان موقف يوسف وهو في السوق ؟
أو ماهي الطريقة التي باعوه بها؟
نفهم منن القصة أنهم باعوه بثمن قليل دون تفاصيل مكتوبة ، ثم ينتقل المشهد إلى بيت الذي اشتراه !
وهناك أيضاً أحداث أخرى متخيلة لم ترد ضمن السياق ولم يتم العودة إليها ...
حين عاد أخوة يوسف إلى المنزل ..
لا أتخيل انهم ذهبوا تلك الليلة ليناموا وهم مطمئنين ، ما اعتقده أنه كان هناك ما يقلقهم ..
تفكيرهم في أخيهم ..
سياط الأسئلة الذي لم يكن ليرحمهم ..
تأنيب الضمير ..
حين استيقضوا صباحاً ولم يجدوا يوسف ..
أتخيل أن أحدهم كان يتمنى أن كل تلك القصة لم تكن سوى حلم وأنه نهض مسرعاً ليبحث عن أخيه وحين لم يجده تأكد أنه لم يكن يحلم ..!!
لابد أنهم ذهبوا لنفس المكان ليتأكدوا أنه لازال هناك ..
ربما أيضاً حدثتهم أنفسهم إنهم إن وجودوه فسيخرجونه من الجب ويعودون به للمنزل بعد أن رأوا التأثير الواضح لغيابه على أبيهم وأن ما فعلوه لم يحقق الهدف الأساسي " يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ " ..
لابد أن مشاعر مختلطه عنّت لهم حين لم يجدوه في الجب ، مشاعر الفرحة بنجاته من الموت ومشاعر الحزن على فراقه ..
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
بعد أن نراه في المشهد السابق في بيت الذي اشتراه ينتقل المشهد هذه المرة بشكل أعمق وأكبر ويختصر سنوات من عمر يوسف قضاها في هذا المنزل حتى يبلغ أشده ..
هذه السنوات لابد أنه كان فيها العديد من الأحداث لكنه لم يكتب عنها في القصة أية شيء ،لأنها غير مفيدة في السياق الدرامي للقصة .. هي أحداث خارج الحدث !
مثال (5) :
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
وهنا تنتقل الرواية بشكل عنيف وفجائي إلى مشهد مفصلي في القصة ، لم يكن هناك من طريقة لتصوير هذا المشهد الجوهري سوى المباغته !
دون ذكر للأحداث ومالذي تم منذ أن اشتروه حتى بلغ أشده نجد أنفسنا أمام هذا الحدث ، لم ولن يكون هناك أروع من هذه الطريقة في إعطاء المشهد حقه ..
لا يمكن أن نتخيل أن هذه " المراودة " كانت وليدة اللحظة ..
لابد أن قبلها كثير من المقدمات ، كثير من التغنج ربما على مدى أشهر أو سنوات ، كثير من الأحداث وصلت بهذه المرأة إلى أن تفقد صبرها و"تغّلق" الأبواب وتنزل من كبريائها كسيدة للمنزل وتطلب من خادمها مثل هذا الطلب ..
لو أن هذه الأحداث كتبت في سياق القصة لفقد هذا المشهد الأخير قوته .. لأصبح مشهداً عادياً ومتوقعاً في أي لحظه !
مثال (6) :
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30)
كيف تسرب الخبر إلى نسوة المدينة ؟!
أيضاً هذا متروك لتخيل القاريء !
مثال (7) :
ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
الأحداث المتخيلة هنا تتعلق بطريقة سجنه ..
ربما دفاعه عن نفسه ..
وأحداث تتعلق بالسجن نفسه ..
كيف كان يتصرف ..
لم يصل الفتيان إلى نتيجة "إِنَّاَّ نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ " إلاّ بعد أن دار بينهما أحاديث طويلة ..
لم يسألاه عن تأويل حلميهما إلا بعد أن عرفا قدرته على هذا الأمر من خلال أحداث أخرى ..
وربما أوّل غيرها من الأحلام في السجن لكنها لم تكن ذات علاقة بالسياق الدرامي لقصة فلم تذكر ولم يتم الإشارة إليها ..
كان التصوير لهذه الأحداث عن طريق مشاهد متباعدة زمنيا لكنها مترابطة درامياً ولم تزد القصة إلا روعة وتشويقاً !
مثال (8) :
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
لابد أن صاحب يوسف في السجن وبعد أن نسي قصته عاد وتذكره بعد رؤيا الملك ، خطر في باله فجأة ..
ربما أنبه ضميره على نسيانه ..
وحين قال للملك "أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ" لابد أيضا أن الملك سأله : إلى أين ؟
وحين أخبره أنه إلى السجن ربما سأل الملك عن هذا السجين ، وكيف عرف هذا الرجل أن سجين كهذا يستطيع أن يحل هذه الرؤيا اللغز ..
المشهد ينتقل إلى السجن مباشرة بعد نهاية حديث الرجل " ساقي الملك " دون إشارة إلى موافقة الملك ..
أحداث وحوارات كثيرة حدثت ولم يشر إليها ولكنها كسابقاتها لا تسقط من ذهن القاريء حتى وإن لم تكتب .. !
مثال (9) :
(وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ..)
طلب الملك أن يؤتى بالسجين وحين رفض السجين أن يخرج إلا بعد أن تكشف الحقيقة ، وجدنا الملك يخاطب النسوة " المتهمات " مباشرة ..
دعونا نتخيل أن الملك وافق على استدعائهن ، ..
وسأل عن القصة قبل أن يصلن إليه .. وفهمها أو كان لديه تصور كامل عنها ..
وفي المقابل فإن هؤلاء النسوة حين بلغهم استدعاء الملك لابد أنهن ارتبكن ، بعضهن بحثت عن حجة لكي لا تحضر ..
كل هذا متوقع ومفهوم من سياق النص ..
النص الذي يقفز فوق كل هذه الأحداث الهامشية لينقلنا مباشرة إلى سؤال " تقريري " من الملك الذي فهم الموضوع بكافة قبل أن يسأل .. " مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ " ..
أي أن المراودة حدثت ولا نقاش فيها ، لكن ماهي اسبابكن ؟!
لازال هناك أكثر من مثال على هذا الاسلوب في قصة يوسف .. ولكني سأكتفي بما سبق وسأنتقل لشيء آخر .. أو لقطات أخرى أستدل بها على جماليات أخرى ..!
الشخصيات :
من أجمل ما في هذه القصة ـ وكلها جميلة ـ العلاقات بين الشخصيات وطريقة ربطها وتصوير انفعالاتها ..
من أمثلة ذلك ..
أخوة يوسف من أبيه:
تم التعامل مع هذه الشخصيات في القصة رغم أن عددهم هو عشرة كما فهم من سياق القصة ككتلة واحدة وكشخصية واحدة ..
تتحدث بشكل عام ..
فهم طلبوا من أبيهم أن يأخذوا يوسف ،..
وهم جاؤوا عشاء يبكون ..
وهم الذين قالوا " ذهبنا نستبق "
وهم طلبوا من أبيهم أن يأخذوا أخا يوسف ، ..
وهم قالوا أن الكيل منع عنهم
كل تصرفاتهم جماعية ..
لكن الإبداع في القصة يبين لنا بطريق غير مباشر أن أحد هؤلاء العشرة شخصية مضطربة ، متردده ، يفعل ما مايراد منه دون اقتناع ..
هنا مثلا :
قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10)
لا يريد أن يواجههم مباشرة لكنه يقترح حلولاً أقل ضرراً وهذه العبارة " إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ " ربما يفهم منها التردد ، وأن هناك أمل لازال يرادوه أن يتراجعوا عن اتخاذ مثل هذا القرار !
ثم نعرف فيما بعد أنه أكبرهم ..
ويرفض ان يواجه أباه ، بعد أن يتهم أخوه بالسرقة ..
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
هذه الشخصية الجماعية ، نعيش معها في القصة لحظة القوة والجبروت الذي أدى بهم إلى رمي أخيهم في الجب والتفكير في قتله ..
ثم نجدهم في لحظة انكسار بشرية :
فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
شخصية العزيز :
حين نقرأ القصة نكتشف أن هذا العزيز شخصية ضعيفة أمام زوجته لا يستطيع فعل شيء ، ...
لكن القصة لم تشر إلى ذلك مباشرة ، بل أشارت إليه بطريقة غاية في الإبداع ..
لم يرد على لسان العزيز في هذه القصة سوى عبارة : " وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً " ووردت هذه العبارة قبل أن يتبين لنا أن الذي اشتراه هو عزيز مصر !
أما بعد ذلك فقد غُيب تماما ، رغم أنه حاضر في كثير من المشاهد المفصلية والجوهرية ..
مثلا :
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
مشهد مهم في القصة ..
لكنه يُخرج خارج الحوار تماما ..
هي تتهم يوسف وتقترح العقاب ..
يوسف ينفي التهمة عن نفسه ..
يتحدث أحد أهلها ويدلي بشهادته ..
وما أعتقده هنا أن المقصود هنا : فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
هو " الشاهد " وليس العزيز ..
ما أعتقده أن العزيز لم يكن له دور في هذا الحوار لنستدل من ذلك على شخصيته ..!
شخصية الأب :
الشخصية الحزينة الصابرة ..
لنتخيل معاً المدخل إلى حزن هذا الرجل ..
حين يقول في أول القصة حين طلب منه أن يوافق على ذهاب يوسف :
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
تحدث عن الحزن بشكل عميق واستخدمت هنا " إِنِّي " ولم يقل : إنه ليحزنني .. وفي هذا حسبما أتخيل تدليل على أنه حزن نابع من الداخل ..
حزن خاص ..
سببه هنا أن يوسف سيفارقه ربما ليوم واحد فقط ..
حين يتحدث عن الحزن الذي يسببه غياب يوم واحد ثم تتوالى الأحداث المفجعة بعد ذلك ..
سيجد القاريء نفسه يعيش ويتخيل حزن الأب عند وقوع الحدث دون أن يكون هناك كلمات كثيرة تصف هذا الحزن ..
رجل يقول "إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ " .. فقط
ثم يأتوا عشاءً ليقولوا له : أَكَلَهُ الذِّئْبُ !!
وتكون ردة فعله فقط هي : قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
لم يكن هناك أية إشار إلى الحزن وما أتخيله هنا أن القارئ قد عاش هذا الحزن منذ أن ألقي يوسف في الجب ، فلم يكن هناك حاجة لوصفه .. أو الحديث عنه !
نتابع هذه الشخصية ونعلم ونعيش حزنها ، ثم حين يُطلب منه طلب آخر ..
هذا الطلب الذي قد يعيد حزنه إلى نقطه البداية :
فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
ما أتخيله أن القاريء قد يصرخ ويقول له : لا توافق !
خوفاً عليه من الحزن ، رغم أن هذا الحزن لم يعبر عنه بكلمات لكن القاريء عاشه وتخيله !
ثم تأتي ردة فعله مشابهة تماما للأولى :
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
ولكن العاطفة الأبوية كانت أقوى ..
لايمكن أن نتخيل وصفاً للحزن أدق من هذا :
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (86)
إنه حزن الغياب ..
أولئك الذين يرحلون بعيداً ، كأنهم يأخذون مفاتيح الحياة معهم ..
حين أبيضت عيناه فهمنا أن الحزن لم يكن وليد اللحظة ، بل هو حزن متراكم ..
أنها دموع لم تقف منذ رحيل يوسف ..!
كأنه لم يعد يريد أن يرى أحد بعد أن رحل أحبته ..!
كانا مبرره للنظر ، كانا ما يحتاج عينيه من أجلهما !
والمعجزة التي تتحقق للأب حين يلقى عليه قميص يوسف فيعود بصره لم تكن سوى تأكيد لهذا ..
أصبح للنظر معنى ، وللبصر حاجة !
لايمكن لأي قاص أو كاتب أن يصور أمراً كهذا وبهذه الدقة وبهذا العدد اليسير من الكلمات !
تعليق