الإرهاب
وجهة نظر منعكسة
تأليف
إبراهيم الصقر
........................
........................
نظر إلي بتعجب وقال: لم الحزن يا صاحبي؟؟ لم الشرود يا فتى؟؟
نظرت إليه بانكسار وقلت: "أنا في ورطة" !
قال لي: خيراً إن شاء الله ما الأمر؟
قلت: لقد طلب مني أستاذي أن اكتب مقالة عن الإرهاب
قال لي: حسناً وما المشكلة في ذلك
قلت: المشكلة أني لا اعرف شيئا عن هذا الموضوع والأسوأ من ذلك انه لم يبقى إلا ساعتان على موعد تسليم المقالة, فماذا افعل
تنهد ثم قال: يا رجل لقد أخفتني, أهذا كل شيء
وأردف قائلا بعد أن رأى الامتعاض في قسمات وجهي: لا تهتم, سأساعدك
ألصقت وجهي بوجهه بسرعة وقلت: حقا, هل تستطيع أن تساعدني, هل تعرف شيئا عن الإرهاب والإرهابيين والمشاكل التي جروها على المجتمع و..
ولكنه قاطعني قائلا: على رسلك يا فتى
ثم تراجع إلى الخلف قليلا وتنحنح ثم قال: لنناقش الأمور بالترتيب, أولا ما هو تعريف الإرهاب ثم من هم الإرهابيين ثم ما هو موقف المجتمع منهم
قلت له: حسناً, ما هو الإرهاب ؟
قال: الإرهاب هو ترويع الإنسان وأخافته وظلمه وإذلاله وجعله في حالة رعب دائم متوقعا حدوث مصيبة في أي مكان وأي زمان
تراجعت إلى الخلف قليلا وأنا مرتعب وقلت: أعوذ بالله, يا لطيف ومن هم هؤلاء الأشرار الذين يفعلون هذا الشيء بمجتمعنا ؟
قال: إنهم أناس مثلنا يلبسون ملابسنا ويتكلمون بلغتنا ويعيشون بيننا بل إنهم منا وفينا
قلت: ماذا تقول !! يعيشون بيننا ومنا وفينا, هل هذا معقول, ولكني لم أرى أحداً منهم !!
قال بهدوء: لأنك لم تلاحظهم
قلت: كيف ذلك !!
قال: سأطرح عليك بعض الأمثلة التي عاصرتها أنت
سحبت كرسيا وجلست استمع إليه, فقال: لنعد إلى أيام طفولتك وتحديدا إلى أيام دراستك الابتدائية هل تذكر ذلك الطالب القصير الضئيل الجسم محمد الذي كان يجلس أمامك في الفصل
قلت: نعم
قال: هل تذكر عندما جاء متأخرا عن طابور الصباح بخمس دقائق, عندما وقع في يد وكيل المدرسة
قاطعته قائلا: الغوريلا السفاح, كنا نسميه هكذا كان ضخم الجثة وكان مفتول العضلات كالمصارعين وكان عديم الرحمة
قال: وهل تذكر ما فعل بالطفل محمد
قلت: لقد لطمه بقوه ((قبل أن يكلمه)) لطمة ارتطم على إثرها راس محمد بالجدار وأخذ الدم يسيل بغزاره من انفه ((رعاف))
فقال لي: وماذا فعل بعدها الوكيل هل اعتذر أم ماذا فعل
قلت: لا بل امسكه من مقدمة شعر رأسه واخذ يهزه إلى الأمام والخلف ثم أرقده على ظهره وأمر الحارس أن يصب قليلا من الماء على رأسه
قال: وهل كان هذا على مرأى من الطلاب!! وما ذا كان انطباعهم؟؟
قلت: نعم كل المدرسة كانت تنظر وكنا نرتجف من الرعب
صرخ: بالضبط !!
قلت: ماذا؟!!
قال: كان هذا أول إرهابي تقابله في حياتك
فكرت لبرهة ثم قلت: اضن بأنك على حق, ولكنك قلت أن الإرهابيين هم من ينشرون الخوف والهلع في قلوب الناس
فقال لي: وماذا كان شعورك وأنت تتوجه إلى المدرسة كل يوم هل كنت منشرحا
قلت بعد صمت قصيرا: الحقيقة كنت أشعر بالضيق المشوب ببعض الخوف وتوقع حدوث شيء مماثل لي في أحد الأيام بل كان في حكم المؤكد بان شيء مثل هذا سيحصل لي عاجلاً أم آجلاً
ارتسمت على وجهه ابتسامة خبيثة سألني على إثرها: وهل حصل لك مثل ذلك؟
فصرخت به: أيها الأحمق كلنا حصل لنا نفس الشيء بلا استثناء كلنا شربنا من نفس الكأس
قال بهدوء: أرأيت, لم يسلم من إرهابهم أحد
ثم أردف: سأعطيك مثال أخر, وفي هذه المرة لننتقل إلى المرحلة المتوسطة, هل تذكر الطالب المدعو بسلطان الذي فاز بسباق الماراثون على مستوى المملكة, هل تذكرته
اقشعر جسدي وأحسست بالغثيان وقلت بعد أن شربت قليلا من الماء: نعم تذكرته, كنا في أيام الاختبارات النهائية وكنا متواجدين خارج المدرسة جالسين مسندين ظهورنا إلى جدارها الخارجي بجانب الباب الرئيسي في مراجعة أخيرة قبل الدخول إلى الامتحان وكان يجلس على بعد خمسة أمتار عني
فسكت قليلا فبادرني قائلا: أكمل وماذا حصل بعد ذلك؟
قلت: أتت سيارة احد الشباب المفحطين واندفعت باتجاهه بعد أن فقد سائقها السيطرة عليها وارتطم صدامها برأسه فحطمه, لقد كان رجال الهلال الأحمر يحاولون تجميع قطع رأسه ودماغه الملتصقة بالجدار
فقال لي: وماذا كان شعورك ؟
قلت: شعرت بالخوف الشديد حتى أنني أصبحت ارتجف لمجرد سماع صوت مكابح أي سيارة
صرخ: وهذا أيضا إرهاب
قلت له بعد تردد: نعم أضن بأنك محق في هذا أيضا
قال: بكل تأكيد, وهؤلاء الإرهابيون كثيرون جدا وفي ازدياد ولا توجد وسيلة فعالة لردعهم
وأردف قائلا: هل تعلم كم يموت من المواطنين في حوادث التفحيط والدهس سنويا هل تعلم كم من عائلة تفقد عائلها وكم من طفل يتيم بسبب هؤلاء الإرهابيين سنويا
قلت بصوت منخفض: اعلم انه عدد هائل واعلم بأن اكبر نسبة وفيات من جراء حوادث السير في العالم موجودة عندنا
قال: لننتقل الآن إلى بداية المرحلة الثانوية
قلت له: وماذا بعد يا وجه البوم !!
قال: هل تذكر الحافلة التي كانت تنقل المدرسات من بنات شارعكم إلى مدارسهم في القرى الواقعة خارج مدينة الرياض
قلت: نعم لقد انقلبت على الطريق السريع واحترقت وتوفي كل من فيها, ولكن ما دخل هذا بالإرهاب, لا تقل لي إن سائقي الحافلات إرهابيون أيضا!!
ضحك بصوت عالي لمدة قصيرة ثم توقف ونظر إلي نظرة جادة ثم قال بصوت عالي: بل من أرسلهن إلى هذه المدارس ومن أجبرهن على قطع هذه المسافات الطويلة وعرضهن لهذه المخاطر, الإرهابيون هم المسئولون عن خطة تنقل وتوزيع المعلمات, ولا تقل لي لا يوجد حل أخر وأنه يجب على المعلمات أن يدرسن في المدن والقرى البعيدة, ولا تقل لي بأنك لم تسمع بتقنيات التعليم عن بعد, نحن في العصر الحادي والعشرين ياناااس!!
أطرقت قليلا وقلت: أنت محق للمرة الثالثة
أعتدل في جلسته ثم قال: دعنا من الماضي وانظر إلى الحاضر
قلت باستغراب: الحاضر ؟
قال : نعم الحاضر, ما هو الحدث الأكثر أهمية الآن, ما الذي يشغل الناس الآن, ما الذي تتكلم فيه كل المجالس وما هو محور اهتمام الشارع هذه الأيام
قلت: اعرف, اعرف, العراق
نظر إلي بازدراء وقال: لا يا غبي!!, بل انهيار سوق الأسهم, الطامة الكبرى, ضياع مدخرات آلاف المساهمين وخراب بيوتهم
قلت: ماذا حدث؟
قال: ماذا لا تقل انك لا تعرف شيئا عن هذا, هيه أين تعيش يا فتى !!
قلت له: اترك عنك أسلوب التهكم واجب على سؤالي فأنت من يتكلم عن الارهاب وليس أنا
قال: حسنا, بعد ازدهار السوق وارتفاع الأسهم وازدياد عدد المضاربين في السوق حدث الانهيار الكبير, انهيار ليس له في التاريخ مثيل ما يزيد على الأسبوع والأسهم تفقد عشر قيمتها يوميا والسوق قد اغرق بطلبات البيع لدرجة من غير أن يوجد طلبات شراء مما نتج عنه تجمد الأسهم لعدم وجود المشتري لها, يعني بكل بساطة مسلسل تعذيب لأصحاب الأسهم وهم يرون مدخراتهم وتحويشات أعمارهم تتناقص يوميا دون أن يستطيعوا فعل شيء
قلت: غير معقول, وأين وزراة المالية؟ أين مؤسسة النقد؟ لما لم تتدخل لتحل المشكلة أو حتى توقف السوق حتى إيجاد حل للمشكلة, لا بد أنهم يعملون على ذلك الآن
قال لي: والله انك لجاهل, يا قليل العقل لو كانوا يريدون التحرك لتحركوا من أول يوم أو على أقل تقدير في اليوم الثاني, ولكن لا حياة لمن تنادي, هل تعلم أن انهيار مشابه حصل في بورصة الهند وتم إيقاف السوق في نفس اليوم في الفترة المسائية وتم حل المشكلة في اليوم التالي, واليوم هو اليوم التاسع على الانهيار الكبير في البورصة السعودية ولا يوجد أي تحرك لإيجاد أي حل, لا ومن المضحك المبكي امتلاء الصحف بتصريحات الهوامير (صناع السوق!!) وتشدقاتهم بان ما يجري هو مجرد تصحيح طبيعي لأسعار الأسهم لأنها ارتفعت فوق معدلاتها الطبيعية, والواقع أن ما يجري هو تصحيح لمحافظ المساهمين الصغار وإعادتهم إلى بيوتهم صفر اليدين !! وهذا هو وضعهم الطبيعي !! (من وجهة نظر الهوامير)
قلت له بصوت متقطع وبحذر: وهل هذا إرهاب؟
صرخ: نعم إرهاب !! قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق, ماذا حل بالكثيرين الذين استدانوا أموالا والأمل يحدوهم في تنميتها في البورصة لكي يؤمنوا مهر الزواج أو ثمن منزل المستقبل, ماذا حل بجاركم الذي باع بيته ودخل بثمنه في السوق لكي يصرف على أولاده الخمسة (العاطلين عن العمل)وبناته السبعة ولكي يزوج ابناه الذين تخطوا الخامسة والثلاثين في هذا الصيف, ماذا حصل له بعد تحطم أحلامه وضياع أمواله
قلت: مازال في غيبوبة في المستشفى
قال: ومن المتسبب في ذلك ؟
قلت: اعرف ستقول الإرهابيين من الهوامير وصناع السوق
قال: نعم ولكن ليس فقط هم بل تشاركهم الارهاب مؤسسة النقد ووزارة المالية و..
ولكنني قفزت عليه وكممت فمه بيدي وقلت: اسكت يا أبا المصائب, أسكت قبل أن تضيع مستقبلي, أسكت ودعنا نعيش
ابتسم بعد أن أزاح يدي عن فمه وقال "وأستطيع إعطائك المئات والمئات من أمثلة الإرهاب"
ولكنني قاطعته: حسناً حسناً لقد استوعبت الفكرة وفهمت قصدك ولكن دعنا نذهب إلى الحل, كيف نحل مشكلة الإرهاب؟
تراجع إلى الخلف وهز كتفيه وقال: وكيف لي أن اعرف ! , لم يعلمنا احد كيف نحل مشاكلنا, ولم يطلب منا احد قط أن نحاول حل مشاكلنا وحتى وان كنا حاولنا فلم يكن يكترث لحلونا احد
ثم تنهد وقال: لقد تعودنا على أن نتعود على المشاكل, وان نعتبرها من المسلمات ومن الروتين اليومي في حياتنا
أخذت احك راسي ثم قلت: أضن بأنك محق بهذه أيضا, ولكن ما موقف المجتمع من هؤلاء الإرهابيين ؟
ابتسم ابتسامة عريضة ثم قال: المجتمع يا صاحبي هو أنا وأنت, فما هو موقفك أنت منهم ؟
فما كان مني إلا أن صرخت: أنا اكرههم.. اكرههم بشدة.. اكرههم .. اكرههممممممممممم
بداء الباب يطرق طرقات سريعة وقوية مصحوبا بصوت والدي الذي بدآ على صوته الوجل: ماذا حصل!! .. ولدي هل أنت بخير.. هل كل شيء على ما يرام
التفت إلى الباب وقلت بخجل: لاشيء.. لاشيء.. لا تخف كل شيء على ما يرام
فقال أبي: حسناً يا بني لقد اقترب موعد انطلاقك إلى مدرستك.. هيا لا تتأخر
فقلت بصوت مرتفع قليلا: حاضر.. لا تقلق سأذهب بعد قليل
التفت إلى المرآة ولوحت لصورتي المنعكسة عليها وقلت: شكرا لك يا صاحبي على مساعدتي في كتابة هذه المقالة أو بالأصح القصة.. أراك لاحقا.
...........
إبراهيم الصقر
وجهة نظر منعكسة
تأليف
إبراهيم الصقر
........................
........................
نظر إلي بتعجب وقال: لم الحزن يا صاحبي؟؟ لم الشرود يا فتى؟؟
نظرت إليه بانكسار وقلت: "أنا في ورطة" !
قال لي: خيراً إن شاء الله ما الأمر؟
قلت: لقد طلب مني أستاذي أن اكتب مقالة عن الإرهاب
قال لي: حسناً وما المشكلة في ذلك
قلت: المشكلة أني لا اعرف شيئا عن هذا الموضوع والأسوأ من ذلك انه لم يبقى إلا ساعتان على موعد تسليم المقالة, فماذا افعل
تنهد ثم قال: يا رجل لقد أخفتني, أهذا كل شيء
وأردف قائلا بعد أن رأى الامتعاض في قسمات وجهي: لا تهتم, سأساعدك
ألصقت وجهي بوجهه بسرعة وقلت: حقا, هل تستطيع أن تساعدني, هل تعرف شيئا عن الإرهاب والإرهابيين والمشاكل التي جروها على المجتمع و..
ولكنه قاطعني قائلا: على رسلك يا فتى
ثم تراجع إلى الخلف قليلا وتنحنح ثم قال: لنناقش الأمور بالترتيب, أولا ما هو تعريف الإرهاب ثم من هم الإرهابيين ثم ما هو موقف المجتمع منهم
قلت له: حسناً, ما هو الإرهاب ؟
قال: الإرهاب هو ترويع الإنسان وأخافته وظلمه وإذلاله وجعله في حالة رعب دائم متوقعا حدوث مصيبة في أي مكان وأي زمان
تراجعت إلى الخلف قليلا وأنا مرتعب وقلت: أعوذ بالله, يا لطيف ومن هم هؤلاء الأشرار الذين يفعلون هذا الشيء بمجتمعنا ؟
قال: إنهم أناس مثلنا يلبسون ملابسنا ويتكلمون بلغتنا ويعيشون بيننا بل إنهم منا وفينا
قلت: ماذا تقول !! يعيشون بيننا ومنا وفينا, هل هذا معقول, ولكني لم أرى أحداً منهم !!
قال بهدوء: لأنك لم تلاحظهم
قلت: كيف ذلك !!
قال: سأطرح عليك بعض الأمثلة التي عاصرتها أنت
سحبت كرسيا وجلست استمع إليه, فقال: لنعد إلى أيام طفولتك وتحديدا إلى أيام دراستك الابتدائية هل تذكر ذلك الطالب القصير الضئيل الجسم محمد الذي كان يجلس أمامك في الفصل
قلت: نعم
قال: هل تذكر عندما جاء متأخرا عن طابور الصباح بخمس دقائق, عندما وقع في يد وكيل المدرسة
قاطعته قائلا: الغوريلا السفاح, كنا نسميه هكذا كان ضخم الجثة وكان مفتول العضلات كالمصارعين وكان عديم الرحمة
قال: وهل تذكر ما فعل بالطفل محمد
قلت: لقد لطمه بقوه ((قبل أن يكلمه)) لطمة ارتطم على إثرها راس محمد بالجدار وأخذ الدم يسيل بغزاره من انفه ((رعاف))
فقال لي: وماذا فعل بعدها الوكيل هل اعتذر أم ماذا فعل
قلت: لا بل امسكه من مقدمة شعر رأسه واخذ يهزه إلى الأمام والخلف ثم أرقده على ظهره وأمر الحارس أن يصب قليلا من الماء على رأسه
قال: وهل كان هذا على مرأى من الطلاب!! وما ذا كان انطباعهم؟؟
قلت: نعم كل المدرسة كانت تنظر وكنا نرتجف من الرعب
صرخ: بالضبط !!
قلت: ماذا؟!!
قال: كان هذا أول إرهابي تقابله في حياتك
فكرت لبرهة ثم قلت: اضن بأنك على حق, ولكنك قلت أن الإرهابيين هم من ينشرون الخوف والهلع في قلوب الناس
فقال لي: وماذا كان شعورك وأنت تتوجه إلى المدرسة كل يوم هل كنت منشرحا
قلت بعد صمت قصيرا: الحقيقة كنت أشعر بالضيق المشوب ببعض الخوف وتوقع حدوث شيء مماثل لي في أحد الأيام بل كان في حكم المؤكد بان شيء مثل هذا سيحصل لي عاجلاً أم آجلاً
ارتسمت على وجهه ابتسامة خبيثة سألني على إثرها: وهل حصل لك مثل ذلك؟
فصرخت به: أيها الأحمق كلنا حصل لنا نفس الشيء بلا استثناء كلنا شربنا من نفس الكأس
قال بهدوء: أرأيت, لم يسلم من إرهابهم أحد
ثم أردف: سأعطيك مثال أخر, وفي هذه المرة لننتقل إلى المرحلة المتوسطة, هل تذكر الطالب المدعو بسلطان الذي فاز بسباق الماراثون على مستوى المملكة, هل تذكرته
اقشعر جسدي وأحسست بالغثيان وقلت بعد أن شربت قليلا من الماء: نعم تذكرته, كنا في أيام الاختبارات النهائية وكنا متواجدين خارج المدرسة جالسين مسندين ظهورنا إلى جدارها الخارجي بجانب الباب الرئيسي في مراجعة أخيرة قبل الدخول إلى الامتحان وكان يجلس على بعد خمسة أمتار عني
فسكت قليلا فبادرني قائلا: أكمل وماذا حصل بعد ذلك؟
قلت: أتت سيارة احد الشباب المفحطين واندفعت باتجاهه بعد أن فقد سائقها السيطرة عليها وارتطم صدامها برأسه فحطمه, لقد كان رجال الهلال الأحمر يحاولون تجميع قطع رأسه ودماغه الملتصقة بالجدار
فقال لي: وماذا كان شعورك ؟
قلت: شعرت بالخوف الشديد حتى أنني أصبحت ارتجف لمجرد سماع صوت مكابح أي سيارة
صرخ: وهذا أيضا إرهاب
قلت له بعد تردد: نعم أضن بأنك محق في هذا أيضا
قال: بكل تأكيد, وهؤلاء الإرهابيون كثيرون جدا وفي ازدياد ولا توجد وسيلة فعالة لردعهم
وأردف قائلا: هل تعلم كم يموت من المواطنين في حوادث التفحيط والدهس سنويا هل تعلم كم من عائلة تفقد عائلها وكم من طفل يتيم بسبب هؤلاء الإرهابيين سنويا
قلت بصوت منخفض: اعلم انه عدد هائل واعلم بأن اكبر نسبة وفيات من جراء حوادث السير في العالم موجودة عندنا
قال: لننتقل الآن إلى بداية المرحلة الثانوية
قلت له: وماذا بعد يا وجه البوم !!
قال: هل تذكر الحافلة التي كانت تنقل المدرسات من بنات شارعكم إلى مدارسهم في القرى الواقعة خارج مدينة الرياض
قلت: نعم لقد انقلبت على الطريق السريع واحترقت وتوفي كل من فيها, ولكن ما دخل هذا بالإرهاب, لا تقل لي إن سائقي الحافلات إرهابيون أيضا!!
ضحك بصوت عالي لمدة قصيرة ثم توقف ونظر إلي نظرة جادة ثم قال بصوت عالي: بل من أرسلهن إلى هذه المدارس ومن أجبرهن على قطع هذه المسافات الطويلة وعرضهن لهذه المخاطر, الإرهابيون هم المسئولون عن خطة تنقل وتوزيع المعلمات, ولا تقل لي لا يوجد حل أخر وأنه يجب على المعلمات أن يدرسن في المدن والقرى البعيدة, ولا تقل لي بأنك لم تسمع بتقنيات التعليم عن بعد, نحن في العصر الحادي والعشرين ياناااس!!
أطرقت قليلا وقلت: أنت محق للمرة الثالثة
أعتدل في جلسته ثم قال: دعنا من الماضي وانظر إلى الحاضر
قلت باستغراب: الحاضر ؟
قال : نعم الحاضر, ما هو الحدث الأكثر أهمية الآن, ما الذي يشغل الناس الآن, ما الذي تتكلم فيه كل المجالس وما هو محور اهتمام الشارع هذه الأيام
قلت: اعرف, اعرف, العراق
نظر إلي بازدراء وقال: لا يا غبي!!, بل انهيار سوق الأسهم, الطامة الكبرى, ضياع مدخرات آلاف المساهمين وخراب بيوتهم
قلت: ماذا حدث؟
قال: ماذا لا تقل انك لا تعرف شيئا عن هذا, هيه أين تعيش يا فتى !!
قلت له: اترك عنك أسلوب التهكم واجب على سؤالي فأنت من يتكلم عن الارهاب وليس أنا
قال: حسنا, بعد ازدهار السوق وارتفاع الأسهم وازدياد عدد المضاربين في السوق حدث الانهيار الكبير, انهيار ليس له في التاريخ مثيل ما يزيد على الأسبوع والأسهم تفقد عشر قيمتها يوميا والسوق قد اغرق بطلبات البيع لدرجة من غير أن يوجد طلبات شراء مما نتج عنه تجمد الأسهم لعدم وجود المشتري لها, يعني بكل بساطة مسلسل تعذيب لأصحاب الأسهم وهم يرون مدخراتهم وتحويشات أعمارهم تتناقص يوميا دون أن يستطيعوا فعل شيء
قلت: غير معقول, وأين وزراة المالية؟ أين مؤسسة النقد؟ لما لم تتدخل لتحل المشكلة أو حتى توقف السوق حتى إيجاد حل للمشكلة, لا بد أنهم يعملون على ذلك الآن
قال لي: والله انك لجاهل, يا قليل العقل لو كانوا يريدون التحرك لتحركوا من أول يوم أو على أقل تقدير في اليوم الثاني, ولكن لا حياة لمن تنادي, هل تعلم أن انهيار مشابه حصل في بورصة الهند وتم إيقاف السوق في نفس اليوم في الفترة المسائية وتم حل المشكلة في اليوم التالي, واليوم هو اليوم التاسع على الانهيار الكبير في البورصة السعودية ولا يوجد أي تحرك لإيجاد أي حل, لا ومن المضحك المبكي امتلاء الصحف بتصريحات الهوامير (صناع السوق!!) وتشدقاتهم بان ما يجري هو مجرد تصحيح طبيعي لأسعار الأسهم لأنها ارتفعت فوق معدلاتها الطبيعية, والواقع أن ما يجري هو تصحيح لمحافظ المساهمين الصغار وإعادتهم إلى بيوتهم صفر اليدين !! وهذا هو وضعهم الطبيعي !! (من وجهة نظر الهوامير)
قلت له بصوت متقطع وبحذر: وهل هذا إرهاب؟
صرخ: نعم إرهاب !! قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق, ماذا حل بالكثيرين الذين استدانوا أموالا والأمل يحدوهم في تنميتها في البورصة لكي يؤمنوا مهر الزواج أو ثمن منزل المستقبل, ماذا حل بجاركم الذي باع بيته ودخل بثمنه في السوق لكي يصرف على أولاده الخمسة (العاطلين عن العمل)وبناته السبعة ولكي يزوج ابناه الذين تخطوا الخامسة والثلاثين في هذا الصيف, ماذا حصل له بعد تحطم أحلامه وضياع أمواله
قلت: مازال في غيبوبة في المستشفى
قال: ومن المتسبب في ذلك ؟
قلت: اعرف ستقول الإرهابيين من الهوامير وصناع السوق
قال: نعم ولكن ليس فقط هم بل تشاركهم الارهاب مؤسسة النقد ووزارة المالية و..
ولكنني قفزت عليه وكممت فمه بيدي وقلت: اسكت يا أبا المصائب, أسكت قبل أن تضيع مستقبلي, أسكت ودعنا نعيش
ابتسم بعد أن أزاح يدي عن فمه وقال "وأستطيع إعطائك المئات والمئات من أمثلة الإرهاب"
ولكنني قاطعته: حسناً حسناً لقد استوعبت الفكرة وفهمت قصدك ولكن دعنا نذهب إلى الحل, كيف نحل مشكلة الإرهاب؟
تراجع إلى الخلف وهز كتفيه وقال: وكيف لي أن اعرف ! , لم يعلمنا احد كيف نحل مشاكلنا, ولم يطلب منا احد قط أن نحاول حل مشاكلنا وحتى وان كنا حاولنا فلم يكن يكترث لحلونا احد
ثم تنهد وقال: لقد تعودنا على أن نتعود على المشاكل, وان نعتبرها من المسلمات ومن الروتين اليومي في حياتنا
أخذت احك راسي ثم قلت: أضن بأنك محق بهذه أيضا, ولكن ما موقف المجتمع من هؤلاء الإرهابيين ؟
ابتسم ابتسامة عريضة ثم قال: المجتمع يا صاحبي هو أنا وأنت, فما هو موقفك أنت منهم ؟
فما كان مني إلا أن صرخت: أنا اكرههم.. اكرههم بشدة.. اكرههم .. اكرههممممممممممم
بداء الباب يطرق طرقات سريعة وقوية مصحوبا بصوت والدي الذي بدآ على صوته الوجل: ماذا حصل!! .. ولدي هل أنت بخير.. هل كل شيء على ما يرام
التفت إلى الباب وقلت بخجل: لاشيء.. لاشيء.. لا تخف كل شيء على ما يرام
فقال أبي: حسناً يا بني لقد اقترب موعد انطلاقك إلى مدرستك.. هيا لا تتأخر
فقلت بصوت مرتفع قليلا: حاضر.. لا تقلق سأذهب بعد قليل
التفت إلى المرآة ولوحت لصورتي المنعكسة عليها وقلت: شكرا لك يا صاحبي على مساعدتي في كتابة هذه المقالة أو بالأصح القصة.. أراك لاحقا.
...........
إبراهيم الصقر
تعليق