الخميس, مايو 27, 2004
أعطني حريتي لأترك لك سجيتي
كنت وأنا صغير أرى أطفالاً يلعبون في الطريق فأقول في نفسي هل يسمح لي أن ألعب كما يلعبون وهل يسمحون لأنفسهم أن يراهم الناس كما لا اسمح لنفسي أن أتقدم فيهم فلا ألومهم ولا يلومونني إذ رأوني متفرجاً وإذ رأيتهم منطلقين في لعبهم بكل جرأة وسرور.
حاولت ذلك مرة فما وجدتني بعدها قادراً على الاستمرار والمتابعة لأن اللعب عندي كان يتطلب مني أن أضحك مع الضاحكين ولو كانوا في وضع يدعو إلى الضحك منهم والبكاء عليهم. كان ينبغي علي لأكون فرداً لا مشتركاً ناجحاً أن أصفق للبطل منهم ولو كانت بطولته في فظاظة وغلاظة قلب. جربت ذلك مراراً لأمرن نفسي على السماح لها بالقبول بالظلم فما استطعت المضي في طريق الاستخفاف والاستهانة بكرامة الضعفاء فكيف أستطيع السير في الخضوع لأبطال التنفخ والتجبر.
تركتهم في أوقات اللعب غير أني ما تركتهم في أوقات المدرسة لأن أمر اللعب كان يتم بعد الانصراف أما أمر الاستماع إلى أحاديثهم فكان يجري على قرب مني وأنا ضمن المدرسة وهم إذ يلحظونني قريباً منهم لا يبدون أي اهتمام لما كان يجول بفكري من خاطر وأنا إذ أجدهم يثابرون على التلذذ بسخرية بعض الرفاق لا أرى بداً من الابتعاد عنهم وليس لي حرية تركهم إلا إذا انشغلوا بما يجعلهم يغفلون عن تسللي وانعتاقي .
حريتك وأنت صغير لا تعدو أن تكون في لعبة ترغبها ولباس تنتقيه وطعام تأكله وكتاب تطالعه أما حريتك وأنت كبير فهي في اللعبة التي كنت ترغبها ولا تزال وامتنعت عنها مرغماً، وفي اللباس المحبب إليك شكله وزيه ولا يزال، وفي الطعام الذي كنت تأكله بعينيك دون أن تذوقه بفمك غير أنك في مجال القراءة والدرس قد أصبحت بعيداً عما كنت تجده مسلياً لك ومفيداً لأن نفسك لم تعد تهوى من القراءة ما صار دون مستواك ومعلوماتك فالكتاب الذي كان متعذراً عليك قراءته ومطالعته اصبح موجوداً في مكتبتك وليس لك من الوقت ما يمكنك القراءة به وأمامك محتوياته مضافة إليها محتويات أخرى وأخرى بمجلد أكبر وأضخم وأنت به تقرأ وتدرس .
حريتك وأنت صغير قيدتها أحكام وشروط من صنع غيرك واليوم حريتك وأنت كبير تقيدها أيضاً أحكام وشروط ولكنها من صنع نفسك بما آلت إليه من تفهمك لهذه الأحكام فإذا كان تفهمك صحيحاً فإن حريتك تجري في حفظ حقوق الآخرين ليحفظوا لك حريتك أما إذا كان تفهمك خاطئاً فالحرية تفلت منك ولو تابعت اللحاق بها فإذا أمسكت بيدك فهي سريعة الانهزام ولا تطول أبداً في المكث معك.
أحب ألا أرى كسولاً خاملاً أمام عيني لا ينصرف عن وجهي ولا أقدر على الإفلات منه. فحريتي هي في إطباق عيني عن النظر إليه غير أن هذا ليس من سجيتي أن تكون عيني مطبقة لما يملأ فكري من أشياء بحاجة إلى التدقيق والإمعان.
أحب ألا اسمع مهذاراً يبيع بالرخيص المبتذل من كلامه وآرائه فحريتي هي في سد أذني عما يجود به لسانه مما أنا ضنين به بألا اسمعه. غير أن هذا الإغلاق ليس من سجيتي لما أنا مشغول به وأصغي وأتهافت فأجد الرجاء من حيث اليأس والفشل يقومان مقامه. أحب أن أجد الذوق في مكانه بالمأكل والملبس وحسن الجوار فحريتي هي في التلاؤم بين هذه الأذواق المتنافرة غير أن إمكانية القيام بهذه الواجبات بعيدة منالها لذا فإن سجيتي تبقى معطلة مع إشراقة نفسي وابتسامة ثغري وجاذبية المحادثة مع النموذج النشاز. أحب ألا يكون في سمعي وفكري صدى لمعتد جبار ولكاذب خائن ولجاهل أحمق فحريتي أن أحبس هذه الذكريات لتدفن إلى الأبد لا لتتجدد ويتجدد معها حزني وكآبتي فتعود سجيتي على غير ما عرف عنها من البشاشة والمرح . أحب ألا يكون عائقاً لي بما يسمح لي أن أجد واجتهد فأسير في طريق المجدين والمجتهدين فحريتي في الانطلاق محدودة لذا فإن سجية المحبة لها تكون ملتاعة بشوقها المتزايد إلى الإفراج عن تحديدها بما يضيق دائرة النشاط والتقدم.
6/4/1969
__________________________ مجلة أقوال سورية : عدد 27/5/2004
أعطني حريتي لأترك لك سجيتي
كنت وأنا صغير أرى أطفالاً يلعبون في الطريق فأقول في نفسي هل يسمح لي أن ألعب كما يلعبون وهل يسمحون لأنفسهم أن يراهم الناس كما لا اسمح لنفسي أن أتقدم فيهم فلا ألومهم ولا يلومونني إذ رأوني متفرجاً وإذ رأيتهم منطلقين في لعبهم بكل جرأة وسرور.
حاولت ذلك مرة فما وجدتني بعدها قادراً على الاستمرار والمتابعة لأن اللعب عندي كان يتطلب مني أن أضحك مع الضاحكين ولو كانوا في وضع يدعو إلى الضحك منهم والبكاء عليهم. كان ينبغي علي لأكون فرداً لا مشتركاً ناجحاً أن أصفق للبطل منهم ولو كانت بطولته في فظاظة وغلاظة قلب. جربت ذلك مراراً لأمرن نفسي على السماح لها بالقبول بالظلم فما استطعت المضي في طريق الاستخفاف والاستهانة بكرامة الضعفاء فكيف أستطيع السير في الخضوع لأبطال التنفخ والتجبر.
تركتهم في أوقات اللعب غير أني ما تركتهم في أوقات المدرسة لأن أمر اللعب كان يتم بعد الانصراف أما أمر الاستماع إلى أحاديثهم فكان يجري على قرب مني وأنا ضمن المدرسة وهم إذ يلحظونني قريباً منهم لا يبدون أي اهتمام لما كان يجول بفكري من خاطر وأنا إذ أجدهم يثابرون على التلذذ بسخرية بعض الرفاق لا أرى بداً من الابتعاد عنهم وليس لي حرية تركهم إلا إذا انشغلوا بما يجعلهم يغفلون عن تسللي وانعتاقي .
حريتك وأنت صغير لا تعدو أن تكون في لعبة ترغبها ولباس تنتقيه وطعام تأكله وكتاب تطالعه أما حريتك وأنت كبير فهي في اللعبة التي كنت ترغبها ولا تزال وامتنعت عنها مرغماً، وفي اللباس المحبب إليك شكله وزيه ولا يزال، وفي الطعام الذي كنت تأكله بعينيك دون أن تذوقه بفمك غير أنك في مجال القراءة والدرس قد أصبحت بعيداً عما كنت تجده مسلياً لك ومفيداً لأن نفسك لم تعد تهوى من القراءة ما صار دون مستواك ومعلوماتك فالكتاب الذي كان متعذراً عليك قراءته ومطالعته اصبح موجوداً في مكتبتك وليس لك من الوقت ما يمكنك القراءة به وأمامك محتوياته مضافة إليها محتويات أخرى وأخرى بمجلد أكبر وأضخم وأنت به تقرأ وتدرس .
حريتك وأنت صغير قيدتها أحكام وشروط من صنع غيرك واليوم حريتك وأنت كبير تقيدها أيضاً أحكام وشروط ولكنها من صنع نفسك بما آلت إليه من تفهمك لهذه الأحكام فإذا كان تفهمك صحيحاً فإن حريتك تجري في حفظ حقوق الآخرين ليحفظوا لك حريتك أما إذا كان تفهمك خاطئاً فالحرية تفلت منك ولو تابعت اللحاق بها فإذا أمسكت بيدك فهي سريعة الانهزام ولا تطول أبداً في المكث معك.
أحب ألا أرى كسولاً خاملاً أمام عيني لا ينصرف عن وجهي ولا أقدر على الإفلات منه. فحريتي هي في إطباق عيني عن النظر إليه غير أن هذا ليس من سجيتي أن تكون عيني مطبقة لما يملأ فكري من أشياء بحاجة إلى التدقيق والإمعان.
أحب ألا اسمع مهذاراً يبيع بالرخيص المبتذل من كلامه وآرائه فحريتي هي في سد أذني عما يجود به لسانه مما أنا ضنين به بألا اسمعه. غير أن هذا الإغلاق ليس من سجيتي لما أنا مشغول به وأصغي وأتهافت فأجد الرجاء من حيث اليأس والفشل يقومان مقامه. أحب أن أجد الذوق في مكانه بالمأكل والملبس وحسن الجوار فحريتي هي في التلاؤم بين هذه الأذواق المتنافرة غير أن إمكانية القيام بهذه الواجبات بعيدة منالها لذا فإن سجيتي تبقى معطلة مع إشراقة نفسي وابتسامة ثغري وجاذبية المحادثة مع النموذج النشاز. أحب ألا يكون في سمعي وفكري صدى لمعتد جبار ولكاذب خائن ولجاهل أحمق فحريتي أن أحبس هذه الذكريات لتدفن إلى الأبد لا لتتجدد ويتجدد معها حزني وكآبتي فتعود سجيتي على غير ما عرف عنها من البشاشة والمرح . أحب ألا يكون عائقاً لي بما يسمح لي أن أجد واجتهد فأسير في طريق المجدين والمجتهدين فحريتي في الانطلاق محدودة لذا فإن سجية المحبة لها تكون ملتاعة بشوقها المتزايد إلى الإفراج عن تحديدها بما يضيق دائرة النشاط والتقدم.
6/4/1969
__________________________ مجلة أقوال سورية : عدد 27/5/2004
تعليق