الآية رقم (41)
{قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار}
قوله تعالى{قال رب اجعل لي آية{ {جعل{ هنا بمعنى صير لتعديه إلى مفعولين. و{لي{ في موضع المفعول الثاني. ولما بشر بالولد ولم يبعد عنده هذا في قدرة الله تعالى طلب آية - أي علامة - يعرف بها صحة هذا الأمر وكونه من عند الله تعالى؛ فعاقبه الله تعالى بأن أصابه السكوت عن كلام الناس لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه؛ قاله أكثر المفسرين. قالوا: وكذلك إن لم يكن من مرض خرس أو نحوه ففيه على كل حال عقاب ما. قال ابن زيد: إن زكريا عليه السلام لما حملت زوجه منه بيحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا، وهو مع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله تعالى؛ فإذا أراد مقاولة أحد لم يطقه.
قوله تعالى{إلا رمزا{ الرمز في اللغة الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين واليدين؛ وأصله الحركة. وقيل: طلب تلك الآية زيادة طمأنينة. المعنى: تمم النعمة بأن تجعل لي آية، وتكون تلك الآية زيادة نعمة وكرامة؛ فقيل له{آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام{ أي تمنع من الكلام ثلاث ليال؛ دليل هذا القول قوله تعالى بعد بشري الملائكة له. {وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا}مريم: 9] أي أوجدتك بقدرتي فكذلك أوجد لك الولد. واختار هذا القول النحاس وقال: قول قتادة إن زكريا عوقب بترك الكلام قول مرغوب عنه؛ لأن الله عز وجل لم يخبرنا أنه أذنب ولا أنه نهاه عن هذا؛ والقول فيه أن المعنى اجعل لي علامة تدل على كون الولد، إذ كان ذلك مغيبا عني. و{رمزا{ نصب على الاستثناء المنقطع؛ قاله الأخفش. وقال الكسائي: رمز يرمز ويرمِز. وقرئ {إلا رمزا{ بفتح الميم و{رمزا{ بضمها وضم الراء، الواحدة رمزة.
في هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام وذلك موجود في كثير من السنة، وآكد الإشارات ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر السوداء حين قال لها: (أين الله)؟ فأشارت برأسها إلى السماء فقال: (أعتقها فإنها مؤمنة). فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة الذي يحرز الدم والمال وتستحق به الجنة وينجى به من النار، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك؛ فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة، وهو قول عامة الفقهاء. وروى ابن القاسم عن مالك أن الأخرس إذا أشار بالطلاق إنه يلزمه. وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق. وقال أبو حنيفة: ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف، وإن شك فيها فهي باطل، وليس ذلك بقياس وإنما هو استحسان. والقياس في هذا كله أنه باطل؛ لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته. قال أبو الحسن بن بطال: وإنما حمل أبا حنيفة على قوله هذا أنه لم يعلم السنن التي جاءت بجواز الإشارات في أحكام مختلفة في الديانة. ولعل البخاري حاول بترجمته {باب الإشارة في الطلاق والأمور{ الرد عليه. وقال عطاء: أراد بقوله {ألا تكلم الناس{ صوم ثلاثة أيام. وكانوا إذا صاموا لا يتكلمون إلا رمزا. وهذا فيه بعد. والله أعلم.
قال بعض من يجيز نسخ القرآن بالسنة: إن زكريا عليه السلام منع الكلام وهو قادر عليه، وإنه منسوخ بقوله عليه السلام: (لا صمت يوما إلى الليل). وأكثر العلماء على أنه ليس بمنسوخ، وأن زكريا إنما منع الكلام بآفة دخلت عليه منعته إياه، وتلك الآفة عدم القدرة على الكلام مع الصحة؛ كذلك قال المفسرون. وذهب كثير من العلماء إلى أنه (لا صمت يوما إلى الليل) إنما معناه عن ذكر الله، وأما عن الهَذَر وما لا فائدة فيه، فالصمت عن ذلك حسن.
قوله تعالى{واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار{ أمره بألا يترك الذكر في نفسه مع اعتقال لسانه؛ على القول الأول. وقد مضى في البقرة معنى الذكر. وقال محمد بن كعب القرظي: لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا بقول الله عز وجل{ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا{ ولرخص للرجل يكون في الحرب بقول الله عز وجل{إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا}الأنفال: 45]. وذكره الطبري. {وسبح{ أي صل؛ سميت الصلاة سُبْحَة لما فيها من تنزيه الله تعالى عن السوء. و{العشي{ جمع عشية. وقيل: هو واحد. وذلك من حين تزول الشمس إلى أن تغيب؛ عن مجاهد. وفي الموطأ عن القاسم بن محمد قال: ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي. {والإبكار{ من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.
الآية رقم (42)
الآية رقم (42)
{وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين}
قوله تعالى{إن الله اصطفاك{ أي اختارك، وقد تقدم. {وطهرك{ أي من الكفر؛ عن مجاهد والحسن. الزجاج: من سائر الأدناس من الحيض والنفاس وغيرهما، واصطفاك لولادة عيسى. {على نساء العالمين{ يعني عالمي زمانها؛ عن الحسن وابن جريج وغيرهما. وقيل{على نساء العالمين{ أجمع إلى يوم الصور، وهو الصحيح على ما نبينه، وهو قول الزجاج وغيره. وكرر الاصطفاء لأن معنى الأول الاصطفاء لعبادته، ومعنى الثاني لولادة عيسى. وروى مسلم عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام). قال علماؤنا رحمة الله عليهم: الكمال هو التناهي والتمام؛ ويقال في ماضيه {كمل{ بفتح الميم وضمها، ويكمل في مضارعه بالضم، وكمال كل شيء بحسبه. والكمال المطلق إنما هو لله تعالى خاصة. ولا شك أن أكمل نوع الإنسان الأنبياء ثم يليهم الأولياء من الصديقين والشهداء والصالحين. وإذا تقرر هذا فقد قيل: إن الكمال المذكور في الحديث يعني به النبوة فيلزم عليه أن تكون مريم عليها السلام وآسية نبيتين، وقد قيل بذلك. والصحيح أن مريم نبية؛ لأن الله تعالى أوحى إليها بواسطة الملك كما أوحى إلى سائر النبيين حسب ما تقدم ويأتي بيانه أيضا في {مريم{. وأما آسية فلم يرد ما يدل على نبوتها دلالة واضحة بل على صديقيتها وفضلها، على ما يأتي بيانه في {التحريم{. وروي من طرق صحيحة أنه عليه السلام قال فيما رواه عنه أبو هريرة: (خير نساء العالمين أربع مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد). ومن حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون). وفي طريق آخر عنه: (سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم فاطمة وخديجة). فظاهر القرآن والأحاديث يقتضي أن مريم أفضل من جميع نساء العالم من حواء إلى آخر امرأة تقوم عليها الساعة؛ فإن الملائكة قد بلغتها الوحي عن الله عز وجل بالتكليف والإخبار والبشارة كما بلغت سائر الأنبياء؛ فهي إذا نبية والنبي أفضل من الولي فهي أفضل من كل النساء: الأولين والآخرين مطلقا. ثم بعدها في الفضيلة فاطمة ثم خديجة ثم آسية. وكذلك رواه موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية). وهذا حديث حسن يرفع الإشكال. وقد خص الله مريم بما لم يؤته أحدا من النساء؛ وذلك أن روح القدس كلمها وظهر لها ونفخ في درعها ودنا منها للنفخة؛ فليس هذا لأحد من النساء. وصدقت بكلمات ربها ولم تسأل آية عندما بشرت كما سأل زكريا صلى الله عليه وسلم من الآية؛ ولذلك سماها الله في تنزيله صديقة فقال{وأمه صديقة}المائدة: 75]. وقال{وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين}التحريم: 12] فشهد لها بالصديقية وشهد لها بالتصديق لكلمات البشرى وشهد لها بالقنوت. وإنما بشر زكريا بغلام فلحظ إلى كبر سنه وعقامة رحم امرأته فقال: أنى يكون لي غلام وامرأتي عاقر؛ فسأل آية؛ وبشرت مريم بالغلام فلحظت أنها بكر ولم يمسسها بشر فقيل لها{كذلك قال ربك}مريم: 21] فاقتصرت على ذلك، وصدقت بكلمات ربها ولم تسأل آية ممن يعلم كنه هذا الأمر، ومن لامرأة في جميع نساء العالمين من بنات آدم ما لها من هذه المناقب. ولذلك روي أنها سبقت السابقين مع الرسل إلى الجنة؛ جاء في الخبر عنه صلى الله عليه وسلم: (لو أقسمتُ لبرَرْت لا يدخل الجنة قبل سابقي أمتي إلا بضعة عشر رجلا منهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى ومريم ابنة عمران). وقد كان يحق على من انتحل علم الظاهر واستدل بالأشياء الظاهرة على الأشياء الباطنة أن يعرف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) وقوله حيث يقول: (لواء الحمد يوم القيامة بيدي ومفاتيح الكرم بيدي وأنا أول خطيب وأول شفيع وأول مبشر وأول وأول). فلم ينل هذا السؤدد في الدنيا على الرسل إلا لأمر عظيم في الباطن. وكذلك شأن مريم لم تنل شهادة الله في التنزيل بالصديقية والتصديق بالكلمات إلا لمرتبة قريبة دانية. ومن قال لم تكن نبية قال: إن رؤيتها للملك كما رؤى جبريل عليه السلام في صفة دحية الكلبي حين سؤاله عن الإسلام والإيمان ولم تكن الصحابة بذلك أنبياء والأول أظهر وعليه الأكثر. والله أعلم.
تعليق